العلاقات الفرنسية ـ التونسية في دائرة التوتر.. مجددا

باريس تعبر عن «القلق العميق» من التطورات في تونس وتسعى لعلاقات «ثقة» من دون «مزايدات»!

TT

دخلت العلاقات الفرنسية - التونسية مجددا في دوامة التوتر على خلفية تصريحات وزير الداخلية مانويل فالس وردة فعل تونس العنيفة تجاه شريكها الأوروبي الأول. ومرة أخرى تتلبد سماء العلاقات بين البلدين، وتتكاثر المؤشرات التي تدل على «الحساسية البالغة» المهيمنة على الأجواء بين تونس وباريس، ما يذكر بما حصل قبل، أثناء ومباشرة بعد «ثورة الياسمين» التي أطاحت بنظام الرئيس زين العابدين بن علي، ووصول حكومة النهضة إلى السلطة في تونس.

تقول مصادر فرنسية إن «الأزمة» التي تسببت بها تصريحات فالس عن «الفاشية الإسلامية المتصاعدة» في عدد من بلدان الربيع العربي، التي ذكر منها مصر وتونس، ليست سوى «المظهر الأخير للقلق العميق» الذي يسيطر على المسؤولين الفرنسيين في تعاطيهم مع الملف التونسي، حيث يرون أن الأمور تأخذ «منحى خطرا». وتريد باريس تحاشي «تكرار الأخطاء» التي ارتكبت خلال عهد ساركوزي. لكنها تلمس مجددا الصعوبة القائمة بين الحرص على عدم التدخل في الشؤون الداخلية لتونس وتحاشي قيام أزمة مفتوحة من جهة، و«واجب التعبير عن موقف» يعكس القيم التي تدافع عنها فرنسا من جهة أخرى. لذا، يبدو العثور على «الطريق الوسطي» صعبا للغاية، خصوصا بعد تطور خطير؛ كاغتيال المحامي شكري بلعيد، أحد رموز المجتمع المدني ومناهضة التيار الإسلامي.

وما يجري اليوم في فضاء العلاقات الفرنسية - التونسية سبق أن حصل مثله إبان «ثورة الياسمين»، حيث «تأخرت» باريس في الوقوف إلى جانبها حتى هروب الرئيس بن علي وسقوط نظامه. وكانت التصريحات التي أدلت بها ميشيل أليو ماري، وزيرة الداخلية وقتها، حيث عرضت «الخبرة الفرنسية» على الحكومة التونسية في الحفاظ على الأمن، موضع استهجان. واعترف المسؤولون الفرنسيون لاحقا بأنهم «لم يفهموا» ما يجري في تونس، وأنهم «فضلوا» الاستقرار على مطلب الحرية.

أليو ماري أجبرت على الاستقالة بعد ذيوع علاقة لها مع أحد المقربين من بن علي، وأعطيت وزارة الخارجية لرئيس الوزراء الأسبق ألان جوبيه، الذي اعتبر الأقدر على التعاطي مع «الربيع العربي»، وقيادة الدبلوماسية الفرنسية في مرحلة دقيقة.

وسعت باريس بعد ذلك إلى التعويض عن الزمن الضائع، فقام الرئيس ساركوزي باستدعاء السفير الفرنسي لدى تونس واستبدل بوريس بوالون به، السفير الشاب الذي سحبه من العراق وأرسله إلى تونس مع مهمة محددة هي «قلب صفحة بن على وفتح صفحة جديدة بين البلدين»، فضلا عن ذلك، عمدت الحكومة إلى إقرار «خطة عمل من أجل تونس» لمواكبة الثورة التونسية ودعم المرحلة الانتقالية. ثم دفع ساركوزي شركاءه في قمة الثمانية في منتجع دوفيل (شمال غربي فرنسا) يومي 26 و27 مايو (أيار) عام 2011 إلى تبني ما سمي «شراكة دوفيل»، أي التزام الثمانية بمساعدة بلدان الربيع العربي (تونس ومصر وقتها) ماليا واقتصاديا وسياسيا، بل إن ساركوزي دعا القائد باجي السبسي، رئيس الحكومة المؤقتة، إلى حضور القمة وعرض حاجات بلاده. وكانت الدعوة بمثابة جرعة دعم للنظام الآخذ بالتكون بعد مرحلة بن علي.

وخلال العامين المنقضيين، أكدت باريس باستمرار وقوفها ودعمها للتحولات في تونس، مذكرة بين وقت وآخر بـ«تيقظها» لما يحصل، وبتمسكها بقبول الأطراف للعبة الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والمرأة وحرية الرأي.. ومن المؤشرات على رغبتها بتوثيق العلاقات مع محميتها السابقة، زيارة رئيس الوزراء حمادي الجبالي إلى باريس في شهر يونيو (حزيران) من العام الماضي، ثم زيارة رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي الرسمية أوساط يوليو (تموز)، حيث حظي باستقبال حار، بل أعطي شرف إلقاء خطاب أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، وهو بذلك يكون الرئيس الأجنبي الـ17 الذي يحظى بهذا التكريم.

ويذكر أن المرزوقي أمضى ثلث حياته، حتى الآن، في فرنسا لاجئا إليها من بطش بن علي، ولم يعد إلى تونس إلا بعد سقوط الأخير.

تقول المصادر الفرنسية إن باريس أرادت أن تكون تونس «واجهة التحول الديمقراطي السلمي في العالم العربي»، وأن تكون «النموذج» النير والجذاب له، بعكس ما حصل في ليبيا، وما هو حاصل اليوم في سوريا.

لكن رغم إرادة الجانبين، كانت تظهر بين الحين والآخر بعض مظاهر التوتر، فالسفير بوالون أثار حفيظة التونسيين بعد أسابيع قليلة من وصوله بسبب الطريقة «الاستعلائية» التي تعامل بها مع إحدى الصحافيات التونسيات. والسفير الحالي فرنسوا غوييت الذي عينته حكومة الرئيس الاشتراكي فرنسوا هولاند مكان بوالون أثار بدوره «نصف أزمة»؛ بسبب الزيارة التي قام بها في 16 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لنقابة الصحافيين المضربين.

وجاء على موقع السفارة على الإنترنت أن غوييت قام بهذه الزيارة «للتعبير عن تمسك فرنسا بحرية التعبير وحرية الصحافيين التي تعد من القيم العالمية التي تقوم عليها سياسة فرنسا في تونس». غير أن الحكومة التونسية رأت فيها دعما للمضربين. وقال وزير الخارجية التونسي رفيق عبد السلام إن ثمة «خطا أحمر لا تقبل تونس بتجاوزه، وهو التدخل بشؤونها الداخلية».

وتأخذ تونس على الوزير فالس ثلاثة أمور؛ الأول: إشارته إلى «الفاشية الإسلامية المتصاعدة»، ومنها في تونس، والثاني: تعبيره عن «أمل» بلاده بانتصار القوى الديمقراطية والعلمانية في الانتخابات المقبلة التي «يتعين على فرنسا دعمها»؛ لأنها «تحمل قيم ثورة الياسمين»، ولأن هذا «لا يعني التونسيين فقط، بل كل الحوض المتوسطي، ومنه فرنسا»، والثالث: تأكيده أن باريس «لا يمكنها أبدا أن تتعاون مع نظام قمعي».. ما فهم في تونس بأنه تنديد بالنظام القائم. ومجددا، ردت تونس باستدعاء السفير غوييت لإبلاغه بأن تصريحات فالس «تسيء إلى العلاقات الثنائية»، ما ترجم في اليوم التالي شعارات تدعو باريس إلى «الرحيل» عن تونس خلال مظاهرات يوم السبت الداعمة للحكومة.

وفي اليومين الأخيرين، امتنعت باريس الرسمية عن التعليق على التطورات في تونس، بما فيها الشعارات المعادية لها، الأمر الذي يعكس رغبة في «التهدئة»، وفق ما تقوله مصادر دبلوماسية عربية في فرنسا. وترى هذه المصادر أن مصلحة الطرفين تكمن في «علاقات هادئة وطبيعية» بالنظر لما يربطهما من وشائج إنسانية واقتصادية وثقافية؛ ففي فرنسا تعيش جالية تونسية تقدر بـ600 ألف شخص، كما أن باريس تعد الشريك التجاري الأول لتونس (7.6 مليار يورو لعام 2011)، والمستثمر الأجنبي الأول في اقتصادها (خارج قطاع النفط والغاز) الذي يقتطع حصة تصل إلى 25 في المائة.

وأقرت الوكالة الفرنسية للتنمية خطة دعم لتونس قيمتها 425 مليون يورو للعامين 2011 - 2012، صرف منها 185 مليون يورو.

أما الشركات الفرنسية العاملة في تونس فهي الأكبر؛ إذ يبلغ عددها 1500 شركة تشغل نحو 110 آلاف تونسي. ولذا، فمصلحة الطرفين، كما تقول المصادر الفرنسية، تكمن في علاقات وثيقة تتحلى بالثقة والندية وتبتعد عن المزايدات والمهاترات.