العراق ليس طريقا مفروشا بالورود.. لكنه في طريقه نحو الأحسن

توقعات المتشائمين لم تتحقق وما يحتاجه هو جيل من القادة يتخطون الانقسامات الطائفية والعرقية

TT

مع حلول الذكرى العاشرة للحرب العراقية، عادت وسائل الإعلام إلى طرح ذات النقاشات السابقة التي قسمت الرأي العام في ربيع عام 2003. غير أنه لدى مراجعة هذه النقاشات للخروج برواية متماسكة، ينبغي أن يترك الأمر الآن للمؤرخين. ما يهم الآن هو ما يبدو عليه العراق اليوم وما قد يبدو عليه بعد عشر سنوات من الآن.

على مدى جزء كبير من العقد الماضي كان الوهم الفكري يعتبر حرب العراق فشلا. فخلال حملته الرئاسية عام 2008، لم تخل خطابات الرئيس باراك أوباما، عدا القليل منها، من الحديث عن الكارثة العراقية، حتى أن تشاك هاغل، الرجل الذي تولى وزارة الدفاع في إدارة أوباما، تحدث عن العراق كهزيمة.

لكن، لا بد وأن شيئا ما قد تغير منذ ذلك الحين. ففي آخر رسالة له في ذكرى مرور عشر سنوات على الحرب، قال أوباما لمؤيديه إن العراق كان «انتصارا». سواء أكان انتصارا أم لا، فإن أي مطلع على أحوال العراق اليوم سيوافق على أن الزجاجة مملوءة لأكثر من نصفها. لم تتحقق التوقعات المفجعة للمتشائمين بشأن العراق، فلم تنقسم الدولة إلى ثلاث أو خمس دويلات صغيرة كما أشار إلى ذلك جو بايدن في عام 2006، ولم يتحول العراق إلى «بوابة للجحيم» كما حذر عمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية آنذاك. ورغم محاولات الجماعات الإرهابية، لم ينزلق العراق إلى مستنقع «حرب طائفية لا نهاية لها»، كما توقعت كلير شورت، عضو مجلس الوزراء البريطاني آنذاك، أما حلم الملالي في إيران بإنشاء دولة شيعية في جنوب العراق فصار أكثر استحالة من ذي قبل، كما لم يشهد العراق انقلابا عسكريا آخر يمكن أن يعيده إلى النموذج الاستبدادي البائد. وعلى خلاف المزاعم التي أطلقها بعض الخبراء، لا يشعر العراقيون أنهم بحاجة إلى صدام آخر.

المؤكد، أن العراق اليوم ليس طريقا مفروشا بالورود، فجراحه تتطلب مزيدا من الوقت كي تلتئم. رغم ذلك، لم يكن أداء العراق سلبيا بشكل كبير، فقد نجح في كتابة دستوره وقام بتفعيله، ونجح خلال ثلاثة انتخابات حرة ونزيهة في تغيير أو إعادة تشكيل الحكومات. وهناك إجماع واسع في العراق على ضرورة تشكيل أو حل الحكومات من خلال الانتخابات التي تعكس رغبة الشعب فقط. هذا الإجماع احتاج إلى أكثر من قرنين كي تندمج في الـ«دي إن إيه» السياسي للمجتمعات الغربية.

نفض العراقيون عنهم مخاوفهم وبدأوا في إقامة إعلام متعدد وحر وأطياف متعددة من الأحزاب ومجموعات تغطي المشهد الآيديولوجي السياسي بأكمله، وهو أمر لا يزال فريدا في «العالم العربي».

بدأ العراق أيضا في إعادة بناء اقتصاده، ليس بنفس درجة النجاح الذي تمناه أصدقاؤه، لكن يجب ألا ننسى أن العراقيين ورثوا بنية تحتية متهالكة وعقوبات، واضطر العراق إلى التعامل مع تلك المهمة بمفرده.

خلال الأعوام التي تلت الحرب العالمية الثانية ساعدت الولايات المتحدة الكثير من الدول الأوروبية وبخاصة جمهورية ألمانيا الفيدرالية إلى جانب اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان لإعادة بناء اقتصاداتها. أقامت الولايات المتحدة أيضا، ولا تزال، تحافظ على وجودها العسكري في هذه الدول لضمان أمنها خلال إعادة بناء دفاعاتها. ومع انسحاب كل القوات الأميركية، لم يستفد العراق من أي من هذه المميزات.

ومن خلال الاعتماد على موارده الخاصة وعبقرية أهله، أرسى العراق القواعد لتحولات اقتصادية رئيسة. وقد تكون معدلات نموه الاقتصادي مصدر حسد ليس فقط بالنسبة للكثير من الدول الغربية، بل لغالبية الدول في المنطقة. وكانت العملة العراقية، الدينار، مصدر غيرة، لا للإيرانيين الذين رأوا الريال يخسر 70 في المائة من قيمته خلال عام، بل للكثير من دول «العالم النامي» الأخرى.

ورغم عدم انتشار ناطحات السحاب على كورنيش البصرة، فإن العراق يشهد ازدهارا عقاريا حقيقيا، يمثل صوت الثقة في المستقبل.

والقول بأن العراق لا يتمتع بمستقبل مشرق ليس بالاكتشاف المهم، لأنه يتمتع بعدد من المميزات الطبيعية، فعدد سكانه لا يتجاوز 30 مليون دولار، وهو يمنح العراق تنوعا ديموغرافيا جيدة، كما حجب حجم السكان الصغير آفاق التصنيع لغياب سوق محلية قوية. في المقابل سيواجه عدد السكان الكبير دولة «نامية» بتحديات لن يستطيع اقتصاد هش التعامل معه.

الديموغرافيا الجيدة التي يتمتع بها العراق تتوافق مع ثرواته الطبيعية. ورغم انخفاض التدفقات من تركيا وسوريا وإيران بسبب مشروعات بناء السدود الضخمة في هذه الدول، لا يزال العراق الدولة العربية الوحيدة التي تمتلك موارد مائية كافية لدعم زراعة موثوقة. ويمتلك العراق واحدا من أضخم ثلاثة احتياطيات للنفط في العالم. وتشير الدراسات الأولية التي أجرتها شركة استشارات إيطالية إلى سلسلة أخرى من الموارد المعدنية عبر العراق خاصة في الشمال الشرقي.

وربما الأهم من ذلك، امتلاك العراق لقاعدة موهوبة قوية جاءت نتيجة النظام التعليمي الجيد نسبيا، الذي تمكن رغم المآسي الكثيرة التي عاناها العراق، من أداء مهمته منذ عشرينات القرن الماضي على الأقل. رغم كل ذلك إن لم يكن العراق مبتليا، فسوف يكون كذلك خلال العقد القادم. ما يحتاجه العراق هو جيل جديد من القادة القادرين على تخطي الانقسامات الطائفية والعرقية، نخبة تتطلع نحو المستقبل، تضع فاصلا بينها وبين كابوس ما قبل التحرير أيام عهد صدام حسين.

الهوية العراقية، الشعور بالانتماء إلى هوية عراقية شاملة تشكل فيها الخلفيات الدينية والعرقية أجزاء من المجموع، يمكن أن يساعد العراق الجديد في حشد طاقات كل شعبها لبناء المستقبل.

الدول تقوم على التجارب والتاريخ المشترك حيث تجتمع معا لبناء ثقافة وتاريخ. ورغم الخلفيات الدينية والعرقية المتنوعة، يتقاسم كل العراقيين الكثير من المعاناة والمآسي والأحزان. لكنهم يتقاسمون أيضا الكثير من الآمال والطموحات التي تربطهم سويا. نعم، إن أداء العراق لم يكن سيئا إلى الحد الذي يتصوره، وإنه في الطريق إلى التحسن.