في محطات الوقود.. اشتباكات واعتقالات وضرب ورشى

أزمة البنزين الخانقة تدفع السوريين للتفكير في استبدال الحمير والدراجات بالسيارات

جانب من طابور طويل للسيارات أمام محطة وقود المجتهد وسط دمشق
TT

بعد انتظار 5 ساعات للحصول على بنزين ركن عمر.ب سيارته قريبا من محطة وقود الأزبكية في دمشق وعاد إلى منزله في حي القصور سيرا على الأقدام. كان الوقت قد قارب منتصف الليل وخلت الشوارع من المارة، ما عدا الجنود على الحواجز، آملا أن يعود إلى محطة الوقود فجرا علّه يتمكن من الحصول على بضعة ليترات من البنزين.

وتعيش مدينة دمشق منذ نحو أسبوعين أزمة بنزين خانقة، تضاف إلى الأزمات الأخرى منذ أكثر من عام في الغاز المنزلي والمازوت اللازم للتدفئة والمخابز ووسائط النقل العام، ناهيك عن أزمة الكهرباء التي تنقطع لساعات طويلة قد تصل في بعض المناطق لعدة أيام.

وفي جولة على محطات الوقود في دمشق لوحظ أن الكثير من المحطات أغلقت لعدم توفر مادة البنزين والمازوت فيها. وبعضها يعمل لساعات محدودة، حيث يتم بيع ما يصلها من مخصصات بنزين ثم تغلق، لتبقى طوابير بالانتظار ليوم أو أكثر ريثما تأتي المخصصات من مؤسسات الدولة الخاصة بتوزيع الوقود.

وما زاد في تعميق الأزمة انقطاع الكهرباء واضطرار المواطنين وأصحاب المحال لاستخدام المولدات الكهربائية العاملة على البنزين ما زاد الضغط على طلبها. لكن الحكومة التي نفت وجود أي أزمة بنزين، كانت قد تذرعت بالعاصفة الثلجية بأنها سببت انقطاع الطرق وبالتالي صعوبة وصولها، إلا أن العاصفة انتهت وأزمة البنزين استمرت وتفاقمت، فعادت الحكومة لتؤكد مجددا أن الكميات المتوفرة من البنزين في مصفاتي حمص وبانياس تزيد عن حاجة البلاد ويمكن التصدير أيضا.

لكن المشكلة هي في نقل البنزين من حمص وبانياس إلى دمشق وحلب، بسبب توقف النقل عبر القطارات وزيادة خطورة النقل عبر الصهاريج وتعرضها للسرقة والنهب على الطريق، عدا عن كون عملية النقل باتت مكلفة جدا، كما بررت شركة المحروقات «سادكوب» ووزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، التي أكدت أيضا أن تفاقم أزمة البنزين يرجع إلى زيادة الطلب على المادة من قبل المركبات الوافدة من المحافظات الأخرى وخاصة ريف دمشق.

يشار إلى أن احتياجات سوريا من البنزين وصلت إلى 2.35 مليون متر مكعب عام 2010 أي ما يعادل 1.77 مليون طن، تنتج المصافي السورية منها 550 ألف متر مكعب في «مصفاة حمص» بنسبة 23.4 من الاحتياج الكلي، و1/2 مليون متر مكعب تنتجها «مصفاة بأنياس» بنسبة 50 من الاستهلاك، بينما يتم تأمين الباقي والذي تقدر نسبته بـ28 عبر الاستيراد.

وكان لافتا خلال الأسبوع الماضي إعلان الحكومة إنهاء أزمة البنزين خلال أيام وزادت المخصصات لبعض المحطات وخصوصا التابعة للحكومة والموجودة في قلب العاصمة. إلا أن الأزمة استمرت، وباتت طوابير الأشخاص المدنيين الذين يريدون الحصول على 10 أو عشرين ليترا بالغالونات تصطف إلى جانب طوابير السيارات، وتحولت محطات الوقود إلى ساحات حرب، مع تدخل عناصر الأمن والشرطة لتنظيم الدور وتخفيف الازدحام والتدافع والتجاوز، وبدل من ذلك بات هؤلاء يتقاضون الرشاوى من الناس، ويستخدمون الهراوات والكرابيج لإذلال الناس تحت زعم تنظيم الدور ومنع التجاوز، بينما يتغاضون عن تجاوزات الشبيحة الذين يقتحمون المحطة ويملأون سياراتهم ويخرجون دون أن يجرؤ أحد على الوقوف في وجوههم، وإذا حصل ذلك يتم إطلاق النار وتقوم قوات الأمن بالاعتقالات.

وشوهد في أكثر من محطة وسط دمشق مشاجرات عنيفة، اعتقل على أثرها مدنيون لمجرد تذمرهم من الشبيحة، وكذلك العاملون في المحطات، ففي إحدى المحطات اشتبك الشبيحة مع موظفين في محطة وقود حكومية، وحاولت قوات الأمن فض الاشتباك بإطلاق رصاص كثيف بالهواء، جعل الذين كانوا ينتظرون لعدة ساعات يهربون مخلفين ورائهم الغالونات والسيارات.

وفي محطة وقود أخرى قال شاهد عيان إن الشبيحة ولدى دخولهم إلى المحطة صرخوا بأن هناك سيارة مفخخة ستنفجر ما دفع الناس إلى الهرب بسرعة من المكان، ووقف الشبيحة يضحكون وهم يملأون سياراتهم وسيارات أصدقائهم.

عمر.ب وبعد تأكيده لتلك الحوادث وانتشارها كظاهرة في معظم المحطات يقول «تعودنا على التشبيح» ولكن ما يحز بنفسه أنه أضطر لاستهلاك بنزين بـ500 ليرة (نحو عشر ليترات) بحثا عن محطة فيها وقود وعندما وجد محطة مشروع دمر انتظر هناك لثلاث ساعات، فلم يتم بيعه سوى عشرين ليترا فقط. لهذا يرى أن «كل الأزمات التي نعيشها منذ عام تمكنا من التغلب عليها ولو بصعوبة واخترعنا بدائل، لكن أزمة البنزين هي الأصعب وتحديدا في مدينة مثل دمشق لا يمكن التحرك فيها من دون سيارة» ويلفت عمر.ب إلى أنه خلال الأسبوعين الماضيين «أصيبت حركة المدينة بشلل كبير».

ريما.ع، تعيش في ضاحية قدسيا، تقول إنها انتظرت أول من أمس أربع ساعات حتى تحصل على بنزين لسيارتها، بينما انتظر زوجها ست ساعات في محطة أخرى وسط المدينة وحصل على نصف الكمية المطلوبة، وتتابع أنها عرضت سيارتها للبيع لكن أحدا لم يتقدم لشرائها أو حتى للسؤال عن ثمنها، مؤكدة أن «السيارة باتت عبئا ثقيلا».

في الأشهر الأخيرة بات من المألوف في مدينة دمشق مشاهدة طوابير الناس تمتد لمئات الأمتار أمام الأفران ومحطات الوقود ومراكز توزيع الغاز، بل ظهرت مهنة جديدة في ظل هذه الظروف وهي مهنة الوقوف بالدور، لقاء مبلغ من المال، ووجد أشخاص عاطلون عن العمل يقومون ببيع مواقعهم ويرتفع الثمن كلما اقتربوا من كوة المخبز أو مضخة الوقود، وفي الأسبوع الأخير راحت طوابير السيارات تسد شارعين وأكثر في محيط محطة الوقود، بمعدل 400 سيارة. وهناك من ينام في السيارة لليوم التالي بانتظار إما وصول الدور أو وصول مخصصات البنزين للمحطة.

ويحكي أحمد كيف فوجئ بطابور سيارات عند محطة الأزبكية في شارع بغداد وسط دمشق و«معظمها كانت محركاتها مطفئة، وظن بداية أن أصحابها تركوها هناك لكنه فوجئ عندما رأى أن أغلبهم خلد للنوم داخل السيارة»، ويضيف «بعض الذين ينامون داخل السيارات تكون منازلهم في الضواحي، فلا يمكنهم العودة بالسيارات ولا أيضا العودة سيرا على الأقدام، وهناك من يفضل البقاء والانتظار حتى الفجر للحصول على البنزين فور وصوله للمحطة».

كما انعكست أزمة البنزين على سيارات الأجرة التي باتت قليلة ومكلفة جدا، إذ لم يعد هناك من يتقيد بالعداد. وتشير إلى هذا دارين.س (30 عام) التي ركنت سيارتها بجوار مكان عملها في الصالحية لعدم توفر البنزين فيها وأخذت سيارة أجرة بعد انتظار في الشارع لأكثر من نصف ساعة، حيث رفضت أربع سيارات توصيلها إلى منزلها في حي المهاجرين وعندما قبل أحد السائقين توصيلها اشترط أن يكون الأجر 200 ليرة أي ما يعادل دولارين تقريبا، وهو مبلغ باهظ إذا علمنا أن قيمة التوصيل للمسافة ذاتها في الأحوال العادية لا يتجاوز الأربعين ليرة، وعندما احتجت دارين على ذلك مساومة على تخفيض السعر قال لها السائق «أقسم بالله العظيم إني نمت في الكازية حتى أحصل على البنزين».

فالسعر هنا لا تحدده القيمة الحقيقية للمادة بل للوقت المهدور وللعناء والجهد المبذول للحصول عليها. وافقت دارين.س بعد أن قبل السائق بتخفيض الأجر لغاية 150 ليرة، لكنها قالت «إذا استمر هذا الوضع فإن راتبي لن يكفي للمواصلات.. هذا غير معقول.. الاستمرار بالعمل بات مكلفا جدا».

وهذا ما أكده أيضا مناف.ر صاحب منشأة صناعية في ضواحي دمشق في أحد المناطق الهادئة نسبيا والمحاطة بمناطق ملتهبة. ويروي مناف أن نصف العاملين في المنشأة ترك العمل بسبب صعوبة الوصول إلى المنشأة «كل يوم هناك ست ساعات تهدر بالتوقف عند الحواجز، حيث تقلص عدد ساعات العمل من سبع ساعات إلى ثلاث ساعات فقط، ومع تفاقم أزمة فقدان البنزين بات من المستحيل الوصول إلى المنشأة»، لذلك قرر مناف.ر وبعض العاملين لديه «نقل إقامتهم إلى المنشأة بعد تجهيز عدة غرف، بحيث يقضون أربعة أيام في المنشأة وثلاثة أيام في منازلهم».

وفيما كان السوريون يتندرون بنيتهم التخلي عن السيارات كوسيلة للنقل والعودة لركوب الحمير، بات من الجدي تفكير كثير من السوريين لا سيما الشباب باستخدام الدراجات الهوائية للتنقل.