راح صدام.. لكن الجدل الغربي حول مبررات إسقاطه وجدواه مستمر

ثغرات في مقاربتي «اليمين» و«اليسار» للغزو ونتائجه

عراقي يرحب بالجنود البريطانيين بالبصرة في 6 أبريل 2003 (أ.ف.ب)
TT

في مثل هذا اليوم قبل 10 سنوات خلت عاش العراقيون ساعات من الرعب والترقب تحت قصف جوي كثيف لاجتياح وشيك تقوده الولايات المتحدة، وفي ليلة 19 مارس (آذار) وقع الاجتياح البري من الجنوب وإنزال جوي محدود من الشمال.

تصور الأميركيون ومعهم البريطانيون، حليفهم الأكبر، أن الاجتياح سيكون سهلا وسيستقبلون بالورود، لكن لم يكن لهم ذلك، إذ لم يصلوا إلى مشارف بغداد إلا بعد نحو 3 أسابيع خاضوا خلالها معارك دامية، وفي التاسع من أبريل (نيسان) 2003 أسقطوا تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس وسط بغداد، إيذانا بسقوط النظام السابق. 10 سنوات كلفت الأميركيين 811 مليار دولار، حسب مراكز بحث أميركية، وكبدتهم 4486 قتيلا وأكثر من 130 ألف جريح، ناهيك بما تعرضت له سمعة الولايات المتحدة من نكسات سواء على صعيد قانونية الغزو أو أخطاء سلطتها في العراق أو ممارسات وتجاوزات جنودها.

وإذا كان الثمن الذي دفعه الأميركيون كبيرا فإن ما تكبده العراقيون كان أكبر، إذ تقدر منظمة «بودي كاونت إراك» التي ترصد أرقام القتلى من المدنيين العراقيين الذين قضوا في عمليات عسكرية وأعمال عنف عدد الذين قضوا في السنوات العشر الماضية بما بين 111.632 و122.036. ومن مخاض عصيب أدارته واشنطن جاء نظام سياسي صاغته هي أيضا كان من ثماره التفكك الذي تعانيه البلاد حاليا، والذي ينعكس على شتى نواحي حياة العراقيين. فالعنف لم يزل سيد الموقف تغذيه النعرات الطائفية والعرقية التي تهدد وحدة البلاد، والخدمات الأساسية من كهرباء وماء نظيف ورعاية صحية لا يحسد عليها، بينما يرزح نحو ربع العراقيين تحت خط الفقر في بلد يجلس على بحيرة من النفط لكن ينخر الفساد في بنيانه. «الشرق الأوسط» ترصد مخاض السنوات العشر الماضية من تاريخ العراق وتستشرف آفاقه.

مضت عشر سنوات بالفعل، وأكمل الشعب العراقي عقده الأول من دون وجود لطاغية غزا كل جانب من جوانب حياتهم بمزيج من الوحشية والسخرية، ولكن لم ينجح كثير من العراقيين في طي صفحة عهد طويل من الإرهاب دام 35 عاما تحت ظل صدام حسين، كـ«رجل قوي» أولا، ثم رئيس، قبل أن يتحول إلى كابوس تاريخي. في الحقيقة، ثمة جروح في تاريخ الأمم تتطلب أجيالا وأجيالا حتى تندمل.

لقد أثارت الذكرى العاشرة لغزو العراق سيلا من التعليقات والنقاشات في جميع أنحاء العالم. ومنذ عام 2002، كان العراق من أكثر القضايا المثيرة للخلاف في السياسة الخارجية للغرب والتي وضعت تيار اليمين في المواجهة مع اليسار، حيث يرى اليمين أن التخلص من صدام يعد بمثابة «انتصار» للغرب وإعادة تأكيد على «القيم العليا» المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما كان اليسار يرى أن هذا الغزو بقيادة الولايات المتحدة يعد مثالا على العدوان الإمبريالي وانتهاكا سافرا لـ«السيادة الوطنية العراقية».

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل من الممكن أن تكون هناك وجهة نظر ثالثة؟

لا ينبغي التسليم بأن تحليل اليمين لهذا الغزو يعد تحليلا صحيحا بالكامل، ويمكن بالكاد وصف سقوط صدام بأنه «انتصار»، بمعناه المطلق، بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، إذ فقدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الـ31 في «تحالف الراغبين»، نحو ستة آلاف جندي، علاوة على إصابة أكثر من 50.000 آخرين، كما بلغت تكلفة الحرب نحو تريليون دولار، أي أكثر مما أنفق على الحرب الكورية بستة أضعاف. وضخ «تحالف الراغبين» مليارات الدولارات في الاقتصاد العراقي المتداعي من أجل إعادة تأهيل البنية التحتية المتهالكة، ولم يجن سوى نتائج هزيلة حتى الآن، وحقق التحالف مكاسب مادية قليلة، ولم يقم أي قواعد عسكرية في الأراضي العراقية، ولم يؤمن لنفسه نصيب الأسد في النفط العراقي. وحتى من الناحية الدبلوماسية، لم يحقق التحالف سوى مكاسب قليلة، حيث تعاملت الأمم المتحدة والأجهزة التابعة لها مع عراق ما بعد صدام على أنها دولة «نامية» متوسطة.

ولم يثبت هذا «الانتصار»، إذا كان هناك «انتصار» من الأساس، تفوق القيم الغربية. وإذا لم يكن هناك تفوق ساحق لقوة نيران «التحالف»، فإن الخطب الرنانة حول الديمقراطية وحقوق الإنسان لم تكن لتهزم صدام حسين بمفردها.

وربما يعود فضل «الانتصار» إلى حد كبير لحقيقة أن الغالبية العظمى من العراقيين، باختلاف صفاتهم العرقية والطائفية، رفضت القتال من أجل صدام حسين. وكان تقدم الجنرال تومي فرانكس، قائد الجيش الأميركي في الحرب على العراق، من الكويت إلى بغداد في غضون ثلاثة أسابيع فقط أسرع مما كان يحلم به مخترعو تكتيك الحرب الخاطفة، وكان الشيء الوحيد الذي أوقف تقدم فرانكس لبضعة أيام هو العاصفة الرملية في مدينة الناصرية. لقد أصبح الشعب العراقي هو المشارك في تحرير نفسه من خلال عدم قتاله إلى جانب صدام حسين.

وعلى الجانب الآخر، هناك مشكلة أيضا في تحليل اليسار، لأن الغزو لم يتضمن أيا من ملامح الإمبريالية، حيث تقوم الإمبراطوريات عندما تقوم إحدى القوى العسكرية الكبرى بتوسيع نطاق أراضيها، ووضع مستوطنين ومستعمرين في الأراضي التي تحتلها وتصدير رؤوس الأموال للسيطرة على الاقتصاد هناك، ولكن لم يحدث أي من تلك الأشياء خلال الحرب على العراق، فلم تقم الولايات المتحدة بضم أراض عراقية كما لم تقم بإنشاء قواعد عسكرية هناك. ولا يوجد مستوطنون أميركيون في العراق (وفي المقابل، استقر 400.000 عراقي في الولايات المتحدة، وأصبحوا مواطنين أميركيين). ولا تكاد الاستثمارات الأميركية في العراق تذكر.

إن إشارة اليسار إلى انتهاك «السيادة الوطنية العراقية» في غير محلها، ولا سيما أن هذا المفهوم كان قد أصبح شعارا مبتذلا في عهد صدام حسين. وبعيدا عن كون العراق يتمتع بالسيادة، فقد كان الشعب العراقي بلا أدنى سيطرة على شؤونه. وكان الغزو الذي بدأ عشية عيد النوروز بمثابة خطوة ضد نظام مستبد، وليس ضد العراق باعتباره دولة قومية.

لقد تجاوز نظام صدام كل حدود السلوك، على الرغم من أن الثقافة العربية، والشرق أوسطية عموما، تقبل بقدر من الاستبداد كما لو كانت حقيقة مؤسفة وثابتة، مثل الظروف المناخية القاسية في المنطقة. وحتى عندما بدأ «الإصلاحيون» أمثال جمال الدين الأفغاني بالحديث عن نوع مختلف من الحكومات، لم يحلموا بأكثر من «حاكم مستبد مستنير». وثمة إجماع تاريخي على أن الاستبداد الذي يوفر قدرا من الأمن أفضل من الفتنة التي يمكن أن تتسبب في حالة من الاضطرابات والفوضى، ومع ذلك يقترن هذا التوافق في الآراء بتحذير يحتم على الطاغية احترام الحدود التي وضعها الدين وقيم السلف والتقاليد والمنطق السليم. لكن صدام انتهك كل هذه الحدود. لقد تجاهل صدام الدين الإسلامي تحت اسم «العلمانية» الاشتراكية، فانتهك القوانين القبلية، وبدأ يشعر بالغطرسة وتخلى عن المنطق السليم في السنوات الأخيرة من حياته. وجففت منطقة الأهوار العراقية، مما شرد مليون شخص ودمر ثروة بيئية فريدة من نوعها، كما تم إعدام عشرات الآلاف وتم دفنهم في مقابر جماعية. وقتل صدام خمسة آلاف من الرجال والنساء والأطفال بأسلحة كيماوية في حلبجة. ومات أكثر من مليون عراقي في حروب داخلية وخارجية أرادها صدام.

لقد قتل صدام أقاربه المقربين، بمن فيهم أحد أبناء عمومته وصهراه، كما دمر الثقافة السياسية العراقية التي ضمت أحزابا وجماعات من مختلف ألوان الطيف الآيديولوجي، وانتهى به الأمر إلى تفكيك البعث، الذي من المفترض أن يكون حزبه، وقتل كثير من البعثيين بيد صدام أكثر مما قتل جميع الحكام السابقين للعراق.

لقد وصف نفسه على أنه حمورابي العرب الجديد، ولكنه، على عكس مشرع القانون البابلي، انتهك كل قانون فيه، وبتصويره على أنه صلاح الدين الجديد، فقط كانت «حربه المقدسة» التي قادها ضد الأكراد والشيعة والقبائل السنية الجبورية، ناهيك عن إيران الإسلامية والكويت. لقد ارتدى صدام عباءة العروبة، ومع ذلك لم يتخل عن معالم عشيرته التكريتية. وأشاد صدام بجوزيف ستالين باعتباره قدوته، ولكن عندما قامت الحرب، وعلى عكس «الرجل الحديدي»، سارع إلى الاختباء في حفرة بالقرب من قريته.

لقد أطلق سمير خليل على نظام صدام اسم «جمهورية الخوف». وأصبح صدام نسخة مشوهة لشخصية «راسكولينكوف» الموجودة في رواية عملاق الأدب الروسي دستويفسكي المسماة بـ«الجريمة والعقاب» والذي يكتشف فجأة أنه حر من كل القيود. يرى «راسكولينكوف» أنه «إذا لم يكن هناك خالق، فإن كل شيء مباح». إن صدام تحرر من كافة القيود.. من الله، والثقافة، والتقاليد القبلية، والسلوك الإنساني القويم، ليصبح مجرد آلة للقتل، وأصبح شعاره «أنا أقتل، إذا أنا موجود».

كان لا بد أن يكون هناك شخص أو شيء يوقف تلك الآلة الجهنمية، ولقد توقفت قبل عشر سنوات مضت. واليوم يتعافى العراق ببطء من مرض طويل قد يكون قاتلا، وهي فترة نقاهة يأمل كثيرون ألا تمتد لأكثر من السنوات العشر التي مرت بالفعل.