جبل الدخان.. 3 أعوام من العزلة لا يحرك سكونها سوى ضبط المهربين والمتسللين

«الشرق الأوسط» تقف ميدانيا على أعمال المراقبة والإنشاءات الحدودية

نقطة مراقبة بعيدة جدا عن الأنظار حيث الحدود السعودية ـ اليمنية (تصوير: خالد الخميس)
TT

على وقع أصوات المعدات الآلية، يصدح صوت «جرافة» ستكمل خلال مرحلة أولية، 50 كيلومترا، وهي مسافة بسيطة من أصل 250 كيلومترا من مشروع واسع تعكف الحكومة السعودية من خلاله، على تعزيز الشريط الحدودي الفاصل بينها وبين الجارة اليمن.

ويتجلى مشهد لوحة رخامية بيضاء نقشت عليها أسماء شهداء الحرب الذين قضوا خلال تنفيذهم مهام الذود عن الوطن وأهليهم وإخوتهم في الجبل نفسه إبان تسلل الحوثيين، تواسي الموجودين من قوات حرس الحدود وتحفزهم للذود عن حمى وطنهم بالكفاءة نفسها التي اتخذها سلفهم، ولعل آخرهم العريف نبيل الرياني الذي عانى من الإصابة طيلة ثلاثة أعوام، لينضم إلى قائمة الشهداء السبعة ويصبح بكل فخر ثامنهم.

شيدت اللوحة في مركز عالٍ تابع لحرس الحدود، ويرفرف من فوقها العلم السعودي الذي نصب إبان تقدم وتطهير الجيش السعودي لجبل الدخان بالكامل من براثن المعتدين.

يشعر الزائر للمكان بكميات «أدرينالين» متعاقبة يفرزها الجسم، إذ يعد استشعار الموقف وتذكر مشاهد الفيديو المتوزعة إبان المعركة وقوفا على أحداث أغلقتها كتب التاريخ، وهي أشبه ما تكون بزيارة حائط برلين، وآثار الحرب العالمية، مع اختلاف الوقائع إلا أنها تظل تاريخا.

المكان، أقصى جنوب غربي السعودية، وعلى مشارف مركز «الخوبة» الإداري التابع لمحافظة الحرث التي تتبع بدورها منطقة جازان، تجري عمليات التمهيد في مواقع تجاور جبل الدخان، الذي كان قبل 3 أعوام مسرح عمليات تطهير القوات السعودية في منتصف 2009 المنطقة من المتسللين الحوثيين الذين شاغبوا على الحدود مبادرين بالاعتداء، والذين ساقهم اتخاذهم أنفسهم دمى تنفذ التعليمات، إلى استسلام مخذول، واعتذار قاد إلى فقدانهم عددا واسعا من الرجال.

يصف العميد بحري عمرو العامري الباحث والمحلل الاستراتيجي الجبل بالذي «لم يختلف عن غيره من الجبال لولا أن وضعته ظروف الجغرافيا صانعا للتاريخ»، وبعد أن كان هادئا ومنسيا في غيمه وخضرته بات بين يوم وليلة ساحة حرب وحديثا للعالم.

ويقول «إن معركة تطهير جبل دخان وبالمفهوم القتالي استغرقت وقتا طويلا نسبيا كون المعركة كانت بين جيش نظامي وعصابات تعتمد على أفراد بأسلحة فردية تنسحب نهارا وتذوب داخل المدنيين لتعود وتتسلل ليلا وتحتل الجبل مستفيدة من تضاريس الجبل الصعبة ومن حرص قيادتنا على حفظ الخسائر بين المدنيين.. والمعروف أن حروب العصابات هي أصعب الحروب نظرا لأن العدو غير واضح وهي لا تعتمد على القوة والحشد والسرعة، بيد أنها تعتمد على جغرافية المكان والاحتماء بالمدنيين والنفس الطويل، وحروب العصابات تستدعي تكتيكات خاصة وآليات خاصة تختلف باختلاف الجغرافيا وتغدو أصعب داخل المدن وفي المناطق الجبلية».

وبالعودة إلى الآلات والمعدات، ولأن المسافة التي مهدتها معدات وآليات متناثرة في موقع العمل لا تعد كبيرة في المقاييس المعتدلة، بيد أنها تعتبر إنجازا كبيرا إذا أضيف أن الطريق كانت قبل أسبوعين من بدء العمل، هضابا وسهول ونتوءات تتبع جبلا راسخا متمكنا منذ آلاف السنين، وها هي الآن بدأت تتخذ شكلا منبسطا يفتح الطريق لإكمال مشروع الفاصل الحدودي.

وتحمي فرقة خاصة من قطاع حرس الحدود السعودي تم تشكيلها لحماية العاملين في المشروع من مخاطر المستفيدين من عدم استتباب الأمن وضبطه على الخط الفاصل بين البلدين، والمتربصين بأمن البلاد، والمهربين وكافة المرتزقة الذين يثقون تماما أن إنجاز المشروع يعني تسجيل خيبات لم تخطر في بالهم مسبقا.

وسيجت القوات السعودية بعد التطهير، منطقة الجبل، وقطعا يصعب الدخول باستثناء المصرح لهم من قبل حرس الحدود، إذ تعتبر المنطقة حرما حدوديا يحظر دخوله.

وعلى الرغم من أن آثار المعركة لا تزال واضحة على بعض البيوت، وطلقات الرصاص تظهر جلية على المباني، فهناك مبان أخرى اختفت ملامحها، تماما كما تداولها الناس إبان الحرب في مواقع الإنترنت التفاعلية.

وتنتشر مراكز صغيرة على أعالي القمم البالغ متوسط طولها 500 متر، في سلسلة الجبال المتناثرة في المنطقة.

وتتحفظ «الشرق الأوسط» على نشر عدد المراكز أو مواقعها بالتفصيل حفاظا على سوء استخدام المعلومة من قبل أي طرف. وتبدو ملامح الإرهاق على عسكري يعتمر قبعته ومنظارا يمشط به المنطقة الواقعة تحت مسؤولية المركز الذي ينتمي إليه العسكري.

وتعطي الصورة البانورامية للسهول المتحدرة أسفل جبل الدخان، جملة مشاهدات، أبرزها آليات المشروع الجاري تنفيذه، إلى جانب مواقع لمراكز حرس الحدود، بالكاد يكتشفها الرائي، حتى بالمنظار العسكري، إذا لم يشر إليك أحد أن هناك مركزا فلن تستطيع اكتشافه بسهولة.

ويظهر الجانب الآخر من الحدود، وتبدو العلامات الحدودية بالمنظار أشبه ما تكون بتلك الدمية المستخدمة لطرد الجراد، وتظهر القرى المتداخلة بين الحدود، وقطيع بسيط من الأغنام يمر مع الراعي بعيدا.

المنظار رحلة بحد ذاتها، والغروب مشهد يتمنى المشاهد أن يخفض مدى تسارع نبضاته ليستمتع بالمشهد، بيد أن هيبة المكان وتاريخه يأبيان ذلك البتة.

هدوء مريب يسود المكان بمجرد حلول الليل، يعكس المهمة الصعبة التي يعيشها الساهرون في المنطقة.

الوصول إلى مواقع حرس الحدود التي شيدتها آلياتهم الخاصة، تعتبر مغامرة تقطع على أثرها السيارة طريقا وعرة، وهي في أسوأ الحالات أفضل مما سبق كما يقول العقيد بن محفوظ وهو مدير الشؤون العامة في حرس الحدود بجازان، إذ يؤكد أنها كانت أكثر وعورة في السابق.

وعودة إلى تسلسلات الحرب وتأثيرها، يقول أحد الجنود العاملين في المكان، كانت معركة الحوثيين بالنسبة إلينا نقطة فاصلة، خصوصا عندما نتحدث عن حراسة المكان، المسؤولية بعدها أصبحت أمن دولة كاملة، وأمن أهلينا هنا وهناك، فالحديث لا يقتصر عني بدوري أحد أبناء المنطقة، فالشباب الآخرون قدموا من شتى مناطق البلاد، ويستشعرون حماية وطنهم بشكل أكبر.

ولم تتوان قوات حرس الحدود عن تطوير مراكزها في الجبل بشكل أو بآخر، لا سيما أن مواقع المراكز قد تتغير بحسب مصدر مسؤول، إذ تعد استراتيجيات راسخة، ويقول «قطعا، لا يمكن الاكتفاء بنقطة أو مركز لوقت طويل، إذ يتحتم علينا التغيير بحسب المعطيات».

ويتناوب عدد كبير من أفراد وضباط حرس الحدود على الحراسة، التي يصفها جندي يعمل في مركز يعلو قمة أحد الجبال المتاخمة لجبل الدخان بـ«مراقبة اللاشيء» أو مراقبة المجهول.

يقول عمر.ب، الذي يعمل في حرس الحدود منذ 6 أعوام إن مهمة الحراسة تعني أنك تراقب بحذر، ويقظة، وتركيز كامل، ولا تنس أننا نغيب عن أهالينا فترة طويلة، ففترات الدوام تختلف في عددها لكنها تتفق على أنها وقت طويل في الغياب، وهذا يزرع لدينا ألفة كزملاء، ونحرص على تأدية العمل بالتساوي ومراعاة ظروف بعضنا البعض.

في المقابل، يفضل الحراس استخدام كافة الطرق في التصدي لأي متسلل أو مهرب، فهناك الطرق الحديثة من كاميرات ليلية وهناك أيضا الطرق التقليدية التي يعتمد عليها حراس الحدود من اقتفاء لأثر المشي أو السيارات التي تمر.

ويقضي غالبية الحراس وقتهم بالتناوب على العمل، ويعمل المنتهي عمله على تجهيز بعض الطعام لأصدقائه في أوقات الفراغ، مشاركة منهم في قضاء وقت يغمره التركيز وتأدية العمل.

الحس الوطني الذي يكون في أحيان جملة تستخدم في الشعارات أو الخطب، يتجلى في العمل بالحراسة لجبل الدخان، ويقول الجندي إن هذا يعني لنا كثيرا من المسؤولية والحرص، ولا تتسع الكلمات لوصف سعادتنا إذا ما قبضنا على متسللين أو أحبطنا عملية تهريب.

وتحت العلم السعودي الذي يرفرف على القمة نفسها التي تحدث منها الجندي، يقول العقيد عبد الله بن محفوظ «مهمة الرجال هنا صعبة، فالمنطقة سبق أن شهدت أحداثا راح ضحيتها شهداء الوطن، وهم معرضون على الدوام للخطر، لذا نحرص على تطوير كافة المرفقات وإعداد الأفراد والضباط المرابطين هنا نفسيا وبدنيا»، يضيف «يعتبر جبل الدخان نقطة فاصلة بالنسبة إلى حرس الحدود، فقد أغلقنا المنطقة حفاظا على سلامة الأهالي عقب ورود هجوم من طرف آخر، وما نعمله هنا هو الحفاظ على أرواحهم وممتلكاتهم».

يشار إلى أن القوات السعودية أجلت وقت نشوب الحرب، سكان قرى حدودية كانت على واجهة الخطر، مما اضطرهم إلى النزوح إلى الخوبة حتى تنتهي الحرب، ليخرج خادم الحرمين الشريفين معلنا إنشاء سكن خاص للنازحين من القرى الواقعة في المنطقة التي تم إغلاقها مذاك.

وعلى مشارف الجبل، تنبسط قرية الخوبة المشهورة بسوقها الخميسي، الذي كان رواده يفدون مع بزوغ الفجر، وحتى يتفحم الليل، وكان أبناء المنطقة بحسب أحمد هزازي وهو معلم صفوف أولية في جازان. يقول هزازي «شتان ما بين المنطقة قبل الحرب وبعدها، نحمد الله على وجود قوات تدافع عن أمننا ببسالة، لكن العدو أضرنا من حيث لا يعلم، فقد قضينا عليهم والحمد لله، لكن في المقابل، خسرت المنطقة وهجا سابقا لم تكن لتكتسبه مرة أخرى».

ولا تقتصر الأضرار الناجمة عن الحرب الواقعة في 2009 على البيوت والممتلكات في القرى الحدودية وحسب، بل أثرت الاضطرابات التي أحدثتها تسللات الخارجين عن القانون في المنطقة بشكل اقتصادي على الخوبة بالذات، وبحسب فواز حكمي وهو أحد السكان فإن سوق الخوبة الشهيرة التي كانت تعرض كل خميس أنواع البضائع المختلفة من بن يمني أصيل، وحيوانات كالنمور العربية والفهود والضباع، إلى جانب عدد واسع من البضائع الفريدة، اختفت تماما. يقول حكمي «أتلقى اتصالات كثيرة من أصدقائي خارج منطقة جازان، ويترددون دوما بالسؤال عن السوق وعودتها إلى نشاطها السابق»، ويضيف حكمي «كما أن المنطقة بأسرها كانت تشهد توافدا من سكان منطقة جازان والمناطق المجاورة لها للتنزه، في الشعاب والأودية والسهول، والربيع كان يحمل الكثير من الأعمال الخاصة التي كانت تساعد أهالي القرى البسيطة وحتى المباسط التي كان يجني منها السكان عملا كريما».

وتأبينا لمن قضوا شهداء على التاريخ وحماية الوطن، يشير العميد العامري بالقول «سيظل جبل دخان ومعركة جبل دخان شواهد ماثلة في الذاكرة الوطنية كونه المعركة الأخيرة والفاصلة لتحرير وتطهير حدنا الجنوبي من التسلل إلى بلادنا.. وبعد عودته أصبح رمزا وطنيا كما أنه ساهم في تنفيذ قرارات مؤلمة لإنشاء شريط حدودي عازل حتى لا يتكرر التسلل عبر تلك الحدود الصعبة.. وللحد من عمليات تهريب الأفراد والمخدرات والأسلحة، إنه رمز وشاهد على أن كل شبر غالٍ ومنيع في بلادنا».