شبعا الجنوبية تحتضن ألفي نازح معظمهم من بيت جن الدمشقية

سوريون يسلكون طرق المهربين ويقطعون جبل الشيخ سيرا على الأقدام إلى لبنان

TT

في الطريق إلى بلدة شبعا الجنوبية، الواقعة على سفوح جبل الشيخ الفاصل بين لبنان وسوريا، ثمة حاجز للجيش اللبناني، يوقف السيارات المتجهة نحو البلدة. يتحدث الجندي مع السائق والركاب سائلا عما إذا كانوا لبنانيي الجنسية. يتأكد من لكنتهم المحلية. يدور حول السيارة، يتفحص الجانب الخلفي فيها. يسجل اسم السائق والرقم المدون على لائحة السيارة على دفتر يحمله، قبل أن يأذن بالمرور.

في الطريق إلى شبعا، من بلدة بيت جن الواقعة في الريف الدمشقي على المقلب السوري من جبل الشيخ، ثمة نقطة لقوات الطوارئ الدولية على الحدود الفاصلة بين لبنان وسوريا. تستقبل الهاربين من القصف النظامي من الجانب السوري قاصدين بلدة شبعا اللبنانية. تقدم لهم الماء والطعام بعد رحلة سير على الأقدام تطول لساعات عدة، استعدادا للسير من جديد وصولا إلى المحطة الأخيرة، أي شبعا.

ليست الأزمة السورية وحدها هي التي خلقت وحدة الحال القائمة اليوم بين بيت جن السورية وشبعا اللبنانية. طرق التهريب الوعرة القائمة عبر جبل الشيخ الفاصل بين البلدتين التي يسلكها الأهالي منذ عقود طويلة، وعلاقات النسب والمصاهرة التي فرضتها المصالح المشتركة، جعلت العلاقات متينة بين الجانبين. يرتبط التهريب في ذاكرة أهالي البلدات الواقعة في منطقة العرقوب بشبعا، فحتى سنوات خلت لم يكن يخلو منزل من وجود بغل يستخدم في نقل البضائع المهربة. كما أن أهالي بيت جن يعرفون منطقة العرقوب جيدا. هم لطالما حملوا أكياس الينسون والأطباق والصواني المصنوعة يدويا من القش وجاءوا بها إلى البلدات الجنوبية لبيعها، مقابل المال حينا ومقابل زيت الزيتون حينا آخر.

ورغم أن دخول الأجانب، أي غير اللبنانيين، ممنوع إلى منطقة جنوب الليطاني، إذ يحتاجون لتصاريح مسبقة من قيادة الجيش اللبناني، فإن تدفق الهاربين من القصف النظامي في البلدات السورية الحدودية يجعل قيادة الجيش تغض الطرف استثنائيا عن الحصول على تراخيص مسبقة فيما تحصل بعد دخولهم على بياناتهم الشخصية، وفق ما يؤكده لـ«الشرق الأوسط» عدد من أبناء بلدة شبعا.

في شبعا أكثر من 2000 سوري وصلوا تدريجيا إلى البلدة، لكن أكثر من 50 عائلة وصلت خلال الأيام الأخيرة سيرا على الأقدام. نساء وأطفال ساروا لأكثر من 10 ساعات مع الماعز والحمير والبغال، داست أقدامهم على العشب الربيعي كما على الثلج الذي ما زال يغطي مساحات من قمم جبل الشيخ. لسان حال النازحين في شبعا كما من سبقهم إلى عكار وطرابلس والبقاع وعرسال: أمان في لبنان ولا موت في الشام.

تروي سيدة نازحة، سمراء البشرة، على مشارف الأربعين من عمرها، كيف اصطحبت أولادها السبعة من بيت جن إلى شبعا. تقول لـ«الشرق الأوسط»: «قبل أشهر دارت الاشتباكات في محيط بلدتنا، لكن في الأيام الأخيرة باتت مدافع الهاون تدك منازلنا. الأطفال لا يكفون عن النق. يصابون بالذعر مع سقوط كل مدفع. لم يعد الوضع محتملا فقررنا المغادرة».

على مقربة منها تتحسر سلفتها، زوجة شقيق زوجها. تروي كيف أن «البيك آب» الذي أقلهم من المنزل إلى المكان الذي انطلقوا منه سيرا على الأقدام أصيب بقذيفة. وتضيف بغصة «كنا ثلاثين نفرا ولولا رحمة الله لكنا قتلنا جميعا». وتؤكد أن «سلامة أولادي برزق الدنيا كلها. هنا على الأقل يلعبون ويبتسمون. هناك لم تكن لهم إلا الوسادة يخبئون رؤوسهم تحتها».

تصف السيدة الثلاثينية الملجأ حيث كانوا يختبئون فيه في بلدتهم بغصة «نحو 300 شخص كانوا ينزلون إلى الملجأ عندما يبدأ القصف. والملجأ أشبه بقبر تحت الأرض. لا نوافذ فيه ولا يجد النور سبيلا إليه. نسبة الرطوبة عالية جدا وبالكاد نستطيع التنفس». وتضيف «عانينا كثيرا ولم نكن نريد الخروج. الشعب السوري لا يستحق كل ذلك. منذ عامين لم تسأل الدولة عنا وهي لا تبالي اليوم بمصيرنا».

وتسرد سيدة ثالثة تفاصيل رحلة النزوح «انطلقنا نساء وأطفالا مع عدد من الماشية (ماعز وبغال) عند الثالثة فجرا من تخوم البلدة، بعد أن ودعنا أزواجنا. سرنا لمسافات طويلة، بعض الأطفال حفاة وأصيبوا بجروح وندوب، كلما تعب أحدهم نحمله ثم يسير من كان محمولا، سرنا في الوعر وفوق الثلج، غصنا في الوحول، حتى وصلنا إلى نقطة القوات الدولية. قدموا لنا الماء والبسكويت للأطفال. ارتحنا قليلا ثم عبرنا الحدود إلى لبنان حيث كان عدد من أهالي شبعا ينتظروننا، وأكملنا الطريق إلى البلدة. أسعفوا من يحتاج للإسعاف، لا سيما من الأطفال، وأمنوا لنا المأوى والمأكل والمشرب».

لا تتلقى العائلات النازحة في شبعا إلا مساعدات محلية من البلدية وبعض الجمعيات. يقول رئيس بلدية شبعا محمد صعب، لـ«الشرق الأوسط» إن نحو ألفي شخص موجودين في البلدة اليوم، وتعمد البلدية بمبادرة منها إلى تنظيم وجودهم من خلال منح كل نازح بطاقة عليها صورته الشمسية واسمه ومكان سكنه الحالي في شبعا. يحضر رئيس البلدية.. وتهتم البلدية، وفق ما يوضحه رئيسها وهو يمسك بلوائح تضم أسماء النازحين السوريين، بتأمين المسكن والكهرباء وبعض المساعدات الغذائية، كما تقدم بعض الجهات كتيار المستقبل ودار الزكاة ووقف النور الخيري والجماعة الإسلامية بعض المساعدات من إعاشات وفرش وحرامات. يؤكد صعب «إننا نساعد باللحم الحي ولا يخلو منزل من نازحين سوريين، لكننا غير قادرين على الاستمرار في مساعدة هذا العدد الكبير خصوصا أن الدولة لم تدفع مستحقات البلديات بعد». ويشير إلى أن «الوضع مرشح للتفاقم، خصوصا أن 7 آلاف شخص من أبناء البلدة موجودون فيها اليوم، لكن العدد سيرتفع إلى 30 ألفا مع بدء موسم الصيف، ولن نكون عندها قادرين على تأمين الكهرباء حتى».

لا يقتصر وجود السوريين في منطقة العرقوب على شبعا فحسب. يقول صعب، وهو رئيس اتحاد بلديات العرقوب، إن قرابة مائة عائلة سورية موجودة في قرى كفرشوبا والهبارية وكذلك في حاصبيا وقراها التي تحتضن عددا من العائلات وتحاول مساعدتهم قدر المستطاع، في ظل غياب تام للحكومة اللبنانية ومساعدات الدول المانحة عن هذه المنطقة».

لكن الناطقة باسم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة دانا سليمان أكدت لـ«الشرق الأوسط» أن المفوضية تتابع وضع النازحين في شبعا من خلال شركائها المحليين، وتم توزيع إعاشات ومساعدات عينية. ولفتت إلى أن التواصل مستمر مع الأمن العام والجهات الرسمية من أجل حل تسوية أوضاع النازحين الذين يدخلون إلى لبنان من خلال معابر غير شرعية.