الفقر يتغلغل بعمق وسط الطبقة الوسطى في اليونان

ميسورون «سابقون» ينتظرون في طوابير بطناجرهم لأخذ وجبات الطعام المجانية

عاملة في القطاع الصحي اليوناني تقف قبالة البرلمان في أثينا خلال مظاهرة حتجاجية على إجراءات تقشفية تتسبب في خفض الرواتب والمعاشات (أ.ب)
TT

بات وقوف مواطنين يونانيين كانوا إلى حد قريب محسوبين على الطبقة الوسطى الميسورة، في طوابير انتظار للحصول على وجبة طعام من البلدية أو المؤسسات الخيرية، أمرا مألوفا في البلاد، مما يعكس البعد الكبير الذي بلغته الأزمة الاقتصادية، التي ارتفع بسببها عدد من يعيشون تحت خط الفقر إلى نحو 3,5 مليون شخص من أصل 11 مليونا هم عدد السكان اليونان.

في أحد صفوف انتظار الطعام، وبالتحديد بجانب بلدية أثينا وسط العاصمة، رصدت «الشرق الأوسط» امرأة في العقد الرابع من عمرها تمسك بطنجرة فارغة وتخبئها في كيس بلاستيكي أسود على الرغم من ظهور ملامح الأناقة عليها. بقيت تنتظر حتى جاء الدور عليها وتسلمت طعامها. ولدى الاقتراب منها ومحاولة التعرف عليها، ترددت في الحديث في البداية لكن لانت في الأخير ووافقت على سرد قصتها.

اسمها صوفيا كاريستينو، تسكن في منطقة إيغاليو غرب أثينا، وكانت تعمل مدرسة في الروضة التابعة للبلدية، بعقد عمل موسمي، فيما كان يعمل زوجها، ديميتري، في إحدى شركات البناء الكبرى، التي أغلقت قبل عام بسبب الأزمة المالية.

قالت صوفيا، 37 سنة، إنها وزوجها وابنهما ميخاليس، 8 سنوات، وابنتهما تدعى بنايوته، 6 سنوات، كانوا يعيشون حياة ميسورة جدا، إذ كانت هي وزوجها يتقاضيان راتبين شهريا، كما كانا يعيشان مع والد زوجها قبل وفاته منذ عام واحد، والذي كان يتقاضي هو الآخر معاشا شهريا لا بأس به. وتضيف أنه مع ظهور الأزمة الاقتصادية، فقدت هي عملها، وتم تسريحها من المدرسة التي كانت تعمل فيها، ولم يتم تجديد عقدها السنوي، وبعد ذلك أغلقت الشركة التي كان يعمل فيها زوجها، وباتوا جميعا يعتمدون على معاش والد الزوج، إلى أن توفي وتم قطع معاشه. وتدهور الوضع المادي للأسرة شيئا فشيئا، وأصبحت ظروف المعيشة صعبة، إذ «لم يعد لدينا أي مال لشراء الطعام أو الملابس أو سداد فواتير الكهرباء والمياه»، على حد تعبيرها.

وتواصل صوفيا سرد قصتها بينما بدأت الدموع تتساقط من عينيها، فتقول إننا صرنا في كثير من الأوقات نعيش على ضوء الشموع بسبب قطع السلطات الكهرباء عنا لعدم قدرتنا على سداد الفاتورة، و«عندما يكتشف الجيران والأصدقاء ذلك يساعدوننا في سداد الفاتورة حتى ترجع الكهرباء ثانية». وتتابع قائلة: «أنا في وضع محرج أمام أبنائي، لأنني وزوجي فشلنا في توفير الحياة الكريمة لهما». وتقول إنها تأتي إلى هنا و«أتوسل موزع الطعام حتى يعطيني وجبتين ساخنتين أو ثلاثا، ثم أقوم بوضعهم في الطنجرة هذه (تشير إلى الوعاء الذي معها) وأذهب سريعا إلى المنزل قبل أن يأتي ابني وابنتي من المدرسة، وأمثل أنى قمت بطهي الطعام لهما، حتى لا يشعرا أني أذهب لجلب لهما الطعام من البلدية أو الكنيسة أو من أي مؤسسة خيرية أخرى». وتتابع: «أترقب الإعلان عن مواعيد وأماكن توزيع الطعام وأذهب ولا أتتردد ولا أخجل، وفي كثير من الأحيان لا يعطونني إلا وجبة واحدة».

ثم تتساءل صوفيا ذات الشعر الأصفر الطويل والتي يبدو أنها كانت عيش حياة الترف «لا أعرف من السبب في الحال الذي وصلنا إليه، نحن أم الدولة؟». وتحاول الإجابة فتقول إنها تعتقد أن السبب يعود لفساد المسؤولين في الدولة والحكومات المتعاقبة وسياساتها غير الحكيمة، وأصحاب القرار الذين لا يزالون يزاولون أعمالهم غير القانونية من السرقة والفساد، وتقاضي مبالغ كبيرة من الأموال، فيما يعيش الفقراء والطبقة الوسطى حياة صعبة، على حد قولها.

وتختصر قصة صوفيا حالات عشرات الآلاف من اليونانيين ممن كانوا يعملون في وظائف قارة أو في أجهزة حكومية مثل الشرطة أو الجيش، إلى أن أصابت الأزمة الجميع وتقرر خفض جميع المعاشات بنسب كبيرة جدا تتجاوز النصف أحيانا، أو الذين فقدوا أعمالهم ومنازلهم. وتبدو الفئات الأكثر تضررا تلك التي فقدت منازلها وباتت عاجزة عن سداد مستحقات البنوك أو مؤسسات حكومية أخرى، مما تسبب في تراكم مشكلات اجتماعية وقانونية كبيرة وفضل الكثير ممن وجدوا أنفسهم في هذه الحالات الذهاب إلى السجن، معتبرين أنهم سيجدون خلف الأسوار، على الأقل، قوت يومهم. ووفقا للتقارير، بلغ عدد المشردين في العاصمة أثينا أرقاما قياسية، وكذا تفشي تعاطي المخدرات والجريمة. وأفرزت الأزمة ظاهرة الانتحار بشكل غير مسبوق، نقلت البلاد من كونها صاحبة المعدل الأدنى للانتحار في أوروبا قبل الأزمة، إلى الأعلى في الوقت الحالي.

وتظهر إحصاءات وزارة الصحة أن النفق الاقتصادي المظلم الذي دخلته البلاد وإجراءات التقشف الصارمة التي أعقبت ذلك، أدت إلى زيادة مخيفة في عدد الذين يجدون في الانتحار مهربا أبديا من سوء الحال، وأيضا وجود أكثر من 20 ألف مشرد في وسط أثينا فقط، وكل هذا مع دخول اليونان عامها الخامس على التوالي في ظل ركود اقتصادي.

وعلى الرغم من الوضع الصعب الذي تعيشه مع أسرتها، تعتقد صوفيا، أنها أفضل من آخرين كثيرين. وقالت: «انظر إلى هناك»، مشيرة إلى اثنين من المواطنين يفترشان الأرض في الميدان بالقرب منا. وتابعت: «هذان ليس لديهما منزل، أنا على الأقل ورثت منزلا من أبي وأعيش آمنة مع زوجي وأولادي تحت سقف المنزل، أما هؤلاء وغيرهم الآلاف من الطبقات الفقيرة والوسطى فقدوا منازلهم ويعيشون مشردين في الشوارع والميادين».

كانت صوفيا تروي قصتها، وعيناها تراقبان وصول الحافلة التي ستأخذها إلى منزلها على بعد نحو ثمانية كيلومترات، وفجأة وصلت الحافلة، وقطعت صوفيا حديثها وجففت عينيها من الدموع وذهبت مسرعة، حتى تصل إلى منزلها قبل خروج ابنيها من المدرسة.