سجناء الأمس هم حراس اليوم في ليبيا الجديدة.. والسنوسي الجائزة الكبرى

جهادي إسلامي سابق من «الجماعة المقاتلة» يتولى مسؤولية سجن «أبو سليم»

جدارية امام سجن أبو سليم بطرابلس («واشنطن بوست» / أ.ف.ب)
TT

يتكون مجمع السجن من بنايات واسعة لا تحمل أي علامات، وضعت أعلاها أكياس الرمال وهي محاطة بأسوار عالية وأسلاك شائكة. غالبية الحراس من أصحاب اللحى الطويلة التي لطالما ارتبطت بالجهاديين الإسلاميين؛ الأشخاص أنفسهم الذين دأب معمر القذافي ورئيس مخابراته عبد الله السنوسي على سجنهم.

لكن إن كانت هناك صورة للعدالة المنشودة في ليبيا ما بعد القذافي، فتلك هي.. فقائد السجن هو محمد قويدر، الجهادي الإسلامي سابق من «الجماعة المقاتلة» الذي قضى أكثر من عقد في السجون الليبية، ويقول إن اثنين من الحراس الذين عذبوه خلال سجنه هم سجناؤه الآن، أما أكبر جائزة، فهي السنوسي ذاته.

ويؤكد قويدر على أن بلاده لن تسلم هؤلاء السجناء إلى هيئات أو حكومات أجنبية، رغم الملاحقات الدولية لسجناء مثل السنوسي وسيف الإسلام القذافي، الذين تلاحقهم محكمة العدل الدولية بتهم القتل الجماعي أو الانتهاكات الأخرى التي وقعت خلال الثورة الليبية.

كما اتخذت الحكومة الليبية الموقف المتعنت نفسه، وتعهدت بمحاكمة السجناء على الأراضي الليبية في اختبار للانتقال الناجح للبلاد من الديكتاتورية إلى الديمقراطية.

وتعلق المحكمة الجنائية الدولية في الوقت الراهن طلبها تسليم سيف الإسلام القذافي، في انتظار نتائج الطعن القانوني على قرار الحكومة الليبية. لكن خبراء القانون يحذرون من المخاطر القانونية المحتملة إذا ما أصرت ليبيا على رفض الانصياع للقانون الدولي.

تبدل الأدوار في ليبيا الذي جاء بالسجناء السابقين وقادة المعارضة والخارجين عن القانون إلى موقع السلطة، يشير إلى فراغ يقول خبراء القانون إن على محكمة العدل الدولية أن تملأه في دول مثل ليبيا حيث تظل الشكوك قائمة بشأن احتمال خضوع للمشتبه بهم في ارتكاب جرائم حرب، لمحاكمات عادلة.

وقال تقرير منظمة حقوق الإنسان السنوي بشأن ليبيا لعام 2013، إن غالبية سجناء ليبيا مكثوا بالسجن لأكثر من عام دون توجيه تهم إليهم أو إجراءات تقاضي صحيحة، بما في ذلك مراجعة قضائية أو الاستعانة بمحام. وتحدث المعتقلون عن حدوث عمليات تعذيب وقتل في بعض السجون.

تشير الإحصاءات الرسمية، إلى أن الكثير من حراس السجن الذين يحرسون نحو 8.000 سجين، تم اعتقالهم أثناء وفي أعقاب الثورة الليبية التي استمرت ثمانية أشهر، هم من السجناء السابقين، أضف إلى ذلك المناصب العليا في الحكومة الليبية والخدمات الأمنية الحكومية التي تغص بالأعضاء السابقين في الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة؛ الجماعة المتطرفة التي قاتلت القذافي خلال حقبة التسعينات.

أنشأ الأعضاء السابقون من الجماعة المتطرفة حرسا جديدا، يسيطر على جزء من المجمع حيث يعتقل السنوسي، بحسب شخصين زارا السجن وطلبا عدم ذكر اسميهما بسبب حساسية القضية. أما سيف الإسلام القذافي، الذي كان المرشح الأوفر حظا في خلافة القذافي، فيقبع في سجن آخر في مدينة الزنتان الجبلية، حيث جرى اعتقاله.

وتقول حنان صلاح، الباحثة الليبية في منظمة حقوق الإنسان، التي التقت قويدر ومسؤولين آخرين في القضاء والسجن، إنه لا توجد مشكلة في إدارة السجناء السابقين للسجون الليبية، لكن الافتقار إلى التدريب والإشراف للتأكد من عدم تعرض السجناء لانتهاكات يمثل مشكلة أيضا.

تعتبر المهمة بالنسبة لقويدر، كحال الكثيرين هنا، شخصية، فقد اعتقل قويدر عام 1986 على خلفية الاتهامات بالتآمر وانتمائه إلى خلية جهادية سرية، خلال عمله في جهاز الأمن الخارجي الليبي، جهاز المخابرات الذي كان يقوده السنوسي.

بعد خروجه من سجن أبو سليم سيئ السمعة عام 1997 حمل قويدر معه الآثار النفسية والبدنية لأكثر من عشر سنوات من التعذيب. ويروي أن بعد خروجه من السجن لم تتعرف عليه ابنته، وكان معصماه لا يزالان يحملان آثار الأصفاد التي اعتاد سجانوه تعليقه منها في سقف الزنزانة. لكن قويدر، 49 عاما، يعتبر نفسه أحد المحظوظين الذين نجوا من مذبحة 1996 التي راح ضحيتها نحو 1.200 شخص في السجن، والتي يعتقد أن السنوسي هو من أشرف على تنفيذها.

عندما سيطر الليبيون على طرابلس في أغسطس (آب) 2011، انضم قويدر إلى القتال وسرعان ما ارتقى بين المراتب ليتولى قيادة ما يوصف بأنه «سجن الشخصيات بالغة الأهمية»، الواقع في منشأة تدريب للقوات الأمنية.

وصل السنوسي إلى السجن قبل خمسة أشهر بعد القبض عليه في موريتانيا ونقله إلى ليبيا. لكن معرفة قويدر الفريدة بمذبحة أبو سليم التي وصفها ساعة بساعة تستند إلى ما قال إنه سمعه ورآه من زنزانته - بما في ذلك تفاصيل تدين السنوسي بشكل مباشر - جعلته شاهدا مهما للمدعين العامين الليبيين الذين يحققون بشأن المزاعم في الانتهاكات التي وقعت إبان حكم القذافي، التي تزيد من تعقيدات منصبه آمرا للسجن الذي يقبع فيه السنوسي.

ويرى بين إيمرسون، محامي حقوق الإنسان البارز، الذي استأجرته عائلة السنوسي للدفاع عنه، أن الوضع مثير للعجب، قائلا: «في أي مكان في العالم يوضع رجل في السجن ويقوم على حراسته الأفراد الذين يزعمون أنهم كانوا ضحايا الجرائم التي ارتكبها هذا الرجل؟»، وأضاف إيمرسون الذي يشغل أيضا منصب المقرر الخاص لحماية حقوق الإنسان والحريات وسط الحرب على الإرهاب في إطار مكتب الأمم المتحدة للمفوض السامي لحقوق الإنسان: «لا أحد في ليبيا ينظر إلى احتمال إجراء محاكمة عاجلة بنوع من الجدية».

وأشار إيمرسون إلى أن «السلطات الليبية كانت مراوغة وتمارس الألاعيب مع محكمة العدل الدولية، ولا توجد نوايا لديها بتسليم السنوسي إلى لاهاي. وعوضا عن ذلك، يبدون رغبة في إدانة وإعدام السنوسي في ليبيا»، قائلا: «الجائزة الأساسية بالنسبة لليبيين هي رؤية هذا الرجل متدليا في نهاية حبل طويل».

تنبع رغبة ليبيا في الاحتفاظ بالسنوسي إلى ارتباطه بآلاف حالات القتل والإصابات والاختفاء التي مارستها قوات القذافي تجاه المدنيين أثناء الثورة، ناهيك بالانتهاكات الأخرى التي مورست أثناء حكم القذافي.

في الوقت ذاته، تبدي حكومات أجنبية رغبة في الحصول على السنوسي؛ إذ يشتبه تنظيمه تفجير طائرة «بان أميركان» فوق لوكيربي في أسكوتلندا، الذي راح ضحيته 720 شخصا، كما تسعى فرنسا إلى اعتقال السنوسي لعلاقته بتفجير طائرة «يو تي إيه» عام 1989. وكان رئيس الوزراء الليبي السابق عبد الرحمن الكيب قد صرح لصحيفة الـ«غارديان» البريطانية العام الماضي بأن السنوسي كان الصندوق الأسود لأشرار نظام القذافي.

حصل إيمرسون على تصريح لزيارة موكله، لكنه قال إن لديه من المبررات ما يدفعه للاعتقاد بتعرض السنوسي للتعذيب. لكن قويدر أكد على عدم تعرض السنوسي أو أي من المعتقلين الآخرين في سجنه للتعذيب، و«هو ما يجعلهم محظوظين للغاية لوجودهم هنا».

وقال، مشيرا إلى المذبحة التي جرت في سجن أبو سليم: «لو نظرت إلى الأمر من الناحية المنطقية، لكان المفترض أن أنتقم منه لأنه المسؤول عن مقتل 1.270 شخصا؛ كثير منهم كانوا أصدقائي، لكني لم أفعل»، وقال إن كل سجنائه «يتمتعون بحق رؤية الطبيب في أي وقت خلال اليوم، ويأكلون طعام الحراس نفسه».

في أحد السجون الأخرى، يقبع السجناء دون محاكمة منذ ما يقرب من عامين، بحسب وزير العدل الليبي صلاح ميرغني، الذي قال إن التحقيقات تسير ببطء، والمحققون قليلو العدد والمحامون أكثر منهم ندرة، وهو ما يثير الشكوك بين منظمات حقوق الإنسان إزاء العملية المترتبة على ذلك.

وقال الميرغني: «ما يثير الأسى، هو أن ثقافة التعذيب لم تنته بعد الثورة. إن ليبيا تعاني من مشكلة، فهناك سجون تحاول الخروج عن السيطرة، ونحن نعمل على تغيير ذلك».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»