أسلوب حزب الله في «عملية قبرص» يثير المخاوف من التصعيد في دول أخرى

أدلة التحقيق مع «اللبناني السويدي» تتطابق مع ما توصل إليه محققون في بلغاريا وتايلاند والهند وأذربيجان وكينيا

سيارة السياح الإسرائيليين بمنتجع «بورغاس» في بلغاريا بعد تعرضها للتفجير في يوليو الماضي (واشنطن بوست)
TT

لم يكن يعرف السياح الإسرائيليون الذين استقلوا طائرة لشركة الطيران الإسرائيلية الخاصة «أركيا إيرلاينز» في الرحلة رقم «161» المتجهة من تل أبيب إلى قبرص في السادس من يوليو (تموز) الماضي، أنهم تحت المراقبة عند وصولهم، حيث كانت هناك عينان مدربتان تحصي الآتين منهم عند نزولهم من الطائرة وحتى ركوبهم الحافلة التي أقلتهم إلى المنتجعات والتي كانت أيضا تحت مراقبة مكثفة عن كثب.

إن ذلك الأجنبي الملتحي، الذي ظل يتعقب أولئك الإسرائيليين بصمت، قام بعمله على أكمل وجه؛ حيث كان يعلم مكان مبيت السياح الإسرائيليين، فضلا عن الأماكن التي يقومون فيها بالتسوق وتناول الطعام. وكان يعرف كم عدد أفراد الحراسة الأمنية في ساحات انتظار السيارات التابعة للفندق الذي يقيمون فيه، والزمن الذي ستستغرقه الشرطة للوصول إلى هذا المكان.

ومن ناحية أخرى، كان هذا الرجل مراقبا هو الآخر، وعندما ألقت الشرطة القبرصية القبض عليه، لم يكن ذلك الرجل سوى عميل لحزب الله، وسرعان ما أقر بتجسسه على أولئك السياح الإسرائيليين، لكنه زعم أنه لا يدري السبب وراء تكليفه بهذه المهمة.

أبلغ الشرطة أنه كان يقوم فقط بجمع معلومات عن اليهود، قائلا: «إن هذا ما تفعله منظمتي في كل مكان من العالم».

ولم يكد يتم اعتقال حسام يعقوب، المواطن اللبناني المولد والسويدي الجنسية، يوم السابع من يوليو الماضي حتى حدث تفجير حافلة كانت تقل مجموعة أخرى من السياح الإسرائيليين خلال عطلتهم الصيفية بمنتجع «بورغاس» في بلغاريا بعد أحد عشر يوما. وأسفر الحادث عن مقتل خمسة إسرائيليين وسائق الحافلة البلغاري، وحمّلت السلطات تنظيم حزب الله المسؤولية.

بعد مضي سبعة أشهر من ذلك الهجوم، بدأت تفاصيل جديدة تظهر عن قضية المعتقل يعقوب نفسه، التي تشير إلى أفكار تقشعر لها الأبدان، على حد وصف المحققين، بأن هناك جهودا واسعة النطاق من قبل تنظيم حزب الله اللبناني المتشدد لإقامة بنية تحتية لقتل المواطنين الإسرائيليين وربما غيرهم في عدة بلدان أخرى.

وكشف يعقوب نفسه عن بعض التفاصيل لدى ظهوره علنا لأول مرة أمام المحكمة في الأسبوع الماضي في قبرص، غير أن الرواية الكاملة وردت بمستندات قانونية تلخص إفادات المتهم السويدي للشرطة خلال أسابيع من استجوابه بالصيف الماضي، التي حصلت عليها صحيفة «واشنطن بوست».

تتطابق تلك الأدلة، التي تضمنتها تلك المستندات، مع النتائج التي توصل إليها محققون في بلغاريا وممثلو الادعاء العام في تايلاند والهند وأذربيجان وكينيا وغيرها من الدول التي شهدت موجة اغتيالات وتفجيرات ارتبطت بحزب الله أو إيران، الدولة الراعية الرئيسية له. وأفاد مسؤولون أميركيون بأن تلك الحوادث، التي وصفت بكونها مؤامرات، جزء من حرب ظلت تديرها طهران للرد على الجهود الغربية لعرقلة البرنامج النووي الإيراني. وتكشف الأدلة أيضا عن جهود حزب الله الاحترافية والممولة جيدا لتجنيد وتدريب ونشر عملاء بأوروبا، التي يصفها محللون أميركيون بأنها استعدادات من جانب حزب الله للقيام بما سموه «عمليات إرهابية» في المستقبل.

«عمليات تجسس محسوبة»

* على الرغم من فشل أو إجهاض معظم الهجمات في السابق، فإن هناك معلومات جمعتها أجهزة الاستخبارات الغربية توضح أن حزب الله يتعلم من أخطائه، ويستخدم تكتيكات عملاء الاستخبارات المحترفين للتعتيم على عملياته والتوسع في تهديداته، وفقا لمسؤولين أميركيين حاليين وسابقين، تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هوياتهم بسبب طبيعة التحقيقات الجارية.

وقال ماثيو ليفيت، المسؤول السابق في مكافحة الإرهاب بمكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الخزانة بالإضافة إلى أنه مؤلف كتاب «Hezbollah: The Global Footprint of Lebanon’s Party of God.» «حزب الله: الأثر العالمي لحزب الله اللبناني»: «في البداية، أكد التنظيم بوضوح مدى سرعته في اتباع الطرق المستخدمة في العمليات الجاسوسية السرية»، مضيفا أن «تحليل المؤامرات الأخيرة يوضح تحولا في التكتيكات المستخدمة»؛ حيث أشار إلى أن ما حدث في قبرص يؤكد كيف أن «الطرق المستخدمة في عمليات التجسس السرية يتم تنفيذها بعناية وروية محسوبة».

وقال ليفيت ومحللون آخرون إن الإفادات والوثائق القانونية في قبرص تظهر أيضا أن حزب الله يعمل على توسيع نطاق شبكته في أوروبا، وتجنيد عناصر أوروبية، فضلا عن إجراء عمليات للمراقبة ونقل طرود ورسائل إلى مختلف المدن الأوروبية استعدادا لشن هجمات محتملة في المستقبل.

وتحدث يعقوب في إفاداته للشرطة عن «المهمات السابقة» التي نقلته من تركيا إلى قلب غرب أوروبا. وقال إنه حمل في إحدى المرات طردا غامضا ملفوفا في ورق صحف، لكنه لم يكن يعرف محتواه بحسب ما جاء في الإفادات التي قرأت أمام المحكمة الأسبوع الماضي.

قال دانيال بنجامين، الذي قدم استقالته مؤخرا من منصبه كبير مسؤولي مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية، إن نشاط حزب الله خارج الشرق الأوسط وصل إلى مستوى لم يصل إليه منذ التسعينات. وقال بنجامين إن حزب الله ليس مجرد منظمة تشن هجمات منفردة بل في إطار حملة من الهجمات الإرهابية من أهدافها تحذير الدول الغربية من السماح بعملية عسكرية ضد إيران.

وصرح بنجامين لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى قائلا: «يعتقد حزب الله بالفعل أننا في صراع، لكنهم يريدون التوضيح لنا ما ستكون عليه الحال إذا ازداد الصراع حدة».

بداية من عام 2009 قام يعقوب بعدة رحلات إلى قبرص، التي تعد مقصدا سياحيا ومركزا ماليا في شرق البحر الأبيض المتوسط، وعضو في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2004. وقال يعقوب لبعض المعارف إنه كان يحاول إقامة شركة لاستيراد العصير. مع ذلك، أثار يعقوب، ذو الشعر الداكن والبالغ من العمر 24 عاما، الشبهات لولعه الواضح بعادات السياح اليهود الذين يزورون الجزيرة التي تغمرها الشمس. وخلال الصيف الماضي تجول في الجزيرة لفترة تزيد على أسبوع وهو يطرح الأسئلة ويراقب الفنادق والخدمات التي تقدم للسياح اليهود. وأخذ يجوب المطاعم التي تقدم الوجبات التي تراعي الشريعة اليهودية. وقال للمحققين لاحقا: «كان مطلوب مني تحديد المطاعم التي يتناول فيها اليهود أكلاتهم الحلال. لقد كنت أبحث عنها على الإنترنت، لكنني لم أعثر على شيء».

وعندما تم اعتقاله في السابع من يوليو الماضي، أكد يعقوب أنه كان يبحث عن أشخاص يساعدونه في العمل. مع ذلك، خلال التحقيقات التي استمرت طوال الأسبوع، ظهرت قصة جديدة، فقد أوضحت إفاداته للشرطة الموجودة في السجلات، التي تضمنت اعترافاته وملاحظاته ورسومه وأشياء أخرى، أنه عضو في تنظيم حزب الله وتلقى تدريبا على يد التنظيم من أجل القيام بمجموعة من المهام. وقال إنه لم يكن يعرف بالأهداف النهائية لمهامه. وأكد أنه لم يدعم عملية إرهابية عن علم. وأخبر الشرطة: «لا أوافق أبدا على القيام بعمليات إرهابية».

وبحسب الرواية التي جاءت في سجلات الشرطة، تم تجنيد يعقوب في حزب الله خلال رحلات عمل إلى لبنان. يبدو أن المسؤولين عنه وجدوا في التاجر الشاب أداة مفيدة نظرا لامتلاكه جواز سفر أوروبيا وقيامه بنشاط يبرر سفره إلى الخارج. وبعد تلقي التدريب في لبنان، تم إرساله لتنفيذ مجموعة من المهام بوصفه حامل طرود ورسائل، وسلم طرودا ورسائل إلى أشخاص في تركيا وفرنسا وهولندا. وأكد يعقوب أن المسؤول الرئيسي عنه كان يرتدي قناعا ويصر على اتباع تعليمات أمنية صارمة منها عدم وجود هواتف جوالة أثناء اللقاءات، ولم يعرف يعقوب أبدا بمحتوى أي طرد سلمه.

مهمة طويلة المدى

* عندما زار يعقوب قبرص للمرة الأولى عام 2009 لم يكن من الواضح أن حزب الله يعده لمهمة طويلة المدى. وسجّل شركته لدى الحكومة وكانت هذه هي الخطوة الأولى في تأسيس ما أقر أنه كيان تمويهي لتبرير وجوده على الجزيرة. وأخبر الشرطة: «لقد أرادوا أن تكون لهم قاعدة في قبرص لخدمة أغراض حزب الله، ولا أعلم الهدف». وزادت أعباء عمله في نهاية عام 2011 مع تزايد موجة العمليات الإرهابية المنسوبة إلى حزب الله وإيران. وتلقى يعقوب تعليمات تفصيلية بمراقبة سجلات الرحلات الجوية التي يأتي على متنها الإسرائيليون إلى قبرص.

وتنظم شركة «أركيا» الصغيرة رحلات مباشرة من تل أبيب إلى مطار لارنكا الدولي. وكانت الشركة تغير أحيانا المعلومات الخاصة بالوصول لأسباب أمنية، لذا كان يعقوب يقضي ساعات طويلة يجوب فيها المطار ويسجل معلومات عن رحلات الطيران ويراقب الركاب وهم يستقلون حافلات إلى المنتجعات السياحية على الجزيرة.

في الفترات الفاصلة بين الرحلات كان يعقوب ينفذ قائمة طويلة من المهام تشمل المراقبة وجمع المعلومات، ورسَم خرائط للمناطق المحيطة بالفنادق توضح مراكز الأمن والقرب من الشرطة ووحدات الإنقاذ، كذلك التقط صورا فوتوغرافية لمداخل الفنادق وساحات الانتظار، واشترى بطاقات شحن لهواتف جوالة محلية ورصد أماكن مقاهي الإنترنت، واستفسر عن استئجار مخازن لأغراض قال إنه لا يعلم عنها شيئا.