دمشق: أسعار القبور الباهظة تزيد الرعب من الموت

القبور الجماعية «أمنية» من لا يمتلك ثمن قبر مستقل

سوريون يحفرون قبورا بمدينة أعزاز استعدادا لاستقبال ضحايا قبيل قصف متوقع على المدينة (رويترز)
TT

تباهت سيدة عجوز بأن وحيدها الذي يعمل في نجارة المفروشات، قد صنع لها تابوتا أنيقا منذ ثلاث سنوات وقد كلفه أكثر من ثلاثين ألف ليرة، أي ما يعادل حينها 600 دولار، وقالت السيدة بفخر «خبأ التابوت في الورشة بعد تغليفه بعناية.. الآن صار يساوي أكثر من ستين ألفا». وأردفت «ما نفع التابوت إذا لم أدفن في مدفن العائلة بحمص؟».

كلام السيدة العجوز المتحدرة من عائلة حمصية وتعيش في دمشق منذ عقود، كان في مجلس عزاء أقيم لجارتها المسنة الراحلة، ولكن ذويها لم يتمكنوا من شراء قبر لها في مقبرة الدحداح في شارع بغداد وسط دمشق، ليس فقط لغلاء ثمنه، بل لأن عائلتها اكتشفت أن المدفن القديم الخاص بعائلة جدتهم الدمشقية قد بيع لعائلة أخرى منذ عشرين عاما. وبما أن والدها عربي ومتزوجة بعربي، كانت الأولوية لدفنها في بلد الزوج، لكن السفر كان صعبا ومعقدا، لذا فكروا في شراء قبر جديد في دمشق، إلا أن مشكلة أخرى ظهرت حين علموا أن القبر الذي سيتم شراؤه قد تكون ملكيته عائدة لعائلة أخرى ومهمة، ولدى الاستفسار عن إمكانية ظهور أصحابه قيل إنه «احتمال وارد جدا ويحصل عادة وحين ذاك يمكن رفع دعوى قضائية والقضاء يحدد ملكية القبر لمن تذهب، فإذا خسروا القضية يتم نقل الرفات»!! وأمام هذا الواقع لم يتبق لعائلة المتوفاة سوى اتخاذ قرار بدفنها في مقبرة الغرباء في ريف دمشق، حيث ما زال سعر القبر هناك يتراوح بين 15 - 20 ألف ليرة، لكن عقبات أخرى ستظهر بسبب الأوضاع الأمنية، حيث تنتشر على الطريق إلى تلك المقبرة المجموعات القتالية التابعة للجيش الحر وأيضا مجموعات تابعة لقوات النظام، وتدور اشتباكات عنيفة هناك. وبعد مساعٍ حيثية لدى الجانبين سمح لثلاثة أشخاص فقط بأخذ الجثمان إلى المقبرة أي سيارة واحدة فقط، والتي ترتب عليها التوقف عدة مرات بسبب الاشتباكات وكاد الثلاثة أن يلحقوا بالمتوفاة إلى الدنيا الآخرة، لولا رحمة الله. وبعد أن كاد المشاركون في الدفن، يلاقون الموت شخصيا عادوا إلى دمشق في حالة ذهول استمرت لعدة أيام.

السيدة العجوز التي كانت تسمع مجريات ما حصل لجارتها روت كيف أن ابنها اهتم بالتحضير لرحيلها وأنها بدورها هيأت كفنها وجمعت مبلغا من المال لتكاليف الجنازة كي لا تثقل كاهل ابنها، ولكن بعد ما سمعته عن أسعار القبور، وأيضا عدم إمكانية دفنها بمسقط رأسها بسبب الأوضاع الأمنية، قالت ساخرة ربما «أفضل حل أن يقضي المرء في انفجار ويتبعثر جثمانه فلا يحمل هم الحصول على قبر». وبما أنها تنتمي للطائفة المسيحية التي تدفن الميت مع التابوت، تابعت بحسرة «سأقول لابني أن يبيع الصندوق.. أولاده أحق بثمنه في هذا الظرف العصيب لأنه لو باع البيت لن يكفي ثمنا لقبر في مدفن المسيحيين في باب شرقي» قالت ذلك، وتابعت: «منذ نحو أسبوعين توفي قريب لنا في القصاع وقد كلفهم شراء قبر في مدفن باب شرقي أكثر من مليون ومائتي ألف ليرة سورية (نحو 13 ألف دولار)، وكأن الميت يشتري جناحا له في قصر فرساي». وأملت العجوز من ربها أن يمد بعمرها أو تقضي في «انفجار» كلام العجوز أضحك المعزيات وتفتحت قرائحهن على رواية القصص المضحكة - المبكية في الوقت ذاته، حول الموت المنتشر في سوريا.

رانية. ع توفي زوجها بسكتة قلبية مؤخرا. قالت إن كل المعزين تقريبا كرروا عليها نفس السؤال «كيف استشهد؟» وقالت «عندما أخبرهم بأنه توفي بشكل طبيعي كانوا يعبرون عن دهشة لا تخلو من حسرة حينا لأنه ليس شهيدا، ومن حسد حينا آخر لأنه وجد من يخرج بجنازته ودفن في قبر مكانه معروف» وتهز رأسها متحسرة «لم يدفن في قبر يليق به بل أخذته إلى مقبرة الغرباء لعدم توفر المال».

أحمد. ق يعيش في دمشق ويتحدر من إدلب. قتل ابن عمه جراء سقوط قذيفة على منزله في حلب ويقول: «ثلاثة فقط شاركوا في جنازته لم يتمكن أحد من عائلتنا من الوصول إلى جثمانه، والأصعب من ذلك قيل لنا إنهم لم يجدوا ساقه التي قطعت جراء القصف وبعد الدفن عثر على الساق وتم دفنها وحدها».

قصص الموت في سوريا كثيرة ومحزنة ولعل الهاجس الأكبر بالنسبة لغالبية المسنين من النازحين إلى دول الجوار أو في الداخل، هو الخوف من الموت بعيدا عن مسقط الرأس. أم عبد الرزاق (78 عاما) من حمص نزحت إلى القلمون مع زوجها (90 عاما) وعائلة ابنها الصغير تقول: «أصلي كل يوم طالبة من ربي ألا أموت بعيدا عن مسقط رأسي». أما في مسقط رأسها في حمص وريفها وغالبية المناطق الساخنة وبعد استهداف المقابر بسبب تحول جنازات الشهداء إلى مظاهرات غاضبة ضد النظام، أقيمت مقابر جديدة في مناطق بعيدة عن مرمى نار قوات النظام، وغالبا الدفن فيها مجانا، أما الجنازات فتقتصر على بعض المقربين جدا إن سمحت الظروف الأمنية أما في حال كان القصف والاشتباكات مستمرا فغالبا يقتصر على شخصين أو ثلاثة يتولون كل المهام من غسل وصلاة ودفن.

لكن الأمر مختلف في المدن الكبيرة ولا سيما العاصمة دمشق التي يتراوح سعر القبر في مقابر المسلمين فيها بين 600 - 800 ألف ليرة، أي بين 6 أو 8 آلاف دولار. سعر الدولار نحو 94 ليرة، وهو رقم باهظ بالنسبة لدخل السوريين، وبالأخص في ظل الأزمة الاقتصادية والأمنية، ويعود ارتفاع أسعار القبور إلى أن الطلب تضاعف خلال العامين الماضيين بسبب ارتفاع وتيرة القتل، بالإضافة للموت كمدا جراء جلطات قلبية أو دماغية، في حين أن عدد مقابر دمشق ومساحاتها محدودة ومكتظة، ما رفع الأسعار على نحو فاحش، فبعدما كان سعر القبر يتراوح بين 20 - 40 ألف أي نحو أربعمائة دولار. وبحسب السعر الحكومي في مكاتب دفن الموتى فإن أفضلها يجب ألا يتجاوز العشرين ألف ليرة، تضاعفت عشرات المرات، دون أن يطرأ أي تغيير على قرارات الحكومة بهذا الخصوص والتي لا يلتزم بها أحد، منذ صدور قرار رقم 43/م الصادر عن مجلس محافظة دمشق سنة 1971م. وحسب القرار فسعر القبر العادي 5000 ليرة لكل هياكل القبور ومن الأعلى يكون السعر 2500 ليرة للقبر البلوك مع شاهدة وجرن والقبر الموزاييك تكلفته نحو 10 آلاف ليرة وقبر الحجر تكلفته نحو 14 ألف ليرة وقبر الرخام نحو 16 ألف ليرة، وهناك بعض التكاليف التي لا تتجاوز ألف ليرة، ليكون المجموع في حدود 17 ألف ليرة. لكن آخر قبر تم بيعه في مقبرة وسط دمشق كان نحو سبعمائة ألف، أما في مقبرة المسيحيين بباب شرقي فكانت تكلفة القبر مليونا ومائتي ألف ليرة، وسعر الدرج في المدفن يتراوح بين مائتي ألف ومائتين وخمسين ألفا وهو مصمم على النمط الغربي، ويفضله ذوي الدخل المحدود وأيضا من الغرباء من الذين ينتوون نقل الجثمان إلى مسقط رأسه لاحقا، ويضاف إلى ذلك تكاليف مراسم التشييع كإقامة ووليمة على روح الراحل، وفتح صالة للعزاء مع تقديم قهوة.

ربما هذا ما يجعل تلك السيدة العجوز ترى في الموت تفجيرا، والدفن في قبر جماعي، حلا مريحا للجميع بمن فيهم النظام وحكومته التي أهملت قضية المقابر، لتتراكم مشكلاتها على مدى عقود طويلة، لتصبح اليوم مع انفجار التوترات والتأزم الاقتصادي، هاجسا أول للجميع، حيث لم يتم توسعة المقابر أو تخصيص مساحات جديدة خارج المدينة فغالبية المقابر تتوسط مناطق حيوية ومكتظة كحي المهاجرين وشارع بغداد والمدينة القديمة مقابر تاريخية وأثرية، لضمها رفات مئات من الأولياء والشخصيات الدينية والتاريخية والثقافية الهامة على الصعيدين العربي والعالمي. سواء من أبناء دمشق أو من الذين أقاموا فيها، ودفنوا بأرضها. ولم يتم لغاية اليوم العناية بها كما تستحق كجزء من إرث وتاريخ المدينة، وتركت لتكتظ فيها القبور ولتضيع رفات الأجداد في ازدحام رفات الأحفاد على مدى عقود. مع أن الحكومة السورية وعدت أكثر من مرة بمنح أراض لتوسعة المقابر في ريف دمشق، وإنشاء مقابر جديدة في منطقة كفرسوسة إلا أنها ظلت مشاريع مؤجلة كمستقبل بلاد سلبت فيها راحة المرء حيا وميتا.