البابا الجديد يبدأ حبريته بشعار البساطة لتقريب الكنيسة إلى الناس

أبعاد تاريخية لاختيار أول رئيس للكنيسة الكاثوليكية من أميركا اللاتينية

TT

بدأ بابا الفاتيكان الجديد، فرنسيس الأول، حبريته أمس، بزيارة إلى كنيسة مريم الكبرى في روما، ثم أحيا لاحقا قداسا مع الكرادلة في كنيسة سيستين داخل الفاتيكان، فيما يستعد لأداء طقوس دينية أخرى خلال الأيام المقبلة استعدادا للقداس الاحتفائي بتنصيبه، في 19 مارس (آذار) الحالي، اليوم المصادف لعيد القديس يوسف. وقال الأب لودوفيتشو ميلو، الذي أدى صلاة مع البابا الجديد أمس، إن البابا «تحدث معنا حديثا وديا مثل حديث الأب»، و«كنا قد تبلغنا بأن البابا قادم قبل عشر دقائق فقط من وصوله». واعتبر مراقبون لشؤون الفاتيكان أن البابا الجديد يريد بدء حبريته بشعار البساطة سعيا لتقريب الكنيسة إلى عموم الناس.

وبعد انتخابه من قبل الكرادلة الناخبين في الفاتيكان مساء الأربعاء، بات خورخي ماريو برغوليو، أول بابا من أميركا اللاتينية وأول بابا غير أوروبي منذ 1300 عام. وهو يحمل أيضا لقب أسقف روما. وفي أولى كلماته بعد انتخابه، أوضح أنه سيأخذ ذلك الجانب من مهامه بجدية، وأوفى بوعده بزيارة واحدة من أهم كنائس العاصمة. وتوجه البابا أمس أيضا إلى المقر البابوي الصيفي في قلعة جاندولفو جنوب روما للاجتماع مع البابا الفخري بنديكتوس السادس عشر الذي أصبح الشهر الماضي أول بابا يتخلى عن كرسي البابوية منذ سبعة قرون قائلا إنه بلغ من الضعف درجة لا يستطيع معها التعامل مع مشاكل كنيسة يتبعها 1.2 مليار نسمة.

وأدى انتخاب الكاردينال برغوليو الأرجنتيني الجنسية، الذي اختار اسم فرنسيس الأول اسما بابويا، إلى كسر قبضة أوروبا التي استمرت عدة قرون على كرسي البابوية. وهو أيضا أول من يحمل اسم فرنسيس تكريما لقديس عاش في القرن الثاني عشر تخلى عن ثروته ليحيا حياة الفقراء. وجاء انتخاب البابا في اليوم الثاني من الاجتماع المغلق لمجمع الكرادلة وكان بمثابة مفاجأة، حيث كان كثيرون من مراقبي شؤون الفاتيكان يتوقعون مداولات أطول، ولم يتوقع أحد أن يتم انتخاب الكاردينال برغوليو المحافظ البالغ من العمر 76 عاما.

والبابا الجديد، الذي خرج مبتسما الأربعاء بعد انتخابه إلى شرفة كاتدرائية القديس بطرس وسط هتافات «فليحيا البابا» من قبل عشرات آلاف الأشخاص المحتشدين في الساحة، خصص أول صلاة له لسلفه بنديكتوس السادس عشر، ودعا إلى «الأخوة» بين الكاثوليك. وقال «الكرادلة استدعوني من آخر أصقاع الدنيا»، في إشارة إلى الأرجنتين التي يتحدر منها. ودعا المؤمنين إلى «السير على طريق الأخوة والمحبة» و«التبشير بالإنجيل»، وطلب من الحشود الوقوف دقيقة صمتا، وقال «صلوا من أجلي وامنحوني بركتكم».

وقالت امرأة خارج الكنيسة صباح أمس «لقد نقل إلينا أمس مشاعر التواضع والمحبة والأخوة». ومساء الأربعاء، عبر القساوسة والراهبات والزوار عن ابتهاجهم في منتصف ساحة القديس بطرس، وأخذوا يرددون «يعيش البابا» و«الأرجنتين.. الأرجنتين». وفي بلده الأرجنتين، تدفق الكاثوليك على الكنائس المحلية للاحتفال. وقال خورخي أندريس لوباتو، وهو ممثل ادعاء متقاعد عمره 73 عاما «آمل أن يغير كل مظاهر الأبهة الموجودة في الفاتيكان، وأن يوجه الكنيسة نحو اتجاه أكثر تواضعا إلى شيء أقرب إلى الإنجيل».

وفي ما يدل على المفاجأة الكبرى التي أحدثها انتخاب برغوليو، أشارت الصحف الإيطالية الصادرة أمس إلى «ثورة في الفاتيكان». وكتبت صحيفة «لاريبوبليكا» في افتتاحيتها «ثورة في الفاتيكان» أن الفضائح الأخيرة داخل إدارة الكنيسة أسهمت في انتخاب هذا البابا بدلا من الكاردينال الإيطالي أنجيلو سكولا الذي كان من بين الأوفر حظا.

وبانتخابهم برغوليو على رأس الكنيسة الكاثوليكية، يكون الكرادلة قد قاموا بخيار تاريخي، كونه أول بابا من أميركا اللاتينية، القارة التي تضم أكبر عدد من الكاثوليك في العالم والتي كانت تشعر بأنها لا تحتل مكانتها المناسبة. وهذا اليسوعي الذي نافس جوزيف راتسينغر في مجمع الكرادلة عام 2005 لم يكن اسمه على «اللائحة المصغرة» للمرشحين الذين جرى التداول بأسمائهم بسبب سنه. وله صورة معتدل، وإصلاحي على الصعيد الاجتماعي، وبراغماتي ذو شخصية محببة.

وهي المرة الثانية على التوالي التي يختار فيها الكرادلة بابا مسنا. وكان راتسينغر انتخب وهو في سن الثامنة والسبعين. لكن هذه الانتخابات جرت في إطار جديد تماما خلقته استقالة بابا للمرة الأولى منذ 700 عام. وبالتالي فإن السابقة التي سجلها جوزيف راتسينغر بإعلان استقالته قبل شهر، وهو في سن الـ85 عاما، خلقت معطيات جديدة وهي أن رئيس الكنيسة الكاثوليكية يمكنه أن يقرر الاستقالة إذا كان مرهقا.

ويرى الخبير في شؤون الفاتيكان برونو بارتولوني أن الكاردينال برغوليو الذي كان الأوفر حظا في منافسة جوزيف راتسينغر في مجمع 2005 «هو رجل صلب وبراغماتي وفعال ويمكن أن يقوم بشيء متين خصوصا في مجال إصلاح الكنيسة». وأضاف «على الصعيد الاجتماعي فإنه منفتح كثيرا على الأرجح، ومن دون شك محافظ حول قضايا الأخلاق» على غرار كل الكرادلة الذين عينهم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني (الذي عينه) أو بنديكتوس السادس عشر. واعتبر برونو بارتولوني أيضا أن «الكرادلة اختاروا حلا سهلا، ولم ينطلقوا في مغامرة»، مؤكدا أنه على غرار راتسينغر في 2005، فإن الكاردينال برغوليو معروف من قبل كل الكرادلة.

ويتولى الأرجنتيني رئاسة الكنيسة الكاثوليكية في وقت تشهد فيها مشاكل كثيرة. فهي منقسمة وتواجه منافسة شديدة وفضائح جنسية - لا سيما قيام كهنة باستغلال أطفال جنسيا - أدت إلى ضرب مصداقيتهم في بعض الدول. كما تواجه صعوبات في توصيل رسالتها إلى العالم الحديث، وليس من سبيل المصادفة تحدث البابا الجديد في كلماته الأولى عن «التبشير الجديد بالإنجيل». وهناك أولوية ملموسة لدى الأبرشيات وهي البحث عن حلول عملية لكي يمكن توصيل تعاليم الإنجيل في غياب الكهنة، ولكي يمكن اعتماد إصلاحات تتيح تغيير التوجه في أزمة انضمام كهنة جدد في الغرب. وثمة إصلاحات أخرى مطلوبة على سبيل المثال مثل زواج كهنة، لكن من غير الأكيد أن يكون البابا الجديد على استعداد للقيام بذلك. وإذا لم يتم اعتماد هذه الإصلاحات على المدى الطويل فإن حركة الاحتجاج القوية أساسا في دول مثل النمسا، يمكن أن تمتد سريعا إلى دول أخرى بما فيها أميركا اللاتينية، حسبما رأت وكالة الصحافة الفرنسية في تقرير لها.