مصر: رئاسة وعسكر.. وبينهما «قشر بيض»

تبدل مزاج الرأي العام المصري لصالح المؤسسة العسكرية

TT

ليس سهلا معرفة المزاج الحقيقي للرأي العام في القاهرة، مركز الحركة السياسية في مصر، فالبعض قد يجامل الزائر خاصة إذا كان أجنبيا بعد أن يستشف رأيه أو يكون حذرا. لكن مارس (آذار) 2013 يبدو وكأنه لا أحد لديه وقت للمجاملة أو الحذر فيه، فالجميع يتحدث بصراحة وبانفعال وصخب، وفي أحيان كثيرة يتحدث الجميع في وقت واحد، فلا يستمع أحد لأحد أو يحظى أحد بفرصة كافية لشرح وجهة نظره.

مارس 2013 في القاهرة مائل للبرودة خاصة في الساعات الأولى من الصباح أو ليلا، مع مناخ لطيف طوال النهار، لكن سخونة الأعصاب والسياسة تطغى على كل شيء. الجميع يتحدث سياسة، من سائق التاكسي الغاضب على الأوضاع والذي أخذ يخلع قميصه وهو يقود سيارته وسط زحام مرور لا يطاق ليمثل بانفعال مشهد الرئيس مرسي عندما ذهب إلى ميدان التحرير بعد انتخابه وفتح قميصه ليظهر أنه لا يرتدي سترة واقية من الرصاص كما كان يفعل الرئيس السابق ويؤكد أن هذا تغير الآن.. إلى ماسح الأحذية ذي التجاعيد الصعيدية والذي تحدث إلى الأفنديات الذين كانوا يشاكسونه وهو ينظف لهم أحذيتهم وهم يحاولون معرفة وجهة نظره قائلا بحكمة «أليس الرئيس منتخبا بإرادة شعبية، والناس هم الذين صوتوا له؟»، متسائلا «إذن لماذا هم غاضبون ولا ينتظرون نهاية مدته؟!»، ويبدو أنه هو الذي كان يشاكس الأفنديات لأنه ختم حديثه قائلا «هذا البلد لا ينفعه سوى شخصية عسكرية تحكمه حتى يستطيع أن يسيطر على الأمور».

الحديث عن العسكر كحل للأزمة هو البارز على السطح حاليا، بما في ذلك سيل الشائعات التي لا يعرف أحد حقيقتها عن العلاقة بين مؤسسة الرئاسة والمؤسسة العسكرية، وبالمناسبة فإن المؤسسة العسكرية المصرية لا تحب كلمة العسكر التي تطلقها أجهزة الإعلام أو المحللون عليهم، باعتبار أنهم يعتبرون أنفسهم جيش الشعب، وجنوده وضباطه هم مصريون عاديون، وهناك تاريخ طويل من المواقف وقف فيها دائما الجيش إلى جانب الإرادة الوطنية أو كان مدافعا عنها، وهي دائما كانت علاقة فيها قدر من الثقة حتى لو تعرضت في بعض الأحيان إلى هزات مثلما حدث بعد هزيمة 1967 أو في الفترة الأخيرة من حكم المجلس العسكري قبل تسليم السلطة بعد انتخابات الرئاسة العام الماضي إلى الرئيس محمد مرسي القادم من جماعة الإخوان المسلمين والتي يتعامل معها الجميع حاليا باعتبارها الحزب الحاكم ويحملونها كل المشاكل التي تحدث.

وقد تبدل مزاج الرأي العام 180 درجة بين منتصف العام الماضي الذي كانت تسود فيه شعارات يسقط حكم العسكر، وشعرت أجزاء مهمة من النخبة السياسية بالراحة وقتها بعد أن أحال الرئيس مرسي المشير طنطاوي وزير الدفاع السابق ورئيس الأركان السابق الفريق سامي عنان إلى التقاعد، باعتبار أن الرئيس المدني يحكم قبضته على السلطة.

الآن أجزاء من هذه النخبة ومعها قطاعات شعبية أصبحت لا تمانع في عودة العسكر أو المؤسسة العسكرية لإدارة فترة انتقالية جديدة خلاصا مما تعتبره الآن محاولات سيطرة وإقصاء للقوى الأخرى وهيمنة على أجهزة الدولة من قبل الإخوان المسلمين.

بالمناسبة فإن اللاعبين الرئيسيين على الساحة وصاحبي القوة والقدرة على التأثير والتنظيم وقلب الأوضاع لا يزالان جماعة الإخوان المسلمين والقوات المسلحة، بينما تكسب كما يبدو جبهة الإنقاذ المنضوية تحتها الأحزاب والشخصيات المعارضة للإخوان أرضا وشرعية بين الرأي العام، بينما لا تزال قدرتها على ترجمة ذلك إلى أصوات في صناديق الانتخاب غير واضحة حتى الآن بسبب ما يحتاجه ذلك من قدرات تنظيمية وقدرة على الاتفاق والتغلب على الخلافات بين التيارات المختلفة فيها.

7 أشهر تبدل فيها المزاج تقريبا من شعارات يسقط حكم العسكر إلى ما يشبه يحيا حكم العسكر، بدليل حملة جمع التفويضات والتوكيلات في محافظة بورسعيد المتمردة ومحافظات أخرى لصالح القوات المسلحة لإدارة شؤون البلاد، مستعيدين ما حدث من تفويضات وتوكيلات قام بها الشعب لسعد زغلول زعيم ثورة 1919، وهو شيء توحي البيانات العلنية للجيش بأنه لا يريد التورط فيه حاليا، باعتبار أن طنطاوي وعنان رغم كل الأحداث الساخنة والتقلبات التي شهدتها العملية الانتقالية قبل تسليم السلطة نجحا في الخروج بالجيش آمنا ومتماسكا وغير منقسم، وهو شيء غير مضمون لو تورط الجيش مجددا في الشأن السياسي، فضلا عن أن المؤسسة العسكرية خسرت ما يصل إلى 11 مليار جنيه من ميزانيتها في تلك الفترة على حد قول قائد عسكري سابق.

وسط كل ذلك تموج القاهرة بالشائعات والتسريبات التي لا يستطيع أحد الجزم بمدى دقتها أو صحتها عن العلاقة بين مؤسسة الرئاسة والجيش، بينما ينفي الاثنان علانية وجود أي خلافات، إلى درجة أن الرئيس مرسي أجاب عن أسئلة صريحة في آخر مقابلة تلفزيونية له في مصر، مؤكدا أن العلاقة قوية بينه وبين القوات المسلحة، نافيا التسريبات أو الشائعات التي كانت قد صدرت عن عزمه إقالة وزير الدفاع الفرق أول عبد الفتاح السيسي. كما عمدت القوات المسلحة أكثر من مرة إلى نفي عزمها التدخل بشكل مباشر في الشأن السياسي إلا أنها أكدت أنها تراقب الوضع السياسي بدقة.

والأرجح أن تكون الكثير من هذه الشائعات لا تستند إلى حقائق أو تمنيات أو ضمن حروب القوى السياسية ضد بعضها، وإن كان المؤكد هو أن العلاقة فيها قدر من الاستقلال بين المؤسستين، وهو وضع ليس استثنائيا في التركيبة السياسية المصرية، فقد كان هذا هو الحال في زمن عبد الناصر والسادات ومبارك. وعلى حد وصف وزير سابق فإن «علاقة الرئيس السابق مبارك، وهو عسكري وقائد سابق للطيران، مع المؤسسة العسكرية كانت أشبه بالمشي على قشر بيض، فما بالنا بالعهد الحالي، والرئيس لم يأت من المؤسسة العسكرية التي خرجت كل الرؤساء منذ يوليو (تموز) 1952؟».

مظاهر الحياة طبيعية في القاهرة باستثناء بؤر التوتر في بعض الميادين خاصة ميدان التحرير الذي أصبح سيئا خاصة لسائقي التاكسيات الذين لا يعرفون متى يفتح ويغلق الميدان، ويحاولون تفاديه خوفا من المشاكل، بينما لا يعرف على وجه التحديد من الذي يسيطر عليه، لكن الأزمة تبدو على الوجوه مع القلق من المستقبل والسؤال الدائم إلى أين تسير مصر، ومعه أيضا النقد والخوف من أخونة الدولة الذي يبدو أن هناك رأيا عاما عريضا يقف ضده وبشراسة، وهو ما ينفيه الإخوان بشكل قاطع أيضا. ففي جلسة خاصة قال بالحرف أحد قياداتهم إن ثورة 25 يناير (كانون الثاني) لم تحدث لأسباب دينية أو رغبة في تطبيق الشريعة، ولكن من أجل تحقيق مبادئ سياسية ومجتمعية هي الحرية والكرامة والعدالة، وهي مبادئ لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، لكن لم يخرج أحد إلى الشارع ضد النظام السابق رغبة في تطبيق الشريعة.

لكن يبدو أن كل هذا الكلام التطميني قد فات أوانه لسبب أو آخر بعد الدستور وقانون الانتخابات وعدم الاستجابة لمطالب المعارضة بتغيير الحكومة خاصة في الحكم المحلي الذي يعد حاسما في اللعبة الانتخابية، فالثقة مفقودة، والجميع يتجه إلى صدام مع الاستحقاق الانتخابي في أواخر أبريل (نيسان)، ولا أحد يعرف هل ستتم هذه الانتخابات أم لا، وإذا تمت هل تكتسب شرعية خاصة إذا حدثت مقاطعة واسعة، أم لا، في ظل وجود عدة محافظات أهمها بورسعيد خارج السيطرة، وعصيان وصل حتى إلى الأمن المركزي في إحدى محافظات الدلتا، والجميع يعرف أن الاقتصاد يترنح، وأنه يجب مسابقة الزمن من أجل إبرام الاتفاق مع صندوق النقد الدولي حتى يعطي شهادة لتدفق المساعدات الدولية، وبغير ذلك فإن الوضع أشبه بطائرة ومقدمتها إلى أسفل في اتجاه الاصطدام بالأرض.

القوى السياسية ترى في الجيش منقذا أو حلا محتملا، إذا حدث الانهيار، من دون أن تكون لديها رؤية لما بعد ذلك، والسؤال الأهم هو: هل الجيش نفسه مستعد لذلك؟.. التصريحات العلنية، وحتى غير العلنية، لا توحي بذلك، فهذه ليست 25 يناير أخرى، ولا يوجد توافق عام محلي أو دولي يسمح بذلك ويعطي شرعية إلا في حالة فوضى عارمة وانهيار الدولة، وإن كان الوضع على حد قول ناشط من الفريق الداعي لمقاطعة الانتخابات يحتمل جميع الاحتمالات، لكن الرهان على شهور قليلة ليس واقعيا.