الدمشقيون يحيون حفلات الأعراس نهارا وفي الخفاء

صالات الأفراح في مرمى النار

TT

أرخى نبأ مقتل ثلاث سيدات وجرح نحو عشر أخريات في صالة أفراح بمنطقة المزرعة التي تعد من المناطق الهادئة وسط العاصمة السورية، بظلال ثقيلة على الأجواء الدمشقية. قذيفة الهاون المجهولة المصدر كانت من بين ثلاث قذائف سقطت واحدة منها على صالة أوسكار بالاس في نادي الوحدة، وأخرى على مبنى الدبس السكني شرقي التجارة أي بموقع قريب من مكان سقوط القذيفة الأولى وثالثة نزلت في حي الشيخ خالد.

وحدث ذلك عند الساعة الثانية والنصف من عصر يوم السبت الماضي. ولم يكن مستغربا في الأوساط الدمشقية أن يكون ذلك التوقيت هو أيضا موعد لحفلة عرس، بعدما تغيرت مواعيد الأعراس من المساء إلى الظهيرة نتيجة الأوضاع الأمنية، ومع ذلك لم تنج حفلات الأعراس التي تقام بصمت وبالخفاء عن الشارع العام من قذائف مجهولة ترمى بعشوائية على نحو مفاجئ في مناطق غير متوقعة.

وعندما سمعت منار. س من جارتها خبر سقوط قذيفة على صالة فيها حفلة عرس نسائية قالت: «منذ أكثر من عام لم ألب دعوة عرس أو أي مناسبة، فالخروج من البيت لم يعد آمنا، كما بات من المخجل الذهاب إلى صالون التجميل لتصفيف الشعر والمكياج، بينما البلد يدمر ونحن نقتل». وبدورها، شاركتها جارتها الرأي، قائلة إن زوجها يمنعها من «الذهاب إلى الحفلات» لأنه يخشى عليها وعلى «بناته الشابات من الخطف، إذا ما ظهرن بالشارع بكامل أناقتهن». وتتابع: «كنا نخشى من الخطف والآن علينا الخوف من القصف على الصالات».

تلك المخاوف وانعدام الأمن في العاصمة دمشق بعد حلول الليل، تغير إيقاع المدينة، فأقلع الدمشقيون عن السهر نهائيا، أما حفلات الأفراح والأعراس التي تقام في الصالات العامة في النوادي والفنادق، فبعد أن كانت تبدأ عند الثامنة مساء لتمتد إلى ما بعد منتصف الليل، وأحيانا كثيرة حتى ساعات الفجر الأولى، باتت تبدأ عند الثانية بعد الظهر لتنتهي عند السادسة مساء. وعدا بعض صالات الفنادق الكبرى لم تعد صالات الأفراح عموما تستقبل أي حفل بعد السادسة مساء بسبب توتر الأوضاع الأمنية. كما لم يعد موكب سيارة العروسين المزينة بالبالونات والورود يجوب شوارع العاصمة بعد انتهاء الحفل مع إطلاق أبواق السيارات، مهما كانت الساعة متأخرة، وباتت السيارات تتسلل بصمت تام إلى حيث الصالة، وتحضر معظم المدعوات بملابس عادية وفي الصالة بعضهن تبدلن ملابسهن بما يتناسب مع حفل صغير يقتصر على المقربين.

وحكت نهلة. ح (45 عاما) وهي من أسرة ثرية، عن زفاف ابنة أخيها، والذي أقيم في فندق وسط العاصمة، بدت نهلة بائسة وحزينة وهي تتحدث عن الحفل، تقول: «هذه ليست أعراسنا.. جاءت العروس إلى الفندق ببنطلون جينز وفي غرفة بالفندق صففت شعرها وارتدت فستانا أبيض بسيطا جدا، ودخلت الصالة من دون زفة وطنة ورنة، وكأنها تقوم بعمل غير مشروع، حتى طوق الألماس الذي جرت العادة أن يهديه العريس لها كان طوقا مقلدا حرصا على مشاعر الآخرين، في ظل الضائقة المالية التي يعاني منها غالبية الناس، وأيضا خوفا من احتمال الخطف والسرقة». وعن أجواء الفرح تقول: «لم يكن هناك أي أثر للفرح حتى المدعوون كانوا يبتسمون مجاملة، ومعظم الأحاديث عن أحوال البلد والقتل والخطف». وتتابع نهلة القول: «أفراحنا مثل أتراحنا باتت تقتصر على المقربين جدا».

إلا أن المسألة الأهم التي أشار إليها أبو خالد هي احتمال تعرض العروس أو العريس للمضايقات أو للاختطاف عند الحواجز، إذ إن مظاهر الفرح باتت تثير أحيانا سخط الآخرين، وبالأخص الشبيحة والجنود المرابطين في مناطق ريف دمشق والمعرضين للخطر بشكل دائم، وكذلك المسلحون من عصابات السلب والنهب، وقد حصلت أكثر من حادثة اختطاف لعرسان شباب أثناء توجههم إلى الصالة، ولم يطلق سراحهم إلا بعد دفع الفدية، كما تعرضت أكثر من عروس كانت بثوب الفرح للمضايقة وتم انزلها عند الحاجز للتفتيش سيارتها تفتيشا دقيقا خشية أن يكون ذلك خدعة لتمرير أسلحة وغيرها بحسب ما يزعم الجنود عند الحاجز. لهذا يقول أبو خالد: «الأسلم للعروسين وأهلهما أن يأتوا إلى الصالة بملابس عادية ومن دون أي مظاهر وفي الصالة يلبسون ملابس الفرح». لكن أبو خالد يرى في ذلك «ترفا» والأفضل أن يتم الزفاف في البيت و«بصمت ودون أي حفل» توفيرا للمال وأيضا مراعاة لمشاعر المحزونين.

وخلال العام الأخير تراجعت بنسبة 70 في المائة حفلات الأعراس في الأماكن العامة، كما غابت بشكل شبه كامل مظاهر الأعراس والاحتفالات عن الشارع العام، جراء توتر الأوضاع وتنامي الخوف من سقوط قذائف عشوائية أو استهداف التجمعات المدنية. بالإضافة إلى انعدام الأمن ليلا، واحتلال الشوارع من قبل قوات الجيش والأمن والشبيحة من جانب، ومقاتلي «الجيش الحر» من جانب آخر، في حين يتحرك بنشاط وحرية عصابات خطف وقتل في مختلف أرجاء العاصمة والريف وفي كل الأوقات.

وقال أبو خالد إنه عقد قران ابنه الوحيد في المحكمة بحضور شاهدين فقط ووالد العروس، ولم يكن على استعداد لعيش حالة قلق كي يقيم له حفل عرس مع أنها الفرحة التي انتظرها طوال عمره. ويضيف: «تخليت عن هذا الحلم كرما لمشاعر أهالي الشهداء وكرما لبلدنا الجريح».

سفيرة. م (50 عاما) لا تتفق مع رأي أبو خالد وقالت إنها ستفعل المستحيل لتحتفل بزفاف ابنتها الصغرى على ابن خالتها الشهر المقبل. تقول: «صحيح، الفرح لن يكون له طعم، ولكن ما ذنب ابنتي لأحرمها من ارتداء فستان عرس، الحياة يجب أن تستمر.. لن نقبل الاستسلام للموت». لكن سفيرة التي تبدي حماسة لإقامة حفل زفاف تؤكد أن كل المظاهر ستكون داخل جدران الصالة. تقول ذلك ثم يتراجع حماسها بعد أن تتذكر حادثة يوم السبت وسقوط قذيفة على المدعوات في صالة الأفراح لتقول: «الله المعين.. قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا».