«الشرق الأوسط» كانت أول صحيفة تدخل الأراضي العراقية مع بدء العمليات العسكرية

تقريرها الأول جاء من قاعدة «طليلة» ثم من النجف قبل أن تتحرر

TT

عندما كانت الطائرة العسكرية الأميركية تقلنا من القاعدة العسكرية الأميركية في البحرين إلى العراق، في مثل هذه الأيام قبل 10 سنوات كانت أرتال قوات التحالف بآلياتهم العسكرية الضخمة تتقدم من الأراضي الكويتية مثل خط خاكي طويل يبدو أنه بلا نهاية، باتجاه المدن العراقية بمحاذاة البصرة، من غير أن نسمع عن تحرير كامل لأي مدينة، وكان القصف الجوي والصاروخي يدك بغداد، ونحن في انتظار تحرير أي مدينة لننتقل إليها. كنا خمسة أشخاص نرافق السيد عبد المجيد الخوئي، الأمين العام السابق لمؤسسة الإمام الخوئي الخيرية في لندن، وإذا كانت للآخرين مهمتهم الإغاثية التي كان يقودها الخوئي بنفسه، فإن مهمتي كانت صحافية بحتة، إذ كنت في انتظار مثل هذه الفرصة، أن أكون في العراق قبل سقوط نظام الرئيس صدام حسين، وبالفعل كانت «الشرق الأوسط» أول وسيلة إعلامية تدخل إلى مدينة عراقية تم تحرير جزء منها من سيطرة النظام العراقي السابق.

الخطط الأولية كانت تقضي بدخولنا البصرة عن طريق قاعدة الشعيبة الجوية أولا، ثم تغيرت هذه الخطط وأصبحت محاور مدينة السماوة هي المرشحة، لكن سرعان ما جاءت الأخبار لتتحدث عن قرب تحرير مدينة النجف ثم الناصرية. لم تكن تعنيني أي مدينة أولا، المهم هو أن ندخل إلى العراق.

كان الوقت ليلا عندما صارت ثلاث طائرات عسكرية أميركية في الأجواء العراقية، إحدى هذه الطائرات كانت تقلنا، بينما حملت الطائرتان الباقيتان سيارتين (شوفربيه سوبر بان) وأمتعة وصناديق قناني مياه وأطعمة جافة مع عدد عير قليل من أفراد المارينز. لم نكن نعرف إلى أي مطار ستتجه هذه الطائرات، إذ إن العملية اتخذت طابعا سريا للغاية، ومنع علينا استخدام أجهزة الاتصال عبر الأقمار الصناعية (ثريا) خشية أن نبلغ عوائلنا عن مكان وجودنا ولو عن طريق السهو. لم نكن نعرف فوق أي مدينة عراقية نحلق وقتذاك عندما انفتحت على طائرتنا أسلحة مقاومة الطائرات، كنت أرى خلسة ومن خلال كوة صغيرة مخصصة لمدفع رشاش، زخات من الرصاص المضيء وكأنها ألعاب نارية تتجه نحو طائرتنا، بينما كان أفراد المارينز الأميركيون يردون على هذه النيران التي لم تسكت مما أجبر قائد الطائرة على أن يغير طريقه ويؤخر موعد وصولنا.

عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل هبطت الطائرة في مساحة مظلمة تماما، وبعد قليل فتحت البوابة الخلفية للطائرة، أتذكر أننا عندما نزلنا من تلك الفتحة فاجأتنا آلاف النجوم اللامعة في فضاء صافٍ تماما، وكانت هناك بقايا لهياكل حديدية ضخمة محترقة ومهدمة تبدو وسط ذلك الليلي مثل وحش مخيف. عرفنا أننا في قاعدة الإمام علي (طليلة) في الناصرية.

كانت مساحة قاعدة الإمام علي القريبة من الناصرية واسعة جدا ومترامية الأطراف، تمتد في كل الاتجاهات، أرض مؤثثة بالمسقفات الكونكريتية والمغلفة بالحديد الصلب (الستيل) والمبنية لمقاومة شتى أنواع الصواريخ والقنابل. فهذه المسقفات كانت مخصصة لإيواء الطائرات المقاتلة التابعة للقوة الجوية العراقية، وتسمى بلغة الجيش العراقي «الأوكار»، ومفردها وكْر، وقد شاهدت بعض هذه الأوكار وقد قصفت في حرب الخليج الثانية بعدد من القنابل والصواريخ التي لم تنل من جدرانها القوية، بل إن السقيفة التي كانت خيمتنا تقوم تحتها قد قصفت بقوة، هذا ما توضحه الآثار من الخارج لكنها لم تتأثر من الداخل، فهذه الأوكار كانت تحمي طائرات مقاتلة يبلغ سعر الواحدة منها عشرات الملايين من الدولارات. وكانت هناك أيضا هضاب كونكريتية مغطاة بالتراب، هذه هي مخازن الأسلحة التي كانت الطائرات تزود بها. المكان الذي كان قد اختير لنا هو أبعد وكر في القاعدة، كي لا نكون قريبين من الآخرين من جهة، ولا يقترب منا أحد من جهة ثانية، حيث كان ممنوعا حتى على أفراد القوات الأميركية من الوحدات الأخرى الموجودة في القاعدة الاقتراب أو التحدث إلينا.

من قاعدة الناصرية أرسلت أول تقرير صحافي إلى «الشرق الأوسط» عن وصول الخوئي وفريقه إلى أرض العراق مع لقاء صحافي مع الخوئي، وتصدر التقرير الصفحة الأولى باعتبار أن الخوئي أول زعيم عراقي يصل الأراضي العراقية بينما كان نظام صدام ما يزال يسيطر على الأوضاع الأمنية في العراق، وبذلك كانت «الشرق الأوسط» أول صحيفة تدخل إلى العراق وتنشر أولى القصص الصحافية من هناك بعد دخول القوات الأميركية إلى البلد.

في اليوم التالي عندما صدرت صحيفة «الشرق الأوسط» تحمل خبر وصول الخوئي إلى العراق انهالت علينا الاتصالات الهاتفية عبر هاتف الثريا الذي كان وسيلتنا الوحيدة في الاتصال التي تربطنا بالعالم، وبهذه المناسبة أتذكر أن الأجهزة الأمنية لصدام أعدمت في الأيام الأخيرة من نظامه عائلة تتكون من ثمانية أفراد لعثورها على جهاز ثريا في بيتهم كان أحد أقاربهم قد أرسله لهم خلسة من دولة الإمارات. وعندما سقط النظام ودخلت القوات الأميركية إلى سجن أبو غريب كانت جثث العائلة التي أعدمت ما تزال هناك.

في نهار اليوم الثالث من وجودنا في قاعدة طليلة فاجأنا مرافقنا الأميركي والمشرف على هذه الرحلة ديفيد (أبو توام) بحضوره بيننا، و(أبو توام) يحضر فجأة ويختفي بذات الطريقة وكأنه شبح. تفاءلت خيرا بوجوده، فهذا يعني أننا سنرحل قريبا، فعندما جاءنا إلى قاعدة البحرين غادرنا في اليوم التالي، وها هو الآن معنا ومن المؤكد أنه جاء ليرافقنا إلى مكان آخر.

بعد منتصف تلك الليلة، حيث كنا قد جهزنا أمتعتنا، سمعنا هدير طائرتي هليكوبتر ضخمتين تمزقان صمت الليل، إحدى هاتين الطائرتين كانت ستقلنا إلى النجف، والتي لم يكن قد تحرر منها سوى 70 في المائة، ومن هناك واصلت كتابة قصصي الصحافية لـ«الشرق الأوسط».