ماجدة فقدت ابنها في الثورة وتروي حكايتها مع وعود «القصاص من القتلة»

أم طارق: كان يحب الفيسبوك وأكل المحشي ومات بالرصاص في «جمعة الغضب»

والدة طارق تتحدث لـ«الشرق الأوسط» عن ابنها الذي قتل في ثورة 25 يناير 2011 (تصوير: عبد الله السويسي)
TT

«هو معي دائما وأشعر أنه لم يفارقني وما زلت أبكي عليه في كل لحظة لحين القصاص من قتلته.. اللهم ارحم ابني وجميع الشهداء»، بهذه الكلمات استقبلتنا والدة طارق مجدي، الذي قتل بالرصاص أثناء ثورة «25 يناير»، التي راح ضحيتها أيضا نحو 818 شهيدا، غالبيتهم من الشباب. وعلى الرغم من مرور عامين على تلك الأحداث، ما زالت أم طارق والمئات من ذوي قتلى الثورة يطالبون بالقصاص من رموز النظام السابق، غير قانعين بالتعويضات المالية والمعاشات الاستثنائية التي صرفتها لهم الحكومة.

في حارة متواضعة يطلق عليها «الدرب الجديد» أمام مسجد علي الجنيدي، وعلى بعد أمتار قليلة من ميدان السيدة زينب الشعبي الذي تتناثر في شوارعه وأزقته بنايات ذات طراز قديم تشم فيه رائحة القاهرة الشعبية ببساطة أهلها وملامح وجوههم السمراء الطيبة، تعيش أسرة طارق (24 عاما)، في المنزل رقم «4» بالطابق الأخير.

«الشرق الأوسط» زارت منزل الأسرة والتقت بوالدته ماجدة محمد، وذلك بعد عامين من مقتله في ميدان السيدة زينب وهو في طريقه لميدان التحرير يوم «جمعة الغضب» 28 يناير (كانون الثاني) عام 2011.

الشقة لا تتعدى مساحتها 62 مترا مربعا تتكون من غرفتين، ذات أثاث بسيط جدا، جدرانها متهالكة، وآثار دماء طارق ما زالت حمراء كما هي في غرفته (مترين × مترين تقريبا) تضم جهاز كومبيوتر على منضدة متهالكة ومقعدا قديما و«كنبة» كان ينام عليها، دون أن يعلم أنه سيفارقها مبكرا. الهدوء يخيم على الشقة. الأم تعيش كأنها بلا روح، وإذا تحدثت عن فقيدها تنهمر الدموع من عينيها. تقول: «أبكي كلما تذكرت ابني الشهيد ويوم وفاته.. أتذكر يوم عيد الأم، وكيف كان يحتفي بي.. لن أنساه أبدا فهو معي في كل لحظة».

تقول الأم ماجدة: «كنت سعيدة بمولد طارق، واعتبرته تعويضا من الله، بعد أن مات ابني الكبير محمد فور مولده، خاصة أن طارق كان آية من الجمال»، لكنه أصيب يوم جمعة الغضب بطلق ناري نافذ في الرقبة، أودى بحياته.

وتذكر أم طارق كيف قابلت الرئيس المصري محمد مرسي ونائب مرشد «الإخوان» خيرت الشاطر، وطلبوا منها تأييد مرشح «الإخوان» للرئاسة، وتعهدوا باستعادة حق ابنها، لكنها قالت إنه حتى الآن لم يأخذ الرئيس مرسي حق الشهداء كما وعدنا أكثر من مرة، سواء وهو مرشح أثناء المنافسة لانتخابات الرئاسة، أو بعد أن أصبح رئيسا.

حالة أسرة طارق، الذي لم يتبق منه غير اسمه المكتوب في أوراق شهداء الثورة، تشبه أحوال كثير من الأسر المصرية؛ كل ما تتمناه وتكافح من أجله «لقمة.. ونومه هنية»، كما تقول والدته ماجدة. حارة «الدرب الجديد» التي تعيش فيها أسرة طارق تشبه آلاف الحواري المصرية التي تتكدس فيها المنازل القديمة البسيطة.

وطارق نفسه يشبه المئات ممن فقدوا أرواحهم في الثورة. وتقع الحارة في حي السيدة زينب، أحد أحياء القاهرة العتيقة، الذي اشتق اسمه من وجود جامع السيدة زينب فيه، ويعد من أهم الأحياء التي تبعد عن ميدان التحرير بنحو كيلومترين، حيث تكثر فيه المطاعم الشعبية التي تجتذب كثيرا من المشاهير، خاصة على وجبة السحور في شهر رمضان، كما يوجد بالمنطقة «قلعة الكبش» الشهيرة وجامع أحمد بن طولون التاريخي. ويتفرع من ميدان السيدة زينب شوارع لأسمائها مكانة خاصة عند القاهريين القدامى، مثل «الكومي» و«السد» و«البغالة» و«زين العابدين» و«فم الخليج» و«الصليبة».

وعبر هذه الشوارع انطلق طارق، وشقيقاه الآخران، مع الصباح وراء حلم التغيير، وانخرط في مظاهرات كانت منطلقة من ميدان السيدة زينب في طريقها إلى ميدان التحرير في يوم «جمعة الغضب»، أي بعد يومين من انطلاق شرارة الثورة يوم 25 يناير، احتجاجا على الأوضاع المعيشية والسياسية والاقتصادية والفساد وكبت الحريات. لكن طارق لقي حتفه بعد صلاة العصر، ولم يشاهد التلفزيون مع ملايين المصريين لحظة إعلان البيان الذي قرر فيه الرئيس السابق التخلي عن سلطاته للجيش. وتتذكر والدة طارق تفاصيل مشاركة ابنها في أحداث الثورة، قائلة: «ذهب يوم 25 يناير إلى ميدان التحرير، وعنّفته وقتها، وقلت له: لماذا تذهب إلى التحرير؟ لكنه رد بلا تردد والابتسامة تعلو شفتيه، وقال: سوف أذهب أيضا يوم 28، فلا داعي للخوف، لأنها مجرد مظاهرات سلمية، وحتى لو أصبت بطلقة فهي مطاط لا تحدث أكثر من خدش في الجسد»، لكنه عاد إليها محمولا.. مجرد جثة تنزف دما من طلقات الرصاص. لقد لفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يتبق من آثاره غير لون دمه على الجدار المجاور لـ«الكنبة» التي ينام عليها في الغرفة الصغيرة. والغريب أن آثار دماء طارق لا تزال على الحائط بلونها الأحمر بجوار سريره كما هي بعد عامين من وفاته. وتقول الأم: «حين تسلمنا جثته كانت الدماء تسيل منها بشكل كبير، بعد أن وضعناه في حجرته، لدرجة أنها غطت الجدار».

تجلس ماجدة وهي ترتدي عباءة سوداء بسيطة، على نفس «كنبة» ابنها، وتقول: «طارق لم يكن له علاقة بالسياسة، ولم ينضم لأي حزب، وحال البلد والظلم بعد فصله من عمله في مترو أنفاق القاهرة دفعاه للسخط على نظام حسني مبارك».

كانت تشعر بالخوف على طارق، وطلبت منه أن يلغي حسابه من على «فيس بوك»، خوفا من القبض عليه، لكنه «تظاهر فقط بأنه فعل ذلك لكي يطمئنني». وتذكرت ماجدة أن ابنها لم يدعُها للنزول إلى ميدان التحرير يوم «25 يناير»، بل ذهب مع أشقائه أحمد وعمرو ومصطفى، قائلة: «عشية يوم 27 مساء ظللت أتسامر مع طارق وإخوته حتى الفجر نتسلى ونضحك، ولم يخطر ببالي أنها ستكون آخر ليلة أرى فيها ابني، وفي يوم الجمعة 28 يناير، استيقظ طارق الساعة التاسعة صباحا، وأخذ حماما وحلق ذقنه استعدادا للنزول لميدان التحرير، وفي العاشرة أحضر شقيقه الإفطار وأفطرنا وشرب معي الشاي وجلسنا نتحدث».. وقال لي: «سوف أنزل أصلي الظهر في مسجد الجنيدي القريب من البيت، وبعدها سأذهب للتحرير».

كان هذا اليوم هو اليوم الذي عرف باسم «جمعة الغضب».. حدثت موجة اعتقالات لشباب الثورة، ومع بداية الساعات الأولى لليوم تم قطع خدمة الإنترنت والاتصالات عن جميع أنحاء مصر، وبعد صلاة الجمعة، خرجت مظاهرات لرفض سياسة القمع والرعب.

وعادت والدة طارق تتذكر أحداث يوم (جمعة الغضب)، قائلة: «ذهب طارق لمشاركة الشباب في مظاهرة ميدان السيدة زينب أولا، لكي يتوجهوا بعد ذلك إلى ميدان التحرير، وسمعنا دوي طلقات رصاص شديدة ودخان القنابل غطى السماء، وعرفت من أحد جيراني أن رصاص الشرطة، وصل إلى الأدوار العليا لبعض المنازل.. وقبلها كنت قد شاهدت من الشرفة الشرطة تطارد الشباب وكانوا يختبئون في مسجد الجنيدي. شعرت وقتها بالقلق وقلبي قُبض، وطلبت من والد طارق أن يذهب ليحضره هو وإخوته».

وفي يوم «جمعة الغضب» أطلقت قوات الأمن القنابل المسيلة للدموع بكثافة لمنع المتظاهرين من الوصول إلى ميدان التحرير والميادين الكبرى في مصر، كما أطلقت القوات الأمنية الرصاص المطاطي على المتظاهرين، إلا أن حشود المحتجين واصلت تظاهرها، وتمركز مئات الألوف في ميدان التحرير، مطلقين شعار «ارحل.. ارحل» لمبارك ونظامه.

في ذلك اليوم، ومع ازدياد ضراوة المواجهات في الشوارع، لم تستبعد والدة طارق أن يكون رجال الشرطة استهدفوا ابنها، قائلة: «طارق أصيب بطلق ناري نافذ في الرقبة، وتم أخذ هاتفه الجوال الشخصي، حيث قام بالتقاط كثير من الصور أمام قسم شرطة السيدة زينب، بالإضافة إلى صور كان قد صورها في ميدان التحرير يوم 25 يناير».

وتابعت والدة الشهيد طارق: «قالوا لي إن طارق في غرفة العمليات بالمستشفى، فسجدت وأخذت أصلي وأدعو أن أراه على قيد الحياة».

وتابعت أم طارق قائلة: «عرفت بخبر مقتل ابني من جار لنا، أسرعت إلى الشارع بملابس البيت حافية القدمين، ولم أجده وقتها في ميدان السيدة زينب، وواصلت الجري في الشارع حتى وصلت لمستشفى أحمد ماهر القريب، ثم وسط المدينة، لأجد أعدادا كبيرة من المصابين والقتلى.. وكل الناس في حالة خوف وهلع».

وتضيف: «بعد أن عرفنا أنه فارق الحياة رفض والده تركه في المستشفى، فأخذه الشباب على (ترولي) - سرير حديدي يوجد في المستشفيات - وهم يدفعون السرير أمامهم سيرا على الأقدام من المستشفى حتى المنزل، لنضع جسده في غرفته التي لم يكن يغادرها أبدا». وما زال الكرسي الذي كان يجلس عليه طارق لساعات أمام الكومبيوتر كما هو.

ماجدة، أو أم طارق، كما تحب أن يناديها جيرانها، تروي لحظاتها مع ابنها منذ ولادته وكيف أنه كان أقرب أشقائه الثلاثة إليها، تقول: «كان حنونا.. كنت أحلم بيوم تخرجه وزواجه، فبعد حصوله على بكالوريوس معهد التعاون وإعفائه من التجنيد، فرحت به وشعرت أن حلمي أوشك على التحقق». وتضيف: «يشهد سكان الحارة والسيدة زينب كلها أن طارق كان (بلسما)، وكان أول شاب في حارة الدرب الجديد يهتم بالحاسب الآلي، فكان يقوم بشراء الأجهزة وتجميعها للجيران دون أي مقابل».

وتقول أم طارق: «كانت أمنيته أن يكون اسما كبيرا في عالم الكومبيوتر، وأنا كنت قد حددت ملامح زوجة المستقبل له، وعندما خطب شقيقه أحمد إحدى الفتيات سألت طارق: متى ستخطب رفيقة العمر وزوجة المستقبل؟ فقال: حين أجد فرصة عمل وحين أتمكن من الادخار للحصول على شقة».

حاولت أم طارق أن تحبس دموعها، لكنها لم تتمالك نفسها وأجهشت بالبكاء.. التقطت أنفاسها، وتماسكت، وهي تتذكر كيف كانت تصنع له طعامه المفضل «المحشي» (آكلة شعبية مصرية شهيرة)، ورفضت بعد موته الوقوف في المطبخ لطهي الطعام.

وتابعت أم طارق، ماجدة، قائلة: «الرئيس مرسي قالبنا قبل أن يُنصب رئيسا، وقال لي بالحرف: (دم الشهداء في رقبتي)، وكان معه الشاطر الذي قال لي أيضا: (مرسي سيأتي لك بحق ابنك). وقابلت مرسي مرة ثانية في جولة الإعادة لانتخابات الرئاسة، وطلب منا الوقوف معه، وبعدما أصبح رئيسا لم يتصل بنا، لكن علمت أن أهالي الشهداء زاروه في قصر الاتحادية الرئاسي، وطلب منهم صور الشهداء ووعدهم بالقصاص، لكن لم يفعل شيئا ذا شأن أيضا».

وبرأت محكمة جنايات القاهرة في 29 ديسمبر (كانون الأول) عام 2011، 4 ضباط وأمين شرطة من قسم السيدة زينب، المتهمين بقتل طارق و4 آخرين والشروع في قتل 6 آخرين من المتظاهرين بحجة وجود بلطجية وسط المتظاهرين. وشاهدت المحكمة في بداية الجلسة 5 تسجيلات فيديو للأحداث احتوت على مشاهد لمقتل شابين أمام قسم شرطة السيدة زينب منهم طارق. لكن والدته قالت: «تم الطعن على الحكم».

وتتابع أم طارق أيضا تطورات القضايا المماثلة الخاصة بقتل المتظاهرين أثناء الثورة، التي حكم فيها على الرئيس السابق ووزير داخليته بالسجن مدى الحياة، إلا أن محكمة النقض قضت يوم 13 من الشهر الحالي، بقبول الطعن الذي تقدم به مبارك، وأمرت بإعادة محاكمة جميع المتهمين في القضية. وأصدر النائب العام المستشار طلعت عبد الله قرارا يوم 10 من الشهر الحالي بتشكيل هيئة «نيابة حماية الثورة» لتجميع القضايا المتعلقة بثورة يناير تحت مظلة هيئة واحدة، من أجل تسهيل مهمتها في محاولة معرفة من قام بقتل المتظاهرين في ثورة 25 يناير. وتتابع أم طارق مثل هذه الأنباء، وتقوم بالتواصل مع ذوي القتلى الآخرين، للشعور بأن هناك أملا في يوم للقصاص ممن قتل ابنها وأبناء الآخرين. تقول: «أقابل بين حين وآخر أمهات وذوي الشهداء هذا يحدث باستمرار.. ولن نترك حقنا».

ولا توجد أرقام تفصيلية حول ما تم صرفه من تعويضات لأسر الشهداء، على الرغم من أن الحكومة أسست صندوقا لصرف تعويضات للمصابين وذوي الشهداء. وتقول الأم ماجدة: «إذا لم يفعل مرسي شيئا سوف نفعل نحن»، وتابعت: «الحكومة صرفت لنا تعويضين؛ 30 ألف جنيه (الدولار يساوي نحو 6.60 جنيه) من القوات المسلحة، ثم 70 ألف جنيه العام الماضي، بناء على توصية مجلس الشعب (البرلمان)، وتم تخصيص معاش لي بمبلغ 1000 جنيه ومثله لوالده، والآن وعدونا بتأمين صحي شامل في المستشفيات وركوب المواصلات العامة بالمجان»، مشيرة إلى أن دخل الأسرة الشهري يعادل 2000 جنيه (نحو 330 دولارا)، لكنها قالت إن الإنفاق على أبسط متطلبات الحياة يحتاج إلى مبلغ أكثر من ذلك. وقالت: «كان أملي أن يجد طارق مجال عمل لينفق على البيت، لكنه لم يعد معنا.. الله يرحمه». وتضيف أم طارق: «أنا لا أريد أن يسقط مرسي كما يطالب البعض، أنا أريد الإنصاف والقصاص، أما بالنسبة للحكومة فهي لم تكرمنا ولم تمنحنا فرصة لأداء فريضة الحج والعمرة، كما قيل». وتزيد ماجدة وهي تشعر بالأسى قائلة إن «الذي كرم أسر الشهداء بعض الجمعيات الأهلية.. لقد وعدنا المسؤولون بتسمية حارة (الدرب الجديد) باسم حارة (الشهيد طارق مجدي)، ولم يحدث».