بابوية برغوليو فتحت دفاتر ماضيه مع المؤسسة السياسية في بلده

نفى التواطؤ مع العسكر خلال «الحرب القذرة» ومعارك حول القضايا الاجتماعية

صورة قديمة لبرغوليو (يمين) أثناء سفره بقطار في بيونس آيرس، نشرت أمس نقلا عن الصحافي الأرجنتيني سيرغيو روبن (أ.ف.ب)
TT

فيما تولى خورخي ماريو برغوليو سلطة رفيعة المستوى كراع كاثوليكي في هذه العاصمة متعددة الحضارات، فإنه خضع أيضا لاختبار من قبل القوى الأكثر دنيوية ومادية ممثلة في الحكومات الأرجنتينية.

مع الصعود التاريخي لأرجنتيني إلى عرش الكنيسة الكاثوليكية، سادت الأجنتين حالة من الاحتفال والجدال في الوقت نفسه، مع تولي أحد مواطنيها منصب بابا الفاتيكان ليكون أول أميركي لاتيني يتولى هذا المنصب الرفيع. ويقول البعض هنا إن قصة علاقته بحكومته الأم، تبرز استعداده للهجوم بضراوة على القادة العلمانيين الذين تتناقض سياساتهم مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية.

في السنوات الأخيرة، أحدثت اشتباكاته مع فريق الزوج والزوجة اللذين قادا هذا البلد البالغ تعداد سكانه 40 مليون نسمة، شقاقا بين «كازا روزادا» («البيت الوردي» الرئاسي في الأرجنتين) والكنيسة؛ إذ إن برغوليو تحدى السلطة الأخلاقية للقادة المنتخبين. والآن، مع دخوله أروقة مدينة الفاتيكان المبتلاة بأزمة، تشير سنواته في الأرجنتين إلى أنه فيما يبدو مناسبا للمنصب، ربما يكون البابا فرنسيس قائدا عدوانيا لا يخشى تحدي السلطة الراسخة.

ورغم ذلك، فإن الأمر الأقل وضوحا هو سجله أثناء فترة «الحرب القذرة» في الأرجنتين من 1976 - 1983. حينما كشف مجلس عسكري ينتمي لتيار اليمين عن عهد من الخوف ساد هذه الدولة والذي وصل إلى صفوف رجال الدين التابعين لبرغوليو. وأشار البعض هنا إلى أن برغوليو ربما تنحى جانبا وقتما كانت الحكومة العسكرية تطارد أولئك الذين اعتبرتهم مخربين، من خلال روايات منشورة تشير إلى أنه سمح بالقبض على قسين منتميين لتيار اليسار، تم جرهما واقتيادهما بالمروحيات إلى أشهر السجون التابعة للمجلس العسكري في عام 1976.

وهذا هو جانب البابا الجديد «الذي لا يرغب في الحديث عنه»، بحسب ما قاله هوراسيو فيبريتسكي، وهو صحافي أرجنتيني ومؤلف كتاب «الصمت»، الذي يؤرخ لحالة الرضا إبان الحرب القذرة. غير أن البابا فرنسيس، الذي أنكر تلك الاتهامات تماما، لديه أيضا مدافعون يقولون: إنه لم يقاوم الجيش فحسب، بل أيضا مد يد العون بشكل فعلي لهؤلاء الباحثين عن ملاذ.

وبغض النظر عن دوره في ذلك الفصل من التاريخ الأرجنتيني، فإن دوره السياسي في دولة منقسمة بين حكومة الرئيسة كريستينا فيرنانديز دي كيرشنر ومعارضة محاصرة، أصبح موضوعا رئيسيا غداة تقلد برغوليو منصب بابا الفاتيكان. ويقول مراقبون إن برغوليو لم يخجل من معارضة الرئيسة أو سلفها وزوجها الراحل نيستور كيرشنر.

زادت حدة التوترات بين برغوليو والزوجين كيرشنر في الألفية الجديدة، مع بدء الزوجين في محاولة الخروج بالأرجنتين من الانهيار الاقتصادي. امتطى الزوجان كيرشنر موجة من الشعبية، يرى النقاد أنهما استخدماها للتدخل في الاقتصاد وتبني أسلوب يقوم على عدم اعتقال شخصيات من المعارضة والصحافة. وفي نهاية المطاف، تصارعا مع الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. ويقول مراقبون في الأرجنتين إن برغوليو لم يعمل بأسلوب يتعارض مع هدف الزوجين كيرشنر المعلن الممثل في مكافحة الفقر؛ وفي واقع الأمر، ظهر برغوليو إبان ذروة الأزمة الاقتصادية الأرجنتينية في عام 2000 كأحد أشد المعارضين للعولمة. وخلاف ذلك، لم يخجل من كشف النقاب عما يشير إليه منتقدون للحكومة بوصفه كذبا من جانبها في نقل الأخبار الاقتصادية. انخرطت الكنيسة في هذه المعركة، ليس بشن هجوم مباشر، وإنما بإصدار أرقامها الخاصة بمعدلات الفقر التي تشير إلى أن عدد الفقراء أكبر بكثير مما أكده الزوجان كيرشنر.

اتجه برغوليو لتوظيف خطبه البارزة يوم 25 مايو (أيار)، عيد الثورة في الأرجنتين، لتوجيه انتقادات للقادة البيرونيين، الذين كان بعضهم ينتقي مفرداته بعناية، لكنهم مع ذلك أثاروا غضب الزوجين الأكثر نفوذا في الدولة. وقال برغوليو في عام 2006: «تولد السلطة من الثقة، وليس من التلاعب أو الترويع أو التفاخر».

وقال كارلوس فارا، المحلل السياسي ومنظم الاستفتاءات، إن جزءا من التوتر كان منبعه حقيقة أن برغوليو انحدر من شكل أكثر اعتدالا من «البيرونية»– النوع الأرجنتيني المميز من السياسات القومية التي أسسها خوان بيرون – عن نهج الزوجين كيرشنر، اللذين نحيا باتجاه تيار اليسار من الطيف السياسي للحزب. وقد شمل هذا أيضا أجندة علمانية على نحو متزايد. وبعد اختيار برغوليو لمنصب البابا، أصدرت كيرشنر بيانا تشير فيه إلى أنها تأمل في أن يقرب انتقاله لروما باسم البابا فرنسيس «خيار الفقراء» من «هيكل السلطة» في الكنيسة.

ربما ليس من المستغرب أن تتركز أكثر المشادات حدة بين برغوليو والحكومة على القضايا الاجتماعية. ففي عام 2010. أصبحت الأرجنتين أول دولة في أميركا اللاتينية تصدق على قانون يتيح زواج المثليين ويعطيهم نفس الحقوق التي يحصل عليها الأزواج العاديون، وهنا، عارضت الكنيسة الحكومة بشكل مباشر، مما قاد إلى حدوث توترات.

كان ينظر إلى برغوليو باعتباره معارضا رئيسيا للجهود الحكومية الهادفة إلى التصديق على القانون، كما تم انتقاده جراء تحذيراته من أن القانون يرقى إلى مستوى «نية تدمير منهج الخالق». وقال أندريا داتري، مؤسس الجماعة الحقوقية المسماة «الخبز والورود»، والذي انتقد معارضة برغوليو لحقوق مثليي الجنس: «ترسم وسائل الإعلام اليوم صورة له بوصفه بابا متواضعا، ولقد قبل تعيينه بابا للكنيسة الكاثوليكية بحماس حار من قبل المعارضة اليمينية في الأرجنتين».

من ناحية أخرى، فإن الكنيسة ليست أيضا بمنأى عن السياسات القائمة على عدم التقيد بالقواعد والقوانين، والتي تعتبر شائعة في الأرجنتين. فعندما سعى محافظ بيروني حليف لكيرشنر، إلى تغيير القوانين المحلية بغرض تمديد فترة ولايته في عام 2007. انضم وقتها الكاردينال برغوليو، وفقا لبرقيات دبلوماسية أميركية تم تسريبها، للمعارضة، وقد أعلن دعمه لائتلاف مكون من قادة الكنيسة الكاثوليكية بهدف منع أي سيطرة بيرونية على السلطة في محافظة ميسيونس الشمالية. وفي يوم الخميس في الأرجنتين، تمت الإشارة إلى أن برغوليو طالما عمل مع الفقراء، على نحو مرتبط بشكل رئيسي بعمل اليسوعيين في أنحاء أميركا اللاتينية. روت الصحافة الأرجنتينية كيف كان برغوليو يغسل أقدام مرضى الإيدز عام 2001. وكيف أنه انتقد بشدة رفض القساوسة تعميد الأطفال حديثي الولادة من الأمهات غير المتزوجات. وقد نشرت الصحف الصادرة يوم الخميس صورا له وهو يركب المترو.

إن أولئك الذين يعرفون برغوليو يذكرونه بأنه كان صبيا عطوفا وذكيا؛ حيث قالت أماليا دامونت، 77 عاما، إن منزلها كان لا يبعد سوى مسافة مائة قدم عن محل إقامة خوسيه ماريا برغوليو، والد البابا الجديد، الذي كان يقوم بتربية أربعة أطفال. وتتذكر حينما كان تلعب مع خورخي ماريو، وكيف أنه أعلن حبه لها آنذاك. واسترجعت قائلة: «لقد ترك لي رسالة مقترنة بصورة في بيتي قال فيها إن هذا البيت الذي ترينه هنا سيكون لنا عندما نتزوج». لم يشعر والداها، اللذان وجدا الرسالة، بالسرور، ولكنها أخبرت خورخي ماريو بها. وقد ردت عليه قائلة: «إذا لم تتمكن من الزواج مني، فسوف أصبح راهبة».

وفي مدرسة «أور ليدي أوف ميرسي»، التي أقام فيه البابا الجديد أول لقاءاته الدينية، لا تزال روزا بلانكو (90 عاما) تتذكر برغوليو وحي فلوريس الذي نشأ وترعرع فيه. وتقول: كان «هادئا، مرحا مثل كل الأولاد»، وكان صديقا جيدا لشقيقها. ولكن يؤكد النقاد أن برغوليو كان سريعا في مناهضة النواحي الاجتماعية التقدمية والقادة اليساريين الشعبويين، بينما كان أقل ميلا لانتقاد المجلس العسكري اليميني الذي سقط بعد نزاع عام 1983 مع بريطانيا على جزر فوكلاند.

* خدمة «نيويورك تايمز»