إضاءات على أزمة قانون الانتخابات في لبنان

مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» يبرز تناقضات التعايش والتحالفات السياسية

TT

المناقشات التي طغت عليها المزايدة والمماحكات في شأن إقرار قانون جديد للانتخابات النيابية اللبنانية بدت مبهمة لقطاع واسع من اللبنانيين أنفسهم، ناهيك من المتابعين العرب. ومع أن القوانين الانتخابية عادة ما تثير لغطا بين الفينة والفينة، حتى في الدول ذات التجارب الديمقراطية الطويلة، فإنها لا تشكل عادة أزمة مصيرية تهدد مصير البلاد أو آفاق التعايش فيها.

في بريطانيا، مثلا، ثمة جدل طويل حول النسبية والدائرة الفردية، وفي حين أيدت غالبية الحزبين الكبيرين، حزب المحافظين وحزب العمال، الاستمرار باعتماد نظام الدائرة الفردية لأنه يعطيهما أغلبيات برلمانية أكبر بكثير نصيبيهما من الأصوات الشعبية، في المقابل يدعو الحزب الثالث، أي حزب الديمقراطيين الأحرار، وقبله حزب الأحرار، لاعتماد التمثيل النسبي لأنه يعبر تماما عن نصيب كل حزب من الأصوات. وتحت ضغط جماعات الإصلاح الانتخابي في بريطانيا طبقت النسبية في الانتخابات الأوروبية واعتمدت في أطر أخرى، لكن نظام الانتخابات وفق الدوائر الفردية بقي لتاريخه في مجلس العموم، ولكن مع التعديل المنتظم لحدود الدوائر تبعا للتغيرات السكانية بهدف ضمان دقة أفضل للتمثيل الشعبي، وهذا على الرغم من التفاوت في أحجام الدوائر.

في فرنسا أيضا، عدل الرئيس فرنسوا ميتران تغييرات قانون الانتخابات النيابية التي تقوم تقليديا وفق نظام «البالوتاج»، أي جولة إعادة بين المرشحين الاثنين الأكثر أصواتا في كل دائرة يعجز فيها مرشح الصدارة عن الحصول على نسبة لا تقل عن 50% من الأصوات. ويومذاك عبر اعتماد التمثيل النسبي برزت الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة فكسبت أصوات الناخبين اليمينيين المتطرفين الذين كانت أصواتهم من قبل تذهب اضطرارا إلى مرشحي اليمين المعتدل في جولات الإعادة.

من ناحية أخرى، تتفق ألمانيا والولايات المتحدة في أنهما دولتان اتحاديتان (فيدراليتان) لهما مجلسان في هيئتهما التشريعية، غير ان نظاميهما الانتخابيين، يختلفان في تفاصيل طريقة التصويت. ففي ألمانيا يعتمد نظام مختلط يتيح التصويت المباشر والنسبي للأحزاب، ولا يتمثل الحزب الذي يخفق في الحصول على 5% من مجموع الأصوات في أن يتمثل في مجلس النواب. أما في الولايات المتحدة فالتصويت مباشر، لكنه يجري لثلث مقاعد مجلس الشيوخ مرة كل ست سنوات، وينتخب الشيخ (السناتور) على مستوى الولاية كلها، بينما ينتخب جميع أعضاء مجلس النواب كل سنتين، ويصار إلى انتخابهم على مستوى الدوائر الانتخابية تبعا لعدد مقاعد كل ولاية. وفي الولايات الصغيرة التي ليس لها سوى نائب واحد تكون الولاية كلها دائرة انتخابية.

في الواقع تقوم فلسفة الانتخابات التشريعية في الولايات المتحدة لمجلسي الكونغرس على مبدأين يشكلان جوهر الثقافة السياسية الأميركية، هما: الوحدة الوطنية، والديمقراطية.

مبدأ الوحدة الوطنية يقوم على التساوي من حيث الحقوق والواجبات، وأيضا احترام التنوع والتميز والاختلاف بين الولايات الصغيرة أو القليلة السكان والولايات الكبيرة. ويتجسد هذا المبدأ عبر مجلس الشيوخ، حيث يتساوى تمثيل ولاية ضخمة مثل كاليفورنيا (أكثر من 38 مليون نسمة) بشيخين (سناتورين) بولاية قليلة السكان مثل وايومينغ (نحو 577 ألف نسمة) التي لا يزيد إجمالي عدد سكانها عن عدد سكان مدينة متوسطة الحجم في كاليفورنيا، بل عن عدد سكان حي من أحياء مدينة عملاقة مثل لوس أنجليس.

وفي المقابل، يجسد مجلس النواب في الديمقراطية الشعبية، ويتوزع أعضاؤه على الولايات تبعا لتعدادها السكاني، وفي هذه الحالة لا يزيد حجم تمثيل ولايات كوايومينغ وفيرمونت وديلاوير عن نائب واحد فقط مقابل 55 نائبا لكاليفورنيا و38 لتكساس... إلخ.

الفكرة من وجود مجلسين، وهي موجودة فعليا في معظم الدول الديمقراطية ذات الطابع الاتحادي أو الفيدرالي، هي احترام التنوع والتميز والاختلاف في مؤسسة لا تسمح بما يعرف بـ«ديكتاتورية الأكثرية». وبالتالي يكون أحد المجلسين – في هذه الحالة مجلس الشيوخ - صمام أمان ضد شعور سكان الولايات الصغيرة بالخوف من مصادرة قراراتهم، بينما يكفل مجلس النواب التعبير الحقيقي عن رغبات الأكثرية ويحول دون شعور الولايات الكبيرة بالغبن.

في لبنان كان الشعور بالخوف عند المسيحيين والشعور بالغبن عند المسلمين آفة الحياة السياسية اللبنانية حتى قبل الاستقلال عام 1943.

أصلا كان ثمة «مجالس إدارة» تمثيلية في عهد «متصرفية» جبل لبنان (1861 - 1918) فيها توزيع طائفي متوافق مع أحجام الطوائف الرئيسية إبان العهد العثماني، وكانت الغالبية السكانية في «المتصرفية» (أو «لبنان الصغير») مسيحية، يشكل الموارنة أكبر مكوناتها، تليهم الطوائف الإسلامية الثلاث، الدروز والشيعة والسنة. وكان الجزء الأكبر من «المتصرفية» ما هو اليوم محافظة جبل لبنان مع مناطق أخرى متاخمة. غير أن ولادة «لبنان الكبير» عام 1920 في مستهل حقبة الانتداب الفرنسي أدت إلى ضم مناطق جغرافية كبيرة إلى الكيان اللبناني، حملت معها تغيرا كبيرا في عدد سكان الكيان الجديد، الذي عرف بـ«لبنان الكبير»، وبدلت جذريا المعادلة الطائفية فيه.

وكان العنصر الأهم في تغيير النسيج السكاني في الكيان الجديد الوليد هو التزايد الكبير في عدد المسلمين السنة الذين يشكلون غالبيات في المدن الساحلية الثلاث المضمومة، أي بيروت وطرابلس وصيدا، والتزايد الموازي للمسلمين الشيعة في مناطق شرق «المتصرفية» وجنوبها.

بمعنى آخر، أدت ولادة «لبنان الكبير»، الذي بات الجمهورية اللبنانية بحدودها الحالية، إلى تنامي نسبة المسلمين على حساب المسيحيين. ووفقا لآخر إحصاء رسمي أجري في عهد الانتداب عام 1933 أعلنت سلطات الانتداب أن نسبة المسيحيين إلى المسلمين 6 إلى 5، بعدما كانت نسبة المسيحيين أكبر بكثير قبل ضم المناطق الجديدة ذات الغالبيات الإسلامية. وبناء على نسبة 6 إلى 5 اعتمدت السلطات اللبنانية المتعاقبة لعدد مقاعد البرلمانات أعدادا قابلة للقسمة على 11 (6 للمسيحيين و5 للمسلمين)، وكان عدد نواب آخر برلمان قبل «اتفاق الطائف»، الذي أنهى الحرب اللبنانية 99، 54 منهم مسيحيون، و45 مسلمون.

«اتفاق الطائف» نص، في سياق ما نص عليه، على:

- المساواة في عدد النواب المسيحيين والمسلمين.

- اللامركزية الإدارية.

- إجراء الانتخابات العامة على مستوى المحافظة بعد إعادة النظر في المحافظات الحالية.

- إنشاء مجلس شيوخ بعد أول انتخابات لا طائفية.

البند الأول، أي المساواة في عدد النواب، تحقق، وهو اليوم يضم 128 نائبا موزعين مناصفة بين الطوائف المسيحية والإسلامية، بصرف النظر عن التعداد الفعلي للمسيحيين والمسلمين، وإن كانت الأرقام المستقاة من الانتخابات السابقة عن عدد الناخبين تشير إلى أن الناخبين المسلمين يشكلون اليوم نسبة تقارب 65 في المائة مقابل 35% للمسيحيين. غير أن البنود الثلاثة الأخرى لم تتحقق بعد.

وبالتالي، فمثار الخلاف بين الأحزاب والقوى الممثلة في البرلمان اللبناني اليوم، ومعظمها يطغى عليه اللون الطائفي، هو أنها في ظل غياب أطر انتخابية واضحة تنصف المسلمين وتطمئن المسيحيين. ثم إن ثمة حزبا طائفيا بارزا في البلاد هو حزب الله، الممثل في البرلمان، هو القوة المسلحة الوحيدة، بجانب المؤسسات العسكرية الرسمية التابعة للدولة كالجيش والدرك وما إليها. وهو يتمتع بميزانية ضخمة، تتوازى مع النمو البشري للطائفة الشيعية التي يعد أبرز ممثليها في الحياة السياسية اللبنانية.

حزب الله اليوم يؤيد طرحين انتخابيين متناقضين، هما: جعل لبنان دائرة انتخابية واحدة مع تمثيل نسبي، وهو مطلب شيعي تقليدي، والمشروع المسمى بـ«مشروع اللقاء الأرثوذكسي» الذي يقضي بأن تختار كل طائفة نوابها بحيث لا تفرض طائفة على طائفة أخرى من يمثلها. ويرى مناوئو حزب الله أن موقف الحزب الذي لا يمانع في أي من الاقتراحين المتناقضين نابع من حقيقة أنه سيظل ضامنا بفضل احتفاظه بسلاحه أرجحية في أي من الصيغتين، في حين أن هاتين الصيغتين، بالذات، تفجران التناقضات بين مكونات التحالف المضاد، أي تجمع «13 آذار» الذي يضم تيار المستقبل وحزبي القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية وعددا من المستقلين الليبراليين واليساريين.

وحقا، خلال المساومات الهادفة إلى التوصل إلى قانون انتخابات طالبت القوى المسيحية في «14 آذار»، وبينها القوات والكتائب، بنظام يقوم على عدد كبير من الدوائر الصغرى يساعد على ما يوصف بـ«تحرير الصوت المسيحي» من كثافة الصوت المسلم في الدوائر المختلطة، غير أن تيار المستقبل (غالبية أصواته سنية) والحزب التقدمي الاشتراكي (غالبية أصواته درزية) رفضت هذا التصور.

وفي المقابل، وقف تجمع «8 آذار» بقيادة الثنائي الشيعي حزب الله وحزب أمل ومعهما حليفهما المسيحي التيار العوني مع التمثيل النسبي (حيث تؤمن الأصوات الشيعية غطاء مسيحيا قويا للعونيين المسيحيين)، أو مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» الذي يعزز مجال المزايدات الطائفية عند كل طائفة.

في هذه الأثناء أيد رئيس الجمهورية ميشال سليمان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي نظاما انتخابيا مزيجا يجمع النسبية إلى التصويت المباشر، أما زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط فيؤيد تفعيل بند مجلس الشيوخ، بحيث تنتخب الطوائف أعضاءه (كما في مشروع «اللقاء الأرثوذكسي»)، بينما ينتخب مجلس النواب بصورة تكفل أن يكون عابرا للطوائف.

اليوم، أيدت اللجان البرلمانية التي تدرس المقترحات المتعددة المقدمة لقانون الانتخاب بالأكثرية مشروع «اللقاء الأرثوذكسي»، مع تأييد من مسيحيي «14 آذار»، بالإضافة إلى قوى «8 آذار». وفي المقابل يقف ضد هذا القانون رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي. وحجة هؤلاء أنه لا يخدم أسس العيش المشترك، ويشكل مخالفة صريحة لـ«اتفاق الطائف»، الذي هو جزء من الدستور اللبناني.

تصويبات

* ورد أن عدد نواب ولاية كاليفورنيا 55 نائبا وعدد نواب ولاية تكساس 38 نائبا. والصحيح أن هذين العددين يخصان أصوات كل من الولايتين في المجمع الانتخابي الذي يساوي عدد النواب مع ممثليها في مجلس الشيوخ في كل ولاية. وبناء عليه، بعد طرح 2 (أي عدد الشيخين في كل ولاية) يكون عدد نواب كاليفورنيا 53 وفي تكساس 36. لذا لزم التنويه.