مفتي مصر قبل مغادرته منصبه: داء البلاد في التناحر والبحث عن مصالح شخصية وحزبية

د. علي جمعة لـ «الشرق الأوسط»: سنتصدى لفضائيات التطرف في عقر دارها بقناة «الأزهر»

د. علي جمعة
TT

دعا الدكتور علي جمعة، مفتي مصر، المصريين إلى أن يتوحدوا جميعا، وأن يجعلوا مصر هي المشترك فيما بينهم، وأن يبتعدوا عن جو التلاسن والشقاق. وقال: «إن التناحر والانتصار للمصلحة الشخصية أو الحزبية هو ما يظهر على الساحة الآن في البلاد». وأضاف الدكتور جمعة الذي يستعد لترك منصبه في 3 مارس (آذار) المقبل بعد 10 سنوات تربع فيها على كرسي مفتي مصر: «حرصت على تأهيل أجيال في الدار، بحيث إذا رحل عنها الأشخاص يظل العمل فيها على أكمل وجه». ويعد الدكتور جمعة وهو عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف من بين أكثر خمسين شخصية مسلمة تأثيرا في العالم، وتم منحه في يوليو (تموز) عام 2011 الدكتوراه الفخرية في الآداب الإنسانية من جامعة ليفربول باعتباره أحد أهم الشخصيات العالمية في نشر التسامح والتفاهم بين الأديان. وقال مفتي مصر الذي التقت به «الشرق الأوسط» في مكتبه بمقر دار الإفتاء المصرية بحديقة الخالدين في الدراسة بالقاهرة، إن «فضائية الأزهر محاولة للتصدي لقنوات التطرف الديني في عقر دارها»، وإلى أبرز ما جاء في الحوار..

* فضيلة المفتي.. الحقائق تؤكد أن دار الإفتاء في عهدكم شهدت تطورا كبيرا.. ما الذي كنت تتمنى تحقيقه ولم يسعفك الوقت أو الإمكانات أو الظروف السياسية لتحققه؟

- حرصت منذ توليت منصب الإفتاء على تحويل دار الإفتاء إلى مؤسسة عالمية تتجاوز المكان والزمان والأشخاص لتعطي النموذج لكل مؤسسات الإفتاء في العالم، عن طريق الاستعانة بالعلم الحديث من خلال استحداث الإدارات بها مثل: «إدارة الحساب الشرعي والتحكيم والإعلام والتطوير البرمجي»، كما حرصت على تربية وتأهيل الجيلين الثاني والثالث في الدار إلى أن أصبح هناك جيل رابع، يتمثل في تبني الطلبة المتميزين من كلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، ليكونوا قادرين على تولي المسؤولية عبر التاريخ. وحرصنا على الدور الاجتماعي للدار من خلال فض النزاعات فنحن لا نعرف من التعصب إلا ما كان تعصبا للعلم والإصرار على التقدم ونشر الحب والسلام بين الناس وعمارة الأرض وعبادة الله. ومن أجل أن نحفظ الكم الكبير من الفتاوى والتراث الفكري الذي خلفه علماء الدار على مدار تاريخها قمنا بعقد برتوكول مع وزارة الثقافة يهدف للحفاظ على وثائق دار الإفتاء من خلال ترميم هذه الوثائق بوضعها في دار الوثائق المصرية بعد تصويرها أكثر من نسخة، إحداها في دار الإفتاء والأخرى بالبنك المركزي المصري وثالثة في مؤسسة الأزهر.

* الكثير من علماء الدين والدعوة بعدما يتركون مناصبهم يبدعون ويخدمون الدعوة أكثر.. ما تعليقك فضيلة المفتي؟

- عالم الدين لا يتوقف عطاؤه في خدمة دينه وأمته بعد أن يترك منصبه، ولا حتى بعد وفاته، فهو يترك علما ينتفع به الناس إلى يوم القيامة، وجهودنا لا تنقطع في خدمة الإسلام والأمة الإسلامية في الداخل والخارج ونصرة الدين ودعم المسلمين في كل مكان، لأن هذه مسؤولية عظيمة اختص الله سبحانه وتعالى العلماء بها، لا يمكن أن يتراجعوا عنها لأن هذه المسؤولية ليست مرتبطة بمكان ولا زمان ولا منصب، إنما هي رسالة يجب أن تؤدى.

* الشارع يشهد الآن حالة من الزخم السياسي.. في تصورك ما الذي يجب علينا فعله من أجل عبور هذا المشهد بأمان؟

- يكون عن طريق الاتفاق والبعد عن الخلاف الذي من شأنه يجعلنا نعبر إلى بر الأمان. المصريون عندما اتفقوا ونحوا الخلافات والقضايا الشخصية والمصالح الحزبية جانبا خلال أحداث ثورة «25 يناير» استطاعوا أن يزيلوا منظومة من الفساد والظلم والقهر، أضف إلى ذلك أنهم عندما توحدوا واتفقوا أثبتوا للعالم أنهم قاموا بثورة من أعظم ثورات العالم، وعلموا العالم كيف يكون الرقي والتحضر، لذا أدعوهم لأن يتوحدوا فيما بينهم وأن يجعلوا مصر هي المشترك فيما بينهم، وأن يعملوا من أجل نهضتها ورقيها، لا يعطوا الفرصة لأعدائها أن ينالوا منها وسط هذا الجو من التلاسن والشقاق، وأدعوهم إلى أن ينشروا الحب فيما بينهم.

* بصراحة شديدة فضيلة مفتي الديار المصرية.. ما رأيكم فيما يحدث الآن في مصر من جدل سياسي؟

- أرى أن الشقاق والتناحر والانتصار للمصلحة الشخصية أو الحزبية أو خلافه هو ما يظهر على الساحة الآن في مصر والتي يغيب عنها مصلحة الوطن وأعتبر هذا هو الداء، أما الدواء فيكمن في الوحدة والاتفاق، وهي معان عظيمة إذا فقدتها أمة ضاعت وانهارت، وإذا تمسكت بها قويت وعظمت واستقامت، فالجميع يدرك أهمية الوحدة ونبذ الخلافات في هذا الوقت على وجه الخصوص، لذا فأدعو ألا يكون الاختلاف في الرأي سببا لتباعد الأمة وتفرقها.

* وبم تنصح الجميع؟

- بالحفاظ على الوحدة التي هي من أوجب الواجبات الآن حتى تستطيع مصر عبور هذه المرحلة الصعبة، وأن مبدأ الاتفاق والوفاق ينبغي أن يكون الميزان الذي توزن به الأمور داخل هذا الوطن، كما أنه علينا أن نلتفت إلى التنمية ومواجهة مشكلاتنا الكبرى.

* في تصوركم ما المدى الذي كفله الإسلام للمرء في حق التعبير عن الرأي.. وما رأيكم في المظاهرات والاعتصامات التي نشهدها كل يوم؟

- التظاهر والاعتصام لهما شروط تطبق في جميع دول العالم وهما حق من حقوق الإنسان بشرط عدم إيذاء الآخرين أو تعطيل مصالحهم، والأحاديث النبوية التي جاءت تحثنا على هذا الأمر كثيرا، لكنها مع ذلك تؤكد أن المحافظة على الطريق هي أدنى شعب الإيمان، لذا على جموع المصريين أن يتكاتفوا من أجل أن تتخطى مصر المرحلة التي تمر بها حاليا، وأقول لمن يقطع الطرق ويعطل مصالح البلاد والعباد اتقوا الله في أنفسكم وفي وطنكم لأنكم تعرضون أنفسكم لغضب الله والناس، وهذا لا علاقة له بالحرية والديمقراطية أو حق التظاهر، لكن التعبير السلمي بالطرق المشروعة هو حق الجميع ولا أحد ينكره على الإطلاق.

* في تقديركم.. هل نحن نعاني فعلا من قلة ثقافة الاختلاف بين التيارات بحيث أصبح يرمي بعضنا بعضا بأبشع التهم لمجرد الاختلاف في الرأي؟

- الشريعة الإسلامية أجازت للمسلم في الأمور الاجتهادية أن يتبع فيها أيا من المذاهب ما دامت هذه الاجتهادات صدرت من علماء وفقهاء لهم حق الاجتهاد، واختلاف الفقهاء في المسائل غير القطعية التي يسوغ فيها الخلاف من رحمة الله بهذه الأمة، وهذا ليس جديدا أو ابتداعا لعصرنا، بل حدث بين الصحابة، رضوان الله عليهم، وبين التابعين من بعدهم ولم ينكر أحد على أحد. وعلماء الأمة على مر العصور نظروا إلى الاختلاف على أنه توسعة من الله ورحمة منه بعباده غير القادرين على استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها بأنفسهم، وهذه النظرة قائمة على إدراك العلماء أن السعة في التشريع مقترنة باليسر وهما مقترنان بالرحمة، واليسر مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية. ولقد وضع العلماء مجموعة من الضوابط والشروط لكي يكون هذا الاختلاف مقبولا أهمها ألا يؤدي الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة، وألا يؤدي إلى خرق الإجماع، وأن يكون الجمع بين المذاهب والأقوال فيه ممكنا، وألا يوقع الخلاف في خلاف آخر. كما أن الفقه الإسلامي ليس فيه كهنوت يسمح لمن يشتغل به أن يكره الناس على رأيه، وفقهاء الأمة العظام كانوا يدركون ذلك ولم يحدث مطلقا أن اعتبروا أنفسهم أصحاب الرأي الأوحد الصواب.

* الأزهر سوف يطلق قناة فضائية وفضيلتكم مرشح لتكون قائما عليها.. ما رؤيتكم لهذه القناة؟

- قناة الأزهر الشريف تأتي محاولة للتصدي لقنوات التطرف الديني في عقر دارها على الفضائيات، وما تشيعه من فوضى وبلبلة ضللت الناس بفتاوى مغلوطة وصلت إلى حد تكفير الآخر، والقناة هدفهما نشر المنهج الوسطي والتقارب بين المذاهب والقضاء على فوضى الفتاوى، فهي ستحمل منهج وفكر الأزهر الشريف وستخضع لإشراف علمائه. واللجنة المشكلة الخاصة بإنهاء ترتيبات إطلاق القناة تقوم بعملها وتجتمع بصفة دورية لإطلاق القناة الجديدة في أسرع وقت ممكن، كما أن أسلوب عمل القناة والقائمين عليها سيواكب المتغيرات في عالم الإعلام والتقنية الحديثة في الاتصالات مع الحفاظ على الهوية الإسلامية ورسالتها التنويرية الدعوية المعتدلة، بل ستخاطب كل فئات المجتمع في مصر والعالم الإسلامي بأسلوب بسيط ومتطور.. وفي الوقت نفسه سيقع على عاتقها الرد على المسيئين للدين الإسلامي والمسلمين، وتصحيح صورة الإسلام في الغرب وتوضيح حقيقة الدين السمحة.

* بعض الفضائيات تسعى لتحقيق مصالح وأهداف.. هل تتفق معي في أن المكاسب أصبحت هي التي تحكم الإعلام لا القضايا؟

- هناك مدارس إعلامية للأسف تسير في طريق الإثارة لا الإنارة، وهذا النوع من الإعلام نرفضه تماما، وأقول لهم إن واجبهم الحضاري والديني والعمران هو التعمير لا التدمير، أي أن عليهم أن يقدموا الإنارة على الإثارة، وعليهم أن يشدوا الناس إليهم بعيدا عن الكذب والتضليل وترديد الشائعات قبل التحقق منها، وهذا هو ما يحتاج إلى جهد لأن أي إبداع يحتاج إلى جهد، أما الإبداع من أن كل واحد ما يخطر بباله يقوله من غير مهنية وإتقان وتدريب وإنارة فهذا لا يرضي الله ولا رسوله ولا المؤمنين، فالإثارة قبل الإنارة يشكو منها الناس الآن، والتي تتمثل في الإثارة ضد كل شيء، وعلى الجميع أن يلتزم الصدق لأن هذا ما أمرنا به الإسلام، ومن قبل طالبت بميثاق شرف إعلامي تبتعد فيه النخبة والمثقفون والمهتمون بالشأن العام عن تبادل الاتهامات دون سند وإفساح المجال للبناء.

* البعض يرى أن هناك محاولات من بعض التيارات للنيل من الأزهر ورموزه لإقصائه عن دوره في التفاعل مع قضايا الأمة.. ما ردكم؟

- الأزهر الشريف له دور وطني لا ينكره أحد وله تاريخ ناصع في الدفاع عن الدين ونشر الوسطية والتسامح بين الجميع علاوة على احتضان الفكر المنفتح، وعلماء الأزهر عبر تاريخهم الطويل وميراثهم العظيم كانوا ولا يزالون لهم دور فاعل في نشر ثقافة الإسلام السمح ووسطيته وفي حماية هوية مصر الدينية، فالأزهر وعلماؤه جزء لا يتجزأ من حركة المجتمع وغير منفصل عن مشاكل الأمة وواقعها، وما نشاهده اليوم خير دليل على تفاعل الأزهر مع هموم الوطن من خلال وثيقة الأزهر وأيضا سعيه لتوحيد صف الوطن والقضاء على سياسة التهميش والتخوين، لكي تعبر الأمة إلى بر الأمان، فالأزهر باعتباره مرجعية كبيرة أصبح قادرا على تقديم النصيحة العلمية والاجتماعية وغيرها والتي تصل بنا إلى صحيح الإسلام، وحل مشكلات المسلمين، كما تجعل مرجعيته قادرة على تقديم اقتراحات للدول والحكومات ولتصحيح مناهج التعليم، أو الاشتراك في وضعها عندما تتعلق بالمسلمين، ونحو ذلك من الخدمات التي لها أثر في استقرار أوضاع المسلمين، وفي شيوع السلام الاجتماعي، وفي اندماج المسلم في مجتمعه، وفي مساعدته لأن يكون مواطنا صالحا نافعا لأهله ووطنه مشاركا في بناء الحضارة الإنسانية. والأزهر لا يلتفت إلى الأصوات التي ترتفع من أجل الشعارات وتنتهج ثقافة الهدم لا البناء وهو ماض في طريقة لا يثنيه عنه تلك الأصوات التي تريد أن تنال منه ومن أبنائه.

* الفتوى صارت مباحة للجميع.. ويرى البعض ضرورة تشريع قانون يجعل الإفتاء عبر وسائل الإعلام مقصورا على من يحمل ترخيصا.. ما رأيكم؟

- لقد اهتم علماء الإسلام بعملية الإفتاء اهتماما عظيما وجعلوها في مكانة عالية لعظمة دورها، فقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتولى هذا المنصب في حياته، باعتبار التبليغ عن الله، وقد تولى هذه الخلافة بعده أصحابه الكرام، ثم أهل العلم بعدهم، ورغم ذلك فإن الساحة الدينية اليوم تعاني من فوضى في الفتاوى وفوضى في الخطاب الديني، نظرا لتصدر غير المتخصصين للإفتاء، ونتيجة لتلك الفوضى التي حدثت في الفتاوى الدينية، خصوصا المنتشرة عبر الفضائيات والتي تصدر عن أناس غير مؤهلين للإفتاء من الأساس مما تسبب في حدوث بلبلة وتشكيك للناس في أمور دينهم، ولا بد من قصر الأمر على المتخصصين من العلماء وتأهيل العلماء للإفتاء من خلال المعايير التي ينبغي أن تتوافر في من يتصدر لهذه المهمة العظيمة.