الصراع السوري على «طريق الموت السريع» في حرب شخصية مريرة

في قرية حيش بمحافظة إدلب

TT

يتطلع المقاتلون الإسلاميون المسلحون عبر فتحات الأسلحة والبنادق الآلية إلى فلول قافلة عسكرية سوريا تبعد عنهم عدة مئات من الأمتار حيث يعرقلون تقدمها على الطريق السريع. وكانوا يمطرون جنود بشار الأسد بوابل من النيران في محاولة لمنع هروبهم. وهنا يقول أحد المقاتلين بصوت هادئ في ظل إطلاق الآخرين النار على القافلة: «ها هم أبطال ومجاهدي كتيبة درع محمد، صلى الله عليه وسلم».

ولم يلبث أن فتح الجيش السوري نيرانه على الثوار، فتارة بقذائف الدبابات من اتجاه وتارة بقذائف المدفعية من اتجاه آخر. فاهتزت الأرض من تحت الإقدام، وتصاعدت سحب الدخان والغبار، وعلى الرغم من ذلك واصل الثوار إطلاق النار ولم يسمحوا للطرف الآخر بإجبارهم على الفرار.

ومع حلول فصل الربيع، تدخل الحرب الأهلية السورية عامها الثالث في ظل معارك شرسة واسعة النطاق، نجح خلالها الثوار في انتزاع الكثير من مناطق الشمال السوري من قبضة النظام وإجبار جيشه على التقهقر. ولعل ما أبطأ تقدم الثوار، وأغلبهم تحت قيادة التيار الإسلامي في شمال غربي سوريا، هو نقص الأسلحة وتمركز قوات النظام والعناصر الموالية له في مجموعة مواقع تتزايد وحيازتهم لأسلحة قوية مجهزة لخوض قتال طويل الأمد. وأصبحت كل هذه المواقع العسكرية، والطرق الموصلة بينها، بمثابة جبهات حرب مصغرة، وميادين قتال دامية لا تحصى ولا تعد، في الوقت الذي يحاول فيه الثوار التصدي لتلك المواقع المنتشرة حول المدن السورية الرئيسية.

ما يجري الآن هو حرب مريرة يتشارك فيها المقاتلون الإسلاميون والعلمانيون هدفا مباشرا ألا وهو حماية أسرهم، وهو طموح يتهمون الدول الغربية بعدم تقديم الدعم الكافي لتحقيقه.

وتحاول قوات الأسد من مواقعها الحالية، فرض سيطرتها على أرض لم تعد قادرة على أن تطأها أقدامها، لذا تطلق قنابلها وصواريخها البعيدة المدى على الأحياء السكنية. وكثيرا ما يشن سلاح الجو السوري غارات على مناطق المعارضة.

وأسفرت هذه الهجمات، والمستمرة لعدة أشهر الآن، عن مقتل الكثير من المدنيين، وأصابت الاقتصاد بالشلل وشردت الكثير من العائلات.

وعلى الرغم من ذلك حقق الثوار إنجازات بارزة، ففي يناير (كانون الثاني) تمكنوا من الاستيلاء على قاعدة تفتناز الجوية، وسجن إدلب الرئيسي. وتزايدت الإنجازات تدريجيا على مدار عدة أشهر.

ووصف أحد المقاتلين في معركة حيش، وهي إحدى الطرق القليلة في محافظة إدلب التي لا تزال قوات الأسد تخاطر باستخدامها، بأنها تتصارع من أجل «طريق الموت السريع»؛ فلدى أحد الطرفين ترسانة كاملة العتاد، في حين يتسلح الآخر بالإيمان مع الأسلحة. ويمكن تصوير هذه المعركة على أنها نموذج مصغر للحرب.

ونظرا لوقوعها على هضبة ترتفع عن حقول المزارعين، تطل حيش على أربع حارات للطريق السريع الرئيسي الذي يربط بين حماه وحلب، وهما مدينتان تتركز فيهما الثكنات العسكرية. وينتشر الكثير من نقاط التفتيش التابعة للجيش على طول الطريق الإسفلتي في محاولة للحفاظ على خطوط الإمداد البرية مفتوحة، وهو أمر ضروري إلى حد كبير بالنسبة للأسد بسبب تراجع عدد أسطول المروحيات مما أدى إلى صعوبة الحصول على الإمدادات بالطريق الجوي.

لقد مزق القتال بالفعل القرية خلال فصل الخريف الماضي عندما شن النظام عليها عدة هجمات جوية، لكن في نهاية يناير، تجمع مئات الثوار المنتمين لـ«صقور الشام» إحدى الجماعات الإسلامية، واتخذوا موقعا يقطع الطريق على الجانب الغربي، بينما اتخذت جماعة مسلحة أخرى تسمى «أحفاد الرسول» مواقع على الجانب المقابل في تحدٍ للجيش. وأصبح القتال متقطعا منذ ذلك الحين، يشتعل حينا ويهدأ حينا آخر.

يراقب الثوار، الذين يزحفون ليلا ويتجمعون نهارا، الوضع من ملاجئ صغيرة تحت الأرض ومبانٍ وخنادق تمتد من البلدة إلى نهاية الطريق السريع. ويستخدم الجيش، الذي يبدو غير عازم على التخلي عن الجزء الحيوي من الطريق، المدفعية والطائرات لإجبارهم على الانسحاب، حتى إنه دمر مؤخرا البلدة بقنابل عنقودية. وأسفر القتال على هذه المساحة الصغيرة خلال الستة أسابيع الماضية عن إصابة 50 ومقتل 20 من الثوار على حد قول فادي ياسين، (متحدث باسم لواء صقور الشام)، وتدمير حيش.

مع ذلك لا يزال المقاتلون باقين أملا في أن يؤدي قطع الإمدادات عن نقاط التفتيش التابعة للجيش شمال حيش إلى نفاد الذخيرة من الجنود ودفعهم إلى الاستسلام والتخلي عن الموقع. إنهم يعلمون أن كل موقع صامت هو موقع يمكن أن يستخدم في الهجوم على بلدات محافظة إدلب.

وأوضح رجال كتيبة درع محمد التابعة للواء صقور الشام أنهم عازمون على طرد الجيش من هذا الطريق أو الموت دون ذلك. وقال محمد رحمون: «أنا لا أتحدث عن نفسي، لكن عن كل زملائي هنا. نحن نؤمن بالشيء نفسه».

ويتحدث النظام بكل تبجح، ففي بداية مارس (آذار) أعلنت وكالة الأنباء الرسمية تأمين طريق سريع آخر من حماه إلى حلب وأن هذا الإنجاز يأتي استمرارا للجهود المبذولة من أجل القضاء على باقي الإرهابيين والمرتزقة في تلك المناطق استنادا إلى بيان منسوب إلى القيادة العامة للقوات الجوية. وجاء في البيان «المناطق التي تم تأمينها مؤخرا تؤكد إصرار قواتنا المسلحة على المضي قدما في تنفيذ واجبها المقدس في التصدي لجرائم القتل والاعتداء التي ترتكب بحق شعبنا ووطننا». وسخر ياسين من كل ما جاء في البيان الرسمي، حيث قال إن الثوار في حيش لديهم تأثير ونفوذ، حيث أبلغت بعض المواقع شمال مواقع الثوار التي تعترض الطريق، قادة كبارا في الجيش أنه إذا لم يتم توصيل الإمدادات إليهم ستنسحب وحداتهم منها.

واستنادا إلى الأحداث التي وقعت خلال نهاية الأسبوع، يمكن القول إن عمليات الجيش على الطريق السريع الرئيسي تعرضت للخطر. وتجدد القتال حول حيش يوم السبت بعدما حاول الجيش إرسال قافلة شمال حماه. وكانت القافلة تتكون من شاحنات ودبابات «تي 72» وسيارات مقاتلة. وتم ضرب ومنع أربع سيارات من التقدم على حد قول عدد من الثوار، رغم تمكن سيارات أخرى من الهروب والاستمرار في طريقها إلى نقاط التفتيش التي تحتل أجزاء متقدمة من الطريق. وحاولت دورية أخرى تابعة للجيش يوم الأحد استعادة السيارات مما أدى إلى تجدد أعمال العنف. ومع تبادل الطرفين النيران واهتزاز أرجاء البلدة بفعل الانفجارات، بدأ المقاتلون الإسلاميون في تشجيع بعضهم البعض.

وطغى على زاهر درويش، قائد لواء «صقور الشام»، شعور واضح بالرضا، وتساءل: «هل تعرفون لماذا يبتسم رجالي بهذا الشكل في مثل هذا الموقف؟ من واقع خبرتي في المعارك المستمرة خلال الثمانية عشر شهرا الماضية، رأيت أن الشجاعة تصل إلى نفوس بعض المقاتلين الذين على علاقة جيدة بالله. إنهم يؤمنون بقدرهم وأن كل شيء بأمر الله».

يسير الكثيرون على خط النار ولا يجفلون كثيرا عندما تهدم الدبابات المباني أو تدوي المدفعية. في ذلك اليوم، تم قطع الطريق السريع، وتم وقف تقدم الجيش. وصاح الرجال: «الله أكبر»، وظلوا يرددون هذه الصيحات، بينما تسقط قذائف المدفعية حولهم.