شافيز.. شعلة أمل لم تدم

فنزويلا جنت خلال حكمه 500 مليار دولار بفضل النفط -.. لكن أعداد الفقراء ظلت دوما في ارتفاع

وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف يكتب في سجل تعازي وفاة شافيز خلال زيارته للسفارة الفنزويلية في موسكو أمس (رويترز)
TT

التقيت للمرة الأولى الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، في عام 2002، بعد قيامه بإحدى رحلاته إلى إيران. تناولنا العشاء في مطعم إيطالي بباريس رفقة عدد قليل من الزملاء. ورغم تطرق الحديث إلى عدة موضوعات، سيطر موضوعان رئيسيان على الحوار، الأول «إصراره» على القضاء على الفقر في فنزويلا. وأكد أثناء تناوله لزجاجة نبيذ من نوع «شاتو لافيت»: «لا يوجد أي سبب أن يظل أحد فقيرا في بلد غني بالثروات مثل بلدنا، امنحني أربعة أعوام فقط وسترى النتيجة». وكان الموضوع الثاني هو زعم شافيز أن الكنيسة الكاثوليكية تحاول إفساد ثورته الاجتماعية بإيعاز من «نخبة الأثرياء». ويصور شافيز نفسه على أنه من أنصار فكر سيمون بوليفار، محرر أميركا اللاتينية من قوى الاستعمار، ويشير إلى التزام بطله بـ«الحكومة العلمانية».

لقد قال بوليفار إنه في الوقت الذي يتمتع فيه أي فرد بحرية الاعتقاد الديني، لا ينبغي أن يكون للدولة أي دين. أما بالنسبة للمجتمع ككل، فينبغي أن يكون للدولة عقيدة واحدة هي ممارسة الحرية في إطار سيادة القانون. وفي هذا السياق، انتقد شافيز بشكل خاص نظام الحكم الديني الذي أقامه الراحل آية الله الخميني في إيران. وأعرب عن إعجابه بالثورة الإيرانية وقال إنه هام حبا في جمال الطبيعة الإيرانية وثرائها الثقافي قائلا على حد تعبيره: «يا لجمال تلك الورود في أصفهان!»، لكنه مع كل هذا لم يكن يشعر بالارتياح إزاء محاولات الملالي فرض تفسيرهم للشريعة على جميع الإيرانيين.

يجب أن أعترف أنني في ذلك الوقت، شعرت بشيء من التعاطف نحو شافيز. لم يسبق لي أن شعرت بنوع من الدفء تجاه أي من قادة فنزويلا السابقين الذين صنعوا أجواء أرستقراطية زائفة وأساءوا بشكل سافر إلى الشعوب «الهندية» والمختلطة، والذين شكلوا أغلبية سكان البلاد. ولعل ما يعزز تعاطفي هو انتخاب شافيز بطريقة ديمقراطية وتعهده رسميا بتحسين حياة المطحونين. لذا عندما قام مجموعة من ضباط الجيش بانقلاب عسكري واحتجزوا شافيز لفترة وجيزة كرهينة، أعربت عن غضبي واعتراضي على تأييد واشنطن لهؤلاء المتآمرين في مقال نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» في 18 أبريل (نيسان) 2002. كان موقف الولايات المتحدة غريبا، وخصوصا أنه يخالف الاتفاقية التي وقعتها مع جميع دول أميركا الجنوبية، باستثناء كوبا، والتي تنص على عدم الاعتراف بأي أنظمة تكون وليدة أي انقلاب عسكري. والأسوأ من ذلك أن واشنطن كانت القوة الرئيسية التي تدعم تلك الاتفاقية. كنت أعتقد أن شافيز جدير بأن يقضي فترته الرئاسية التي تبلغ أربعة أعوام.

التقيت شافيز ثانيا في عدة مناسبات من ضمنها المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بغية إجراء بعض المقابلات، وفي كل لقاء يبدو عليه أن الآيديولوجية القديمة المتعلقة بمعاداة الولايات المتحدة تستحوذ على عقله. وقد تجاهل في إحدى المرات رئيس جمهورية بيرو، أليخاندرو توليدو، عمدا. وفي مناسبة أخرى ضحك ساخرا ردا على سؤال بشأن الرئيس الكولومبي السابق ألفارو أوريبي. يعتقد شافيز أن أي رئيس في قارة أميركا اللاتينية لا يناهض سياسة الولايات المتحدة هو ألعوبة في يد واشنطن، حتى إن الرئيس البرازيلي السابق، لويس إغناسيو لولا دا سيلفا، الذي يعتبر يساريا معتدلا وزعيما نقابيا سابقا، لم يلق أي استحسان من قبل شافيز الذي يرى أنه لين العريكة مع أميركا.

هل يعاني شافيز من شلل سياسي وفكري نتيجة هوسه بمناهضة الولايات المتحدة؟ كان ذلك السؤال هو الذي خطر ببال أولئك الذين أرادوا لشافيز النجاح في نهاية فترة رئاسته الأولى.

ومع رحيل شافيز خلال ولايته الرئاسية الثالثة، يكون قد قضى في السلطة أكثر من 12 عاما، أي ثلاثة أمثال المدة التي طلبها خلال لقاء المطعم الإيطالي بباريس. يعود لشافيز الفضل في ارتفاع أسعار النفط؛ حيث إن فنزويلا قد حصلت على ما يقرب من 400 مليار دولار من صافي عائدات صادرات النفط. أضف إلى هذه العائدات اقتراض الحكومة لنحو مائة مليار دولار. وهذا يعني أن المحصلة النهائية 500 مليار دولار، وذلك مع عدم الوضع في الاعتبار عائدات الحكومة من الضرائب وغيرها من الرسوم الجمركية. وارتفع حجم الدين العام الداخلي والخارجي في فنزويلا، في عهد شافيز، حاليا من 21 مليار دولار في عام 1998 إلى ما يقرب من 60 مليار دولار. وتوضح تقارير حكومته ارتفاعا مطردا في عدد السكان تحت خط الفقر. ورغم الطفرة الضخمة من المليارات التي تمت مصادرتها من الأموال الأجنبية من المصرف المركزي الفنزويلي، أصدرت الحكومة سندات بقيمة أربعة مليارات دولار سنويا لتغطية العجز الدائم في الميزانية.

ما الذي حدث؟ ماذا فعل شافيز بالثروة غير المسبوقة التي حصلت عليها فنزويلا تحت قيادته؟ يكمن جزء من الإجابة في حقيقة أن فنزويلا تتصدر قائمة رؤوس الأموال الهاربة بين دول أميركا اللاتينية، فقد حول الفنزويليون على مدى الاثني عشر عاما الماضية الكثير من المليارات إلى المصارف الأجنبية، وأكثرها أميركية. وأنفق شافيز أيضا المليارات لمساعدة كوبا وتوزيع النفط إما مجانا أو بسعر مخفض على الكثير من البلدان بما في ذلك بعض المناطق الأميركية. وخلال زياراته إلى إيران، امتد هذا السخاء ليطال الجمهورية الإسلامية من خلال تعهده بتوريد وقود السيارات منخفض التكلفة لسد نقص أدى بالفعل إلى اندلاع أعمال شغب في جميع أنحاء البلاد بين عامي 2006 و2008.

من الواضح أن شافيز على مدار حياته قرر أن يقدم نفسه في صورة «المناضل المناهض للإمبريالية الأميركية»، وبمجرد اتخاذه لهذا القرار، أصبحت كل الاهتمامات الأخرى ثانوية. ويمكن لمسألة القضاء على الفقر أن يتم تأجيلها لوقت لاحق. أما بالنسبة لفكر وفلسفة سيمون بوليفار فبالإمكان تحريفها لتتناسب مع «الخطاب البطولي» الجديد. استطاع شافيز بالتأكيد وضع حجر الأساس لما يسميه «التحالف البوليفاري» في أميركا اللاتينية، ولكن الأنظمة التي نجح في جذبها للتحالف، وهي كوبا ونيكاراغوا والإكوادور وبوليفيا، تعد أقدم الأنظمة شبه الشيوعية ولا تتوافق مع المبادئ التي أنشئ عليها التحالف البوليفاري. ويعد انضمام الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى «التحالف البوليفاري» في عام 2008 أكبر دليل على أن ما يقود هذا التحالف هو عداء الولايات المتحدة الأميركية لا القيم البوليفارية الحقيقية. وضع شافيز جانبا الراية البوليفارية عام 2008 خلال زيارته للجمهورية الإسلامية، وهي السادسة له خلال ثمانية أعوام. وزار قبر الخميني للصلاة على حاكم باسم الدين متعطش للدماء، لقي خلال فترة حكمه أكثر من 1.5 مليون إيراني حتفهم جراء الحرب وعمليات القمع الحكومية. ووصف شافيز نظام الخميني بأنه نموذج لـ«الروحانية السياسية» ومثال رائع للبشرية. لقد كان متحمسا خاصة في إطرائه للرئيس محمود أحمدي نجاد. إذا كان لنا أن نصدق وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية، اضطلع شافيز بدور رئيسي ناجح في ضمان محاولة أحمدي نجاد أن يصبح زعيما لحركة دول عدم الانحياز ويقودها في حملة جديدة تهدف إلى «تقويض الإمبريالية الأميركية». وقال شافيز: «سنكون معكم في المقدمة، يجب علينا هزيمة الولايات المتحدة وحلفائها أينما كانوا».

سافر أحمدي نجاد وشافيز إلى جنوب إيران، حيث يوجد مجمع البتروكيماويات العملاق الذي لا يزال تحت الإنشاء منذ عدة سنوات. وبينما كان يمشي الاثنان جنبا إلى جنب ويتبادلان عبارات الود، زارا مدينة عسلوية، أكثر المناطق حرمانا في أعماق الجنوب الإيراني الفقير. وهناك تحدث شافيز عن حق «الجماهير الكادحة» في حياة أفضل. وألغى جزءا من زيارته لتجنب الالتقاء بعمال البناء الذين دخلوا في إضراب منذ أسابيع. وإحدى شكواهم عدم تقاضي رواتبهم منذ ستة أشهر. وألقت الشرطة السرية القبض على الكثير من قادتهم وتم اقتيادهم إلى وجهات غير معروفة. وكثيرا ما يتعرض عمال مدينة عسلوية للضرب من قبل ‎بلطجية يعملون لحساب الشركات الحكومية والشركاء الأجانب.

يأتي أكثر العمال في مدينة عسلوية، البالغ عددهم نحو 60 ألفا والذين يعانون من فقر مدقع، من جميع أنحاء إيران لكسب لقمة العيش للإنفاق على عائلاتهم. ولا يسمح لهم بزيارة أسرهم في كثير من الأحيان لعدة أشهر متوالية. ووصفت مؤخرا دراسة أجرتها جامعة شيراز الأوضاع في مواقع العمل في مدينة عسلوية‎ بأنها «أقرب إلى معسكرات السخرة». ويمكن أن يصل متوسط ساعات العمل إلى سبعين ساعة أسبوعيا، وأكثر العمال الذين يعملون بشكل يومي، لا يحصلون على إجازات مدفوعة الأجر على الإطلاق، ويعيشون في أكواخ مكتظة يوفرها لهم أصحاب العمل، ويتقاضون راتبا يدفع نصفه في الإيجار. ويتوافر الغذاء والضروريات الأخرى في المحلات المملوكة للشركة، غالبا بأسعار ضعف الأسعار في المحافظة.

لقد أصر بوليفار على فصل الدين عن الدولة وانحاز إلى جانب الفقراء. وأراد أن تسعى أميركا اللاتينية إلى التحالف مع دول غربية ديمقراطية، لا ملوك الشرق. لقد أراد بوليفار أن تنافس أميركا اللاتينية الولايات المتحدة الأميركية بدعم الحريات بها وتطوير نظام التعليم وتحقيق نمو اقتصادي وتنمية الثقافة بها. لم يكن يعتقد أن السعي إلى تدمير الولايات المتحدة هدفا يستحق العناء بالنسبة لأي شخص عاقل لا دولة بأكملها. تعد الدعاية المبتذلة الرخيصة المناهضة للأمركة، آخر ملجأ لكل الأوغاد والأنذال، وهي ليست مما دعا إليه بوليفار. هل يمكن القول إن شافيز مثل بوليفار؟ يستطيع عمال عسلوية الإجابة عن هذا السؤال أفضل مني. لقد أصبح شافيز طرفا في استراتيجية محكوم عليها بالفشل وضعها الملالي الذين يحكمون إيران من خلال «جهادهم» البائس ضد الغرب «الكافر» الذي تقوده الولايات المتحدة. وتقوم هذه الاستراتيجية على تركيبة بسيطة، وهي أن أميركا تحاول رمي الشباك على إيران بمساعدة حلفائها في المناطق المحيطة، لذا ينبغي على إيران أن ترد برمي الشباك هي الأخرى من خلال إقامة تحالف في الباحة الخلفية للولايات المتحدة وهي أميركا الجنوبية.

أسس تنظيم حزب الله، المدعوم من مسلحي الخميني، منذ نهاية الثمانينات قاعدة في باراغواي من خلال تجنيد عناصر بين الشيعة الذين يمثلون 15% من السكان. وكان لهذه القاعدة دور محوري في ضمان فوز فرناندو لوغو بالانتخابات الرئاسية عام 2008، خاصة بفضل حملة جمع الأموال التي دعمتها كل من إيران وفنزويلا. وكانت كوبا أول دولة في أميركا اللاتينية تشكل تحالفا مع إيران. وضخت إيران خلال الثلاثين عاما الماضية مليارات الدولارات في اقتصاد كوبا الحليفة لها. وكانت بعض تلك المليارات على هيئة نفط خام مجاني.

ومع ذلك لم تر طهران شافيز حليفا حقيقيا في أميركا اللاتينية إلا بعد عام 2000، وذلك عقب كشف الرئيس الفنزويلي عن «توجهاته الثورية». وساعد شافيز إيران في تأسيس محور راديكالي في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) مع ليبيا خلال فترة حكم معمر القذافي، والجزائر، بصفتهما من الحلفاء المؤقتين. وازداد عمق العلاقات بين طهران وكراكاس بعد تولي أحمدي نجاد الرئاسة، حيث أعادت الجمهورية الإسلامية إحياء السياسة المناهضة للولايات المتحدة. وزار الرئيس الإيراني أميركا اللاتينية ست مرات خلال سبع سنوات، أي أكثر من أي منطقة أخرى. وكان لهذا النفوذ دور كبير في تشجيع شافيز على زيادة حدة موقفه المناهض للولايات المتحدة. لدى كل من أحمدي نجاد وشافيز سبب يجعلهما سعيدين بما يفعلانه، وهو تراجع نفوذ الولايات المتحدة في باحتها الخلفية.

لكن ماذا عن ثمار بوليفار الموعودة التي ينتظرها الشعب الفنزويلي؟ لا يوجد أدنى شك في أن التصدي لـ«عملاق الشمال» مصدر فخر في دولة لطالما كان رهاب الأجانب فيها جرعة سياسية قوية وفعالة. إن وجود تحول كبير جذري في النخبة الحاكمة أمر إيجابي، فقد تمكن أفراد الشعب الفنزويلي خلال فترة حكم شافيز من الوصول إلى مناصب رفيعة مهمة في الإدارة والقوات المسلحة. ولم تعد الوظائف العليا حكرا على الأفراد الذين يزعمون أن «دماء نبيلة نقية» تجري في عروقهم أو الذين حصلوا على شهادات من جامعات عريقة في الولايات المتحدة.

وكان نائب الرئيس، نيكولاس مادورو، سائق حافلة. ودائما ما كان يقدمه شافيز بحس دعابة قائلا: «انظروا إلى سائق الحافلة. انظروا إلى أي مدى وصل بحافلة الثورة». ومكن تعيين آلاف الأطباء والممرضات من كوبا شافيز من توفير الحد الأدنى من الرعاية الصحية للشعب الفنزويلي للمرة الأولى في تاريخه. واستثمرت حكومة شافيز الأموال في بناء آلاف الوحدات السكنية منخفضة السعر للفقراء من بينها 4 آلاف شقة تولت مجموعة شركات إيرانية بناءها. مع ذلك يمكن القول إنه لو لم تنفق فنزويلا الكثير من المال على حملات شافيز المناهضة لأميركا، وتشتري أسلحة روسية وصينية وبرازيلية وإيرانية لا حاجة لها، ربما كانت حققت المزيد من الإنجازات في القضاء على الفقر.

إن قرار شافيز بتبني سياسة مناهضة لأميركا لتكون الركيزة الأساسية التي تقوم عليها استراتيجيته أكبر من مجرد خطأ، فهو لم يكن ضروريا. وتعد الولايات المتحدة السوق الرئيسية لصادرات فنزويلا من النفط. كما تعد أكبر مستثمر في الاقتصاد الفنزويلي. وتملك شركة النفط الفنزويلية التابعة للدولة مصافي تكرير في الولايات المتحدة أكثر من أي شركة نفط أجنبية أخرى. بوجه عام، يذكر شافيز بزر تشغيل الأضواء الذي يطفئ الأنوار مثلما يضيئها بالضبط، فقد كان رجلا أوقد شعلة آمال في النفوس قبل أن يسارع بإخمادها. لقد دفعت فنزويلا ثمنا سياسيا باهظا تمثل في القيود التي فرضها شافيز على وسائل الإعلام الخاصة. ويواجه منتقدو النظام ضغوطا كثيرة مستمرة ويتم نفيهم أحيانا. وبالتأكيد تضاءلت الحرية السياسية في فنزويلا اليوم عن الفترة التي كان يرتشف فيها شافيز النبيذ في ذلك المطعم الباريسي.