هولاند في مالي اليوم وباريس تشدد على الشفافية في التعاطي مع التجاوزات

خبراء أمنيون يرون أن المرحلة الجديدة في مالي أصعب.. ويحذرون من حرب استنزاف

TT

يصل رئيس الجمهورية الفرنسية فرنسوا هولاند وثلاثة من وزرائه «الخارجية والدفاع والتنمية» إلى مالي في زيارة سريعة تدوم يوما واحدا بعد ثلاثة أسابيع فقط على بدء العملية العسكرية الفرنسية التي انطلقت في 11 يناير (كانون الثاني) الماضي لوقف زحف قوات مقاتلي الشمال باتجاه جنوب البلاد وتحديدا العاصمة باماكو. وبعد أن كان خبر الزيارة متداولا بشكل غير رسمي في الوسط الإعلامي منذ ليل الخميس /الجمعة، أكدت الرئاسة الفرنسية في بيان رسمي ظهر أمس النبأ. وأشارت مصادر الإليزيه إلى أن الوفد الرسمي مقصور على الرئيس ووزرائه وبعض القادة العسكريين وأن وسيلة النقل طائرة فالكون صغيرة وليست الطائرة الرئاسية الرسمية.

وقال هولاند أمس بمناسبة زيارة قصيرة لإحدى الضواحي الباريسية إنه يذهب إلى مالي «للتعبير عن كامل الدعم والتشجيع والافتخار بجنودنا» الضالعين في هذه العملية ومن أجل «تشجيع الأفارقة للالتحاق بنا بأسرع وقت ولنؤكد لهم إننا بحاجة إلى هذه القوة الدولية» التي أنشئت بقرار من مجلس الأمن الدولي في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وحتى مساء أمس، لم تكن الرئاسة الفرنسية قد أذاعت البرنامج الرسمي للزيارة وذلك «لضرورات أمنية» باعتبار أن المجموعات المقاتلة ما زال موجودة على الأراضي المالية ولا يمكن استبعاد رغبتها القيام بعملية من نوع ما تجذب الأضواء باتجاهها. ولذا، فإن الإجراءات الأمنية ستكون صارمة خصوصا في مدينة تومبوكتو التي ستبدأ بها زيارة مالي ومنها الانتقال إلى العاصمة باماكو. غير أن الرئاسة المالية كشفت على حسابها على الشبكة الاجتماعية تويتر أن طائرة هولاند ستحط في مطار سيفاريه «وسط البلاد» حيث سيكون الرئيس المالي ترواري في استقباله ومنها ينتقلان معا إلى تمبكتو وبعدها إلى العاصمة باماكو.

وتذكر زيارة هولاند لمالي بتلك التي قام بها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي إلى ليبيا بعد سقوط نظام القذافي بمعية رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون. لكن أوساط الإليزيه لا تريد أن «تضخم» الزيارة بل تريد أن تكون «علامة تؤكد أن العملية العسكرية الفرنسية قد حققت أهدافها الأساسية» أي إعادة السيطرة على مناطق الشمال والمدن الأساسية وهي غاو وتمبكتو وكيدال فضلا عن استعادة كل المدن الواقعة على مجرى نهر النيجر وقبلها مدينتا موبتي وكونا وسيفاريه وديابالا التي كانت مهددة بالاجتياح من قبل قوات الشمال.

وترى باريس أن العملية العسكرية التي قامت بها خلال 22 يوما نجحت في ضرب من تسميهم «الإرهابيين» أي جماعة أنصار الدين من الطوارق وحركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا وحركة القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي. والأهم من ذلك، فقد قامت باريس بعملية عسكرية «نظيفة» حيث لم تخسر سوى جندي واحد هو ملازم طيار «طوافة» من القوات الخاصة وهي الذراع الضاربة التي استخدمتها قيادة الأركان طيلة الأسابيع الثلاثة. ولعبت القوة الجوية الدور الحاسم في تشتيت مقاتلي الشمال وضرب مراكز تجمعهم ومخازن الوقود والسلاح ومركباتهم واستهداف قوافلهم. كذلك كان واضحا أن باريس التي استفادت لاحقا من مساعدة أميركية - أوروبية ثمينة في قطاعي الاستعلام والرصد الإلكتروني والتنصت والنقل الاستراتيجي وتزويد طائراتها المقاتلة بالوقود جوا، استفادت من دعم إقليمي ودولي سياسي ودبلوماسي كامل حيث لم تقم أي جهة بتوجيه اللوم أو الانتقاد للعملية الفرنسية بما في ذلك من روسيا أو الصين. وعلى الرغم من أن شريكات فرنسا الأوروبيات امتنعت عن تقديم المساعدة الميدانية وإرسال الجنود، فإنها قبلت تمويل القوة الدولية - الأفريقية وإرسال بعثة عسكرية لتدريب أفرادها وتأهيلهم.

غير أن السيطرة على كيدال الواقعة على مسافة 1500 كلم من باماكو لا تعني أن الحرب قد انتهت بل إن مرحلة جديدة قد بدأت قد تكون الأصعب بالنسبة للقوة الفرنسية وللقوات الأفريقية التي تصل ببطء شديد إلى مالي وبالنسبة للقوات المالية نفسها.

وتقدر الأوساط المطلعة في باريس عدد قتلى مقاتلي الشمال بما يزيد على مائة رجل فيما امتنعت باريس وأيضا المجموعات الجهادية عن تقديم أي أرقام. وقال الباحث والخبير الأمني رولان جاكار لـ«الشرق الأوسط» إن عدد مقاتلي الشمال قبل العملية كان يقدر بنحو 2500 رجل بعضهم انتقل إلى بلدان الجوار والبعض يختبئ في المناطق الوعرة والجبلية شمالي مدينة كيدال ومن تبقى في الصحراء الشاسعة التي ما زالت حتى الآن خارج سيطرة القوة الفرنسية أو المالية أو الأفريقية. ويرى جاكار أن «المستقبل في مالي يبدو اليوم غامضا إذ نحن نجهل الاستراتيجية العسكرية التي تريد الحركات الجهادية السير عليها: هل ستقوم بحرب عصابات؟ هل ستحاول العودة إلى المدن؟ هل ستسعى إلى القيام بعمليات خارج مالي في بلدان الجوار في موريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وبلدان أخرى؟ أم ستستهدف الأراضي الفرنسية أو المصالح الفرنسية المنتشرة في أفريقيا؟». وجدير بالذكر أن باريس نشرت وحدات من قواتها الخاصة في النيجر لحراسة مناجم اليورانيوم الاستراتيجية التي تستغلها شركة أريفا الفرنسية الرائدة في القطاع النووي. أما الباحث في شؤون الإرهاب عثمان تزغارت فقد توقع أن تعمد القوات الجهادية إلى «حرب استنزاف» معتبرا أن خطة هذه القوات في الانسحاب من المدن قبل وصول القوات الفرنسية والمالية كانت أفضل تكتيك عسكري لعدم قدرتها على المواجهة المباشرة مع قوات تفوقها تسليحا وقدرات وقوة نارية واستعلامات.. وتوقع تزغارت أن تكون العمليات العسكرية قريبا من الحدود الجزائرية صعبة لأن معالم الحدود غير واضحة تماما ولأن طبيعة الأرض صعبة وبسبب قدرة المجموعات المسلحة على الحركة والتنقل في مناطق تعرفها جيدا. وبرأي الباحثين، فإن الحرب الجديدة التي ستبدأ ستكون بالنسبة لفرنسا ولحلفائها «حرب استعلام» لرصد تحركات هذه المجموعات ولاستهدافها بضربات جوية.

وقالت الخارجية الفرنسية إنه إذا كانت الأهداف العسكرية قد تحققت أو هي على الطريق، فإن ثمة هدفين آخرين متصلين يجب أن يسترعيا انتباه باريس ودول غرب أفريقيا والأسرة الدولية وهما إطلاق الحوار السياسي بين المكونات المالية وخصوصا بين الحكومة المركزية وسكان الشمال وتحديدا الطوارق والثاني هدف التنمية والإغاثة الإنسانية. وتؤكد باريس على أهمية «الحوار السياسي» على الحاجة لإيجاد آلية له والإسراع به مع سكان الشمال الذين «يقبلون التخلي عن العنف ويسلمون بسلامة الأراضي المالية» أي الذين لا يطلبون قيام دولة منفصلة للطوارق. وتعتبر فرنسا أن الحركة الوطنية لتحرير منطقة أزواد «الطوارق» جديرة بأن تحاورها الحكومة بسبب التصريحات التي صدرت في الأيام الأخيرة عن قادتها لجهة عدم المطالبة بدولة انفصالية.

غير أن باريس منشغلة بأخبار التعديات والتجاوزات الحاصلة في المدن التي أعاد الجيش المالي السيطرة عليها. وكان تقريران لمنظمة العفو الدولية ولهيومان رايتس ووتش قد أشارا لتكاثر عمليات الاعتداء والقتل التي يمكن وصف بعضها بأنه جرائم حرب. وفي هذا الإطار قالت الخارجية الفرنسية أمس إنها تريد «الشفافية» ولا تعارض نقل الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية لكنها شرط أن يشمل ذلك كل الانتهاكات التي حصلت منذ بداية يناير 2012 لا أن يحصر فقط بالفترة المنقضية منذ بدء العملية العسكرية. وهي بذلك تريد أن يشمل التحقيق تجاوزات المنظمات الجهادية في المناطق التي كانت تسيطر عليها في السابق. وأكدت الخارجية أن تعليماتها وتوصياتها تشدد على ضرورة احترام قانون الحرب وحقوق الإنسان وأن الأوروبيين سيأخذون هذا الجانب أعين الاعتبار في عملية تأهيل القوة الأفريقية - الدولية.

بموازاة ذلك، تريد باريس العودة إلى مجلس الأمن الدولي عندما يحين الوقت لتحويل القوة الأفريقية إلى قوة حفظ سلام «القبعات الزرق» وتعديل مهمتها ولكن بعد أن يكون قد استتب الأمن في مالي. وتعتبر باريس أن تعديلا في طبيعة القوة الدولية ومهماتها يسير في الطريق الصحيح. وأكد فيليب لاليو، الناطق باسم الخارجية أمس أن فرنسا «تحبذ هذا الأمر من حيث المبدأ وهي جاهزة لتحمل المسؤولية عندما يحين الأوان».