تطور استراتيجيات الجيش الحر خلال الثورة السورية

TT

يؤكد التاريخ العسكري أن الاستراتيجية العسكرية ديناميكية بطبيعتها، وقد تتغير طبيعة الحرب مع المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. التقارب الروسي - الأميركي الأخير وحديث صانعي القرار في واشنطن وموسكو عن أن الحل السياسي هو الحل الأنسب للأزمة في سوريا سيصعب على الجيش الحر مواصلة عملياته الهجومية بالطريقة التي يتبعها الآن، ذلك أن المجتمع الدولي في طريقه لتجفيف منابع التمويل بغية الضغط على المعارضة المسلحة للجلوس على طاولة مفاوضات، وهو ما يحتاج لدق ناقوس الخطر حيال الاستراتيجية العسكرية المقبلة للجيش السوري الحر.

تم تشكيل الجيش السوري الحر في التاسع والعشرين من يوليو (تموز) 2011 بغية حماية المدنيين، وقد اتبع منذ ذلك التاريخ استراتيجيات مختلفة تغيرت وتطورت عبر مراحل الثورة السورية.

الجيش الحر.. بين المنشقين والمتطوعين لم يتملك الجيش الحر هيكلا تنظيما واضحا في بداياته، فقيادات «الحر» والضباط المنشقين من أصحاب الرتب العليا كانوا موجودين في مخيمات تركيا، بينما كان المتطوعون من المدنيين يقاتلون في الداخل السوري. حينئذ لم يكن مسمى الجيش السوري الحر سوى عبارة فضفاضة تضفي شرعية ثورية على كل من يحمل السلاح ليقاتل ضد نظام الأسد أو يحمي المدنيين السوريين.

السابع عشر من نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 كان نقطة تحول في مسار الجيش الحر، حيث شن عناصره أول هجوم على هدف أمني كبير. استهدف الجيش الحر يومئذ مجمعا كبيرا للمخابرات في حرستا بريف دمشق، مما أسفر عن سقوط عشرين قتيلا، مما أثار غضب قوات الأمن في المنطقة ورد فعل انتقامي بحق السكان. من بعد هذه الحادثة كثرت «العمليات النوعية» للكتائب والألوية المنضوية أدبيا تحت جناح الجيش الحر، والتي أضافت إلى هدفها في حماية المدنيين من هجمات الشبيحة استهداف المراكز الأمنية وتأمين الأحياء ذات الكثافة السكانية الكبيرة.

استراتيجية النقاط العمياء حاول الجيش السوري الحر في رمضان 2012 تبني استراتيجية الهجوم المباشر في المواجهة، فأعلن عن انطلاق «معركة دمشق الكبرى»، لكنه سرعان ما تخلى عن الاستراتيجية الهجومية البحتة متبنيا استراتيجية النقاط العمياء. تقوم هذه الاستراتيجية على تجاوز المراكز العسكرية الحساسة واعتبارها كالنقاط العمياء بالنسبة للعين، والالتفات نحو أضعف النقاط والاتجاهات في دفاعات الأسد للوصول بأسرع وقت نحو عمق دفاعات الأسد ومؤخرتها، بهدف إنهاك قوى النظام وليس تحطيمها، على أن يتم تفتيت قوى الأسد وتدميرها على أجزاء مع استغلال الأجناب المفتوحة وطرق الاقتراب غير المتوقعة من العدو أو المدافع عنها بقوات محدودة، والعمل على قطع خطوط الإمداد ومحاور المواصلات. كان الهدف من هذه الاستراتيجية المحافظة على البنية التحتية العسكرية السورية والتخلص فقط من القائمين عليها.

استراتيجية النقاط العمياء للجيش الحر ترتبط بنظرية الاقتراب غير المباشر التي تفيد بأن النصر يتحقق من خلال الانهيار النفسي للعدو، وليس بالتدمير المادي لقواته. هنا لعب الإعلام المتعاطف مع الثورة دورا حاسما في تسليط الضوء على التوسع الأفقي للجيش الحر وإغفال النقاط العمياء. في ريف دمشق ركز ناشطو الثورة تغطياتهم الميدانية على سيطرة كتائب وألوية الجيش الحر على معظم مناطق الغوطة الشرقية، لكنهم في الوقت ذاته أغفلوا تقوقع الجيش النظامي في مراكز عسكرية حساسة مثل مجمع المركبات بحرستا ومطاري السين والضمير وقواعد الدفاع الجوي التي تجنب الجيش السوري الحر الدخول في صدام مباشر معها. الأمر ذاته ينطبق على حلب حيث اتجه الجيش الحر من الريف إلى المدينة تاركا وراءه نقاطا عمياء مثل مطار مينغ وكويرس وكلية المشاة وغيرها من النقاط، لكن لعل المثال الأوضح للنقاط العمياء هو إدلب، حيث أعلنت المحافظة، بريفها على أقل تقدير، منطقة محررة منذ بدايات الثورة على الرغم من تقوقع الجيش النظامي في نقاط مهمة مثل حاجز كفرنبل ووادي الضيف ومطاري أبو الضهور وتفتناز.

استراتيجية الحرب المفتوحة استراتيجية النقاط العمياء كانت مفيدة في فترة زمنية لم يمتلك الجيش الحر خلالها سوى الأسلحة الخفيفة، فكان لزاما عليه خوض معارك عصابات في المدن والأحياء التي يمتلك فيها حاضنة شعبية قوية والتركيز على الحرب النفسية، لكن مع تزايد كسبه للسلاح النوعي الثقلي سواء الوارد من الخارج أو المستولى عليه من مخازن الجيش النظامي، كان لا بد للحر من أن ينتقل إلى استراتيجية أخرى تضمن له البناء على المكتسبات وليس الدفاع عنها. لعل أكبر العلميات التي تمت في هذا المجال هي معركتا ثوار الخنادق والمغيرات صبحا في حلب والمعارك الجارية الآن في داريا ومحيط المقار العسكرية الحساسة في ريف دمشق. وتستلزم استراتيجية الحرب المفتوحة ترك المدن والأحياء الشعبية والتموضع بحشود كبيرة على خطوط التماس المباشر مع النقاط العمياء في معارك كسر عظم. وهذا يعني بطبيعة الحال انحسار المناطق الخاضعة لسيطرة الحر وترك أمور إدارة المدن والأحياء الثائرة لمجالس محلية مدنية. وكانت معركة البنيان المرصوص في محافظة إدلب هي خير مثال على تطبيق الجيش الحر لهذه الاستراتيجية. ناهيك عن الدلالة الرمزية للتسمية المتمثلة بالثبات في المكان وعدم اتباع أسلوب الكر والفر، فإن الكتائب والألوية المشاركة في البنيان المرصوص قررت التخلي عن أسمائها وولاءاتها المناطقية بغية تحقيق غاية أكبر ألا وهي تدمير المراكز العسكرية للنظام وشل حركته.

* الاستراتيجية المقبلة

* يشير الحراك الدولي إلى وجود قرار دولي بتفضيل الحل السياسي على العسكري في سوريا بالشكل الذي يضمن «تماسك الدولة السورية ومؤسساتها»، على حد تعبير جون كيري، خليفة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون. وهذا سيعني بالتأكيد فرض المزيد من القيود على دخول الأسلحة إلى المعارضة السورية، مما يضع مستقبل الجيش الحر بشكل عام واستراتيجيته الحالية في الحرب المفتوحة على المحك إن لم يتم حسم الأمور في أقرب وقت ممكن.