عرسال المتمردة تواجه الجيش اللبناني بالسلاح والاتهامات

لا منفذ لها إلا الثورة السورية بحكم وقوعها في محيط شيعي مؤيد للنظام

TT

ملالات عسكرية، وناقلات جند تقفل مداخل بلدة عرسال البقاعية. الحدث الأمني الخطير الذي طرأ على البلدة يوم الجمعة الماضي، حيث قتل ضابط ورتيب بالجيش اللبناني خلال اشتباك مع 80 شخصا من أبناء البلدة، دفعها إلى الواجهة، فاختلف السياسيون اللبنانيون بين وصفها بـ«ضحية الجهات الخفية»، وبين «إمارة الإسلاميين».

غير أن الواقع الذي تم تضخيمه حينا بوصفها «نهر البارد الآخر» (في إشارة إلى معارك مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين بين متشددين إسلاميين والجيش اللبناني)، أو «تنسيقية عرسال» (في إشارة إلى تنسيقيات الثورة السورية) حينا آخر، تنفيه قيادة الجيش اللبناني إذ يؤكد قائد فوج المجوقل، الذي ينفذ عمليات الدهم في البلدة بحثا عن المطلوبين، إن «أهل عرسال أهلنا وهناك مجموعة مطلوبة للعدالة سيتم توقيفها ولدينا لائحة بأسمائهم».

ورغم أن الحملة العسكرية التي ينفذها الجيش اللبناني منذ يوم السبت الماضي أثارت ريبة المراقبين، إلا أن بعض أهالي عرسال «على ثقة بأن البلدة غير مستهدفة، بل المجموعة المعتدية فقط». ويقول أحد أبناء البلدة لـ«الشرق الأوسط» إن الأهالي «واثقون بالجيش اللبناني الذي لن يعاقب البلدة عقابا جماعيا، بل يلقي القبض على المطلوبين»، مؤكدا أن «وجهة نظر معظم أهالي القرية، تقول إن العملية مبررة، مما يجعل مخاوف من يطلون عبر الإعلام غير مبررة».

هذه البلدة التي تحضن 35 ألف نسمة، وتؤيد معظمها تيار المستقبل وسط محيط شيعي، لم تعرف قبل اندلاع الثورة السورية، إلا بأنها مورد لبنان الرئيس بالأحجار الصخرية المستخدمة في بناء القصور. عاش أبناؤها الفقر، مما دفعهم إلى تهريب البضائع إلى سوريا، ومنها مادة المازوت التي حسنت المستوى المعيشي لكثيرين من أبنائها. تعد هذه البلدة الآن، أكبر قرى بعلبك – الهرمل المؤيدة للثورة السورية في البقاع (شرق لبنان)، وتطل على قرى «قارا»، و«حليمة قارا»، و«رنكوس»، و«فليطا» داخل الحدود السورية، وتتمتع بحدود واسعة مع سوريا على مسافة أكثر من 70 كيلومترا، تبدأ من مشاريع القاع شمالا وصولا إلى أطرافها الجنوبية وهي من أكبر غرود المنطقة على السلسلة الشرقية، حيث واصل أبناؤها التهريب إلى سوريا، واستبدلوا المازوت بتهريب السلاح للمعارضين السوريين. كما اتهمت القرية بأنها تؤوي المعارضين السوريين، ومنهم إسلاميون متشددون. وتعرضت مشاريع القاع التي تتبع عرسال إداريا، لعمليات عسكرية محدودة نفذها الجيش السوري النظامي أثناء ملاحقته فارين من داخل حدوده، كما شهدت خمسة توترات أمنية على خلفية صدام بعض من أبنائها ومعارضين سوريين مع القوى الأمنية والجيش اللبناني.

ويشعر أهالي البلدة بأن «شيئا ما تغير في لبنان» منذ انطلاق الأزمة السورية، وتأييد الأهالي لحق الشعب السوري في الثورة على نظام الرئيس بشار الأسد. اليوم «نشعر أننا معزولون عن لبنان بحكم وجودنا في محيط شيعي يؤيد حزب الله والنظام السوري»، يقول أحد أبنائها لـ«الشرق الأوسط»، موضحا أن «المنفذ الوحيد لأبناء البلدة منذ الانقسام العامودي في لبنان بين الشيعة والسنة على خلفية مقتل الرئيس رفيق الحريري، هو سوريا، وأيد أبناء القرية الثوار بحكم روابط الدم والعشرة والجغرافيا».

إزاء هذا الواقع، تمردت عرسال على قرار الحكومة اللبنانية النأي بنفسها، واصطدم أبناؤها مع القوى الأمنية اللبنانية عدة مرات. ويوضح مصدر مسؤول في البلدة لـ«الشرق الأوسط» أن الصدام الأول مع الجيش «حدث عشية عيد الاستقلال في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011، حين جاءت قوة من الجيش لاعتقال أحد المطلوبين، واصدم الطرفان، لكنها لم تسفر عن قتلى أو جرحى». وأضاف: «المناوشات حصلت بين أبناء البلدة وخصوصا في مشاريع القاع مع الجيش السوري، حيث كان الطفل خالد وليد الحجيري، 11 عاما، آخر الضحايا». وأشار إلى أن الاشتباكات مع الفهود في قوى الأمن الداخلي «وقع قبل أسابيع حين أوصلت سيارة من عرسال جريحا سوريا معارضا إلى البلدة لنقله إلى المستشفى، وحاولت قوة الفهود منعه على الحاجز، فحصل اشتباك بالأيدي، أدى إلى تأخير وصول الجريح إلى المستشفى، فمات قبل أن يصل».

ولا يخفي أبناء القرية أنها «استضافت بعض المعارضين الفارين من الجيش النظامي ونازحين من سوريا». لكنهم في الوقت نفسه ينفون أن تكون القرية «نقطة انطلاق لعمليات الجيش السوري الحر». وإذا كانت هناك «بعض الاستثناءات»، يضيف مصدر من القرية، فإن ذلك «لا يعني أن عرسال باتت إمارة إسلامية، أو ملجأ للثوار السوريين».

لكن آخرين يبررون مساعدة الثوار «التي بقيت في إطار الاتهامات غير المستندة إلى دلائل، ولم يثبتها أحد». يقول أحد المقيمين في البلدة: «تأييد الثورة تهمة لا ننكرها، وإيواء النازحين هو واجب علينا، وحق لكل سوري، لكن أيا من أبناء القرية لم يقاتل في سوريا، واقتصر الدعم على التأييد». ويشير إلى أن «الاتهامات بأن عرسال قاعدة انطلاق للعمليات، تخفي نيات لاستهدافها، ومنعها من تأييد الثورة السورية».

ويسري ذلك الاعتقاد على عدد من أبناء عرسال، ومنهم مصدر بارز قال لـ«الشرق الأوسط» إن «الحملة العسكرية استهداف للقرية»، رغم أن مدير المخابرات في الجيش اللبناني العميد أدمون فاضل، أكد في دردشة مع الصحافيين أن «خالد حميد الذي كمنت له دورية من الجيش لاعتقاله، وقتل في العملية، كان مطلوبا بقضية خطف الأستونيين، ويؤويه في عرسال رئيس الخلية التي نفذت عمليات تفجير ضد الجيش اللبناني في طرابلس والبحصاص والعبدة»، كما أنه «كان في عداد المجموعة التي هاجمت حاجزا تابعا للفهود (القوة الضاربة في قوى الأمن الداخلي) في عرسال في الآونة الأخيرة، بل كان له الدور الفعال في هذا الهجوم». وأشار فاضل إلى أن حميد «مطلوب دوليا لارتباطه بعدد من الجهاديين وجبهة النصرة في سوريا».

وفي المقابل، ينفي أحد مخاتير القرية تبليغ الحميد بأي مذكرة توقيف قضائية. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «كل ما نعرفه عن حميد أنه يمتلك ورشة لخراطة الحديد والمعادن في البلدة، وهو ناشط على مستوى الثورة السورية»، مشيرا إلى أنه «قبل وفاته بثلاثة أيام، أخرج جريحا سوريا من داخل الأراضي السورية إلى لبنان، وعبر به مسافة 6 ساعات قبل أن يفارق السوري حياته متأثرا بجراحه».

وفي حين علم أن اللائحة بأسماء المطلوبين للعدالة تتضمن 78 اسما، يؤكد نائب رئيس بلدية عرسال أحمد فليطي لـ«الشرق الأوسط» أن «اسمين ممن تضمنتهما اللائحة، هما متوفيان، أحدهما يدعى محمد حسن حميد الذي قتل قبل 7 أشهر برصاص الجيش النظامي السوري، كذلك حسن أحمد حميد المسجون لدى القوى الأمنية اللبنانية منذ 15 يوما»، موضحا أن الأسماء التي تتضمنها اللائحة «تشير إلى استهداف للناشطين على مستوى الثورة السورية، والعاملين في إغاثة النازحين، فضلا عن أن أهل خالد الحميد وأقاربه وجيرانه ورئيس البلدية وعائلته مطلوبون».

في هذه الأثناء، ينفذ الجيش اللبناني عمليات واسعة داخل البلدة، بعدما أحكم تطويقها من مدخلها، ومنع غير القاطنين فيها من الدخول إليها. لكن الوضع الميداني أمس، تبدل عما قبله. يقول فليطي إن الإجراءات الأمنية أمس «خففت مقارنة بما سبقها»، مثنيا على مبادرة أطفال من البلدة «وزعوا ورودا على عناصر الجيش الموجودين في البلدة».

وبدوره، طمأن الجيش اللبناني أبناء البلدة من داخلها، إذ أكد قائد فوج المجوقل في الجيش اللبناني جورج نادر أمس، وهو القوة التي تنفذ عمليات الدهم وتلاحق المطلوبين، أن «أهل عرسال أهلنا وهناك مجموعة مطلوبة للعدالة سيتم توقيفها ولدينا لائحة بأسمائهم»، مشددا على أن «أهالي عرسال كلهم أخلاق، ومن شنع بعناصر الجيش لا يشبه أبناء البلدة».