مارسيليا تسعى لتحسين صورتها وإبعاد شبح الجريمة والفقر

ثاني أكبر مدينة فرنسية تهدف لجلب زوار أكثر بمناسبة الاحتفاء بها كعاصمة للثقافة الأوروبية

راجلون يمرون أمام الجدار الزجاجي لـ«متحف حضارات أوروبا والبحر الأبيض المتوسط» في مارسيليا (نيويورك تايمز)
TT

في أحد المباني هنا بالقرب من الميناء القديم، يقوم المهاجرون القادمون من المستعمرات الفرنسية السابقة، ومعظمهم من شمال أفريقيا، بالاستحمام والخضوع للتفتيش قبل الدخول إلى فرنسا. وكانت هذه المباني التي تشبه جزيرة إيليس، مهجورة لمدة 40 عاما، ثم تعرضت للهدم عام 2009، قبل أن يتم تجديدها لتشهد افتتاح أحد المعارض في الأول من مارس (آذار) المقبل في إطار احتفالات مارسيليا باختيارها عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2013.

حصول مارسيليا على هذا اللقب، الذي يمنح سنويا من الاتحاد الأوروبي منذ عام 1985، يصل في أهميته إلى الفوز بدورة الألعاب الأولمبية، لأنه سيعطي مارسيليا، التي تعد ثاني أكبر مدينة فرنسية، فرصة لإعادة تشكيل نفسها، واستعادة مكانتها كميناء مهم للغاية وإعادة رسم صورتها من مفترق طرق فقير ومضطرب يعاني من الجريمة والفساد والتدهور الاقتصادي منذ نهاية الاستعمار إلى وجهة سياحية جذابة يتم الاستمتاع فيها بالشمس والمأكولات البحرية والبحر والثقافة. ويتمثل الهدف بكل تأكيد في تحويل مارسيليا إلى مقصد للسياح، وليس مجرد مركز تجاري.

ويهدف هذا المعرض، الذي تقدر ميزانيته بنحو 135 مليون دولار تم جمعها من تمويلات عامة وخاصة، إلى زيادة عدد زائري المدينة بنحو مليوني زائر وانتشال الاقتصاد من حالة التدهور التي يعاني منها. وقال جاك فيستر، وهو رئيس الغرفة المحلية للتجارة ومدير الجمعية التي تشرف على تنظيم معرض «مارسيليا بروفانس 2013»: «إنه صدمة وزلزال ثقافي. لقد خلقنا عرضا ثقافيا فريدا من نوعه في أوروبا. نحن نسعى لربط فرنسا وأوروبا والبحر المتوسط معا».

وبشكل أكثر تحديدا، قال فيستر: «نسعى لأن نجعل أهل مارسيليا قادرين على استعادة ساحل البحر والميناء القديم»، الذي ينفق عليه ملايين الدولارات بالفعل من أجل إعادة تأهيله مرة أخرى.

وكانت المدينة قد أنشأت 10 مواقع جديدة للأنشطة الثقافية، وغالبيتها من المباني القديمة المهجورة التي تم تطويرها لاستخدامها في أغراض أخرى، مثل محطة الصرف الصحي ومصنع شاسع لصناعة التبغ محاط بجدران عليها رسوم غرافيتي وعرض للفن المعاصر يتطرق لموضوع الهجرة والمنفى.

وعلاوة على ذلك، أقامت المدينة بعض المباني المذهلة الجديدة، مثل «متحف حضارات أوروبا والبحر الأبيض المتوسط»، والذي أقيم بتمويل من الدولة ومقرر افتتاحه في يونيو (حزيران) المقبل. وهناك أيضا مركز «فيلا البحر الأبيض المتوسط» الدولي للحوار حول البحر الأبيض المتوسط وشعوبه.

وتجري حاليا الاستفادة بشكل جيد من بعض المتاحف القائمة بالفعل في مدينة مارسيليا، مثل «لا فياي شاريتيه»، وهو مأوى للفقراء ومستشفى يعود للقرن السابع عشر، وتم إنقاذه من الانهيار منذ عدة سنوات وتحويله إلى ساحة للعرض لكي يظهر «بقايا» الصور الأبيض والأسود التي التقطها المصور الشهير جوزيف كوديلكا للآثار اليونانية والرومانية من جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط.

وقالت زينب سديرة، وهي مصورة فوتوغرافية ومصورة فيديو ولدت في فرنسا لأبوين جزائريين، إن المدينة «تحاول التخلص من الأفكار المعروفة عنها بأنها البوابة إلى الشرق وإلى الجزائر والاستعمار. لقد تم إهمال مارسيليا لفترة طويلة من قبل الفرنسيين، وهو ما جعلها تشتهر بالجريمة أكثر مما تشتهر بالثقافة. مارسيليا أمامها فرصة الآن لوضع نفسها على الخريطة».

ويركز عمل سديرة في مارسيليا، والذي يدور حول موضوع الهجرة والضياع، على حركة الناس حول البحر الأبيض المتوسط، وهو الموضوع الرئيسي لهذا العام في مارسيليا، التي تحاول تبني التعددية الثقافية دون إخفاء الآثار السيئة الناجمة عن الاستعمار.

وقال نيكولا مازيت، وهو مالك معرض «أوتيل ديه غاليفي» الفني الذي أقيم على مساحة كانت في السابق منزلا خاصا في منطقة «إيكس أون بروفانس»: «العيش معا يعد أمرا حيويا للغاية في الحياة الأوروبية، وتعد مارسيليا مثالا جيدا على ذلك. مارسيليا بروفانس 2013 يذكرنا بتراثنا الأوروبي المشترك، وهو نتيجة للتمازج الحضاري في المنطقة الممتدة من أثينا حتى غرناطة».

تأمل مارسيليا أن تصبح مكانا يربط بين السواحل الشمالية والجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، تلك المدينة ذات الجذور اليونانية والرومانية القديمة، التي تأسست عام 600 قبل الميلاد، والتي تحاول أن تحتضن تجارب المهاجرين إليها من إيطاليا وشمال أفريقيا. يذكر أن نحو 30 في المائة من سكان مارسيليا البالع عددهم 850 ألفا، من المسلمين.

وقال عمدة المدينة جان بيير غودين: «مارسيليا خلقت نفسها عبر التاريخ وهي تضم سكانا من الدول الأجنبية. نحن نتميز بالقرب من بلدان المغرب العربي، وبأننا مدينة متعددة الثقافات، ويجب أن تظل كذلك».

أقامت يولاند باكوت معرضا عن التاريخ والأعمال الفنية لثقافات البحر الأبيض المتوسط، بدءا من العصور القديمة وحتى العصر الحديث، في «جي وان»، الذي كان مستودعا ضخما على شاطئ البحر وتحول إلى مركز للمعارض. وقالت باكوت: «التاريخ يعيد نفسه مع الربيع العربي، ونحن نريد مواجهة الماضي والحاضر معا».

في عام 2004، قرر مجلس مدينة مارسيليا التقدم بطلب للحصول على لقب مدينة الثقافة الأوروبية لعام 2013، وبالفعل تم منحها هذا اللقب في سبتمبر (أيلول) 2008. ومنذ ذلك الحين ومارسيليا تبذل جهودا محمومة لجمع الأموال والاستعداد لهذا الحدث.

وكانت نتيجة هذه الجهود تطوير عشرات المواقع في مارسيليا والبلدات القريبة، بما في ذلك المناطق الراقية مثل آرل وإيكس أون بروفانس (المشهورة بمتحف غرانيت الذي يضم معرضا لـ15 فنانا من 14 دولة مختلفة). وسوف تستمر الاحتفالات لمدة عام كامل، وسيكون هناك نحو 400 معرض وحفلة موسيقية، فضلا عن الكثير من الأحداث الأخرى، بما في ذلك المسيرات بالقوارب والرحلات، ومهرجان للطعام في الشارع لمدة خمسة أيام.

وخلافا لمعظم المدن الكبرى في فرنسا، تفتقر مارسيليا إلى الطبقة الوسطى الكبيرة التي يمكنها دعم الفن والثقافة. وفي حديثه لصحيفة «لوموند» الفرنسية، قال دومينيك بلوزيت، وهو مدير لكثير من المسارح في مارسيليا: «الأشخاص الناجحون يغادرون، لأنهم لا يفتخرون بتلك المدينة».

تأمل المدينة أن تتمكن من تحسين صورتها ودعم اقتصادها وزيادة أعداد السائحين، على غرار ما قامت به مدينة أفينيون عام 2000 ومدينة ليل عام 2004، بعدما تم تصنيفهما على أنهما عاصمتا أوروبا للثقافة. وخلال العام الحالي، تتقاسم مارسيليا اللقب مع مدينة كوسيتش التي تقع في شرق سلوفاكيا، التي تضم كنائس جميلة، وثلاث جامعات ومركزا تاريخيا للمدينة ومصنعا كبيرا للصلب.

وعلى الرغم من ذلك، تتعرض الجهود التي تقوم بها المدينة لانتقادات حادة، فقد شبهت مينا سيف، وهي روائية من مارسيليا ولدت لأبوين مغربيين، الاحتفالات التي تقوم بها المدينة بطبق «السردين» المشهور في دول البحر الأبيض المتوسط، وكتبت في صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية تقول: «من الصعوبة بمكان أن أتعرف على نفسي في هذا الطبق من السردين، الذي يزعمون أنه عاصمة التفكير الصحيح والثقافة الرائعة، على الرغم من أنه تتم إدارتها من قبل مجموعة من البلهاء في حالة من الفوضى».

* خدمة «نيويورك تايمز»