ثاتشر التزمت بمواقفها المبدئية رغم الانتقادات وعناوين الصحف اللاذعة

أول سيدة تتبوأ منصب رئيسة وزراء بريطانيا.. برزت بالسياسة الاقتصادية الليبرالية

TT

منتصف الليل في لندن، فجر 2 أغسطس (آب) 1990 بتوقيت الكويت، ورئيس الوزراء وقتها الشيخ سعد العبدالله في نويبع على حدود الكويت - السعودية ليؤمن سلامة الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد؛ اتصل برئيسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر. السيدة الحديدية (كما سمتها صحيفة «النجم الأحمر» السوفياتية) بادرت بتجميد أرصدة العراق والكويت، وإقناع بقية الدول الحليفة باتخاذ الإجراء نفسه، في موقف مبدئي صلب، وتحفيزها للرئيس الأميركي حينها جورج بوش الأب بالتحرك السريع، قائلة: «ليس هذا وقت التردد يا جورج». وجهت ثاتشر حينها دبلوماسية أنغلو - أميركية لرسم خارطة طريق تحرير الكويت.

كان غزو الكويت من الأحداث التي اختبرت ثاتشر التي كانت من أبرز الشخصيات التي رسمت السياسات في النصف الثاني من القرن الماضي. وثاتشر التي توفيت أمس عن عمر يناهز 87 والتي لم تنم أكثر من 4 ساعات في الليلة واجهت تحديات كثيرة. واجهت ثاتشر أصعب تحد لأول امرأة تتزعم بريطانيا قبل ثماني سنوات من غزو الكويت، عندما نصحها وزراؤها بالتفاوض مع الأرجنتين لشكوكهم في قدرة بريطانيا عسكريا على تحرير جزر الفوكلاند. السيدة الحديدية لم تتخذ طوال تاريخها السياسي سوى مواقف مبدئية، وبعكس ساسة اليوم لم تعبأ لعناوين الصحف، فرفضت التفاوض مع الديكتاتورية العسكرية وأبحرت سفن البحرية الملكية نحو الفوكلاند. وكانت على وشك إلقاء خطاب عام خارج لندن عندما وصل إليها خبر إغراق سفينة «السير جالاهاد» وإصابة ومقتل عشرات البحارة والجنود. بكت بحرقة في غرفة داخلية، فقد أدارت الحكومة بعقلية ربة بيت من الحرب العالمية الثانية، التي تمثل جيل التضحيات، والخروج من تحت الأنقاض لكنس التراب وإنقاذ ما يمكن إنقاذه لإعداد العشاء لأهل الحي. وحسب نصيحة الملكة إليزابيث الأم (والدة الملكة الحالية) لنساء الحرب العالمية بالتزين والابتسام حتى لا تنال غارات العدو من الروح المعنوية؛ جففت ثاتشر الأم دموعها، وألقت الخطاب لمستمعيها؛ لتسرع ثاتشر زعيمة الأمة إلى مقر رئاسة الحكومة البريطانية «10 داونينغ ستريت» لتجري المكالمات الشخصية إلى أمهات شهداء المعارك الدائرة.

ثاتشر أطول رؤساء حكومات بريطانيا بقاء في «داونينغ ستريت» (بين عامي 1979-1990) ولم يخسر المحافظون انتخابات أثناء زعامتها للحزب فوصفوها بأقوى الزعماء منذ السير ونيستون تشرشل (وتقارن به في الوطنية والتمسك بالمبادئ). ولكن لقي انتخابها زعيمة للمحافظين عام 1975 امتعاض التقليديين من الطبقة العليا لأنها ابنة بقال من الريف لا ابنة جنرال أو أحد أقطاب النخبة.

عندما دخلت خريجة أكسفورد في العلوم «داونينغ ستريت» بفوز المحافظين الكاسح في انتخابات 1979، كان اقتصاد بريطانيا في حاجة إلى إدارته بعقلية «ابنة بقال» على دراية بتقشف ربة الأسرة من الحرب العالمية الثانية. ولم توظف طاهية أو خدما كرئيسة حكومة؛ بل أدت الأعمال المنزلية بنفسها، وأصرت على طهو وجبة الإفطار بنفسها وتقديمها لزوجها دينيس وطفليها كارول (مذيعة فيما بعد) ومارك (رجل أعمال ومستثمر).

ولدت مارغريت هيلدا في 13 أكتوبر (تشرين الأول) 1925 في جرانثام، بمقاطعة لانكولنشير للبقال الفريد روبرتس وزوجته بياتريس إيثيل (ستيفنسون قبل الزواج). بعد الدراسة الابتدائية، ذهبت بمنحة مجانية لمدرسة كيستيفين وجرانثام الثانوية للبنات، وبجانب مساعدة والدها في المتجر، التحقت بفريق الهوكي والسباحة وغناء الكورال وعزفت البيانو. وبعد التوجيهية، حصلت على منحة من جامعة أكسفورد لدراسة الكيمياء في كلية سمرفيل وتخرجت ببكالوريوس العلوم مرتبة الشرف الثانية عام 1947.

فشلت محاولاتها الأولى للفوز في الانتخابات في دوائر تصوت تقليديا للعمال، لكن زواجها عام 1951 من دينيس ثاتشر قدم لها سندا قويا وحليفا مدى الحياة حيث مولها لدراسة القانون عام 1953 (معظم ساسة بريطانيا محامون). وبعد محاولتين فاشلتين انتخبت لمجلس العموم عام 1959 وتكرر نجاحها في دائرة فينشيلي بشمال لندن حتى التسعينات من القرن الماضي.

كوزيرة للمعارف في حكومة إدوارد هيث 1970-1974، استغلت الصحافة تناغم اسمها مع كلمة «خاطف» ليسمونها خاطفة اللبن بعد إلغاء دعم توزيع اللبن المجاني على المدارس. وكانت زعيمة المعارضة في مجلس العموم 1975 حتى 1979.

وفي الجامعة تزعمت جمعية الطلاب المحافظين وتأثرت بأعمال وكتابات تحرريين «ليبراليين» اقتصاديا خاصة فريدريك فون هايك الذي رفض تدخل الحكومة اقتصاديا في إدارة السوق الحرة والمعاملات التجارية معتبرا أنها حصان طروادة إلى أوتوقراطية الدولة.

ظهر تاثير فون هايك في العقيدة «الثاتشرية» من خلال سياسة خصخصة القطاع العام والخدمات، وفتح الأسواق وحرية التجارة لترويج ما سمته «ديمقراطية الملكية الفردية»، بتمكين محدودي الدخل من تملك مساكنهم المستأجرة بالتقسيط.

أدت سياستها إلى صدام مع النقابات العمالية، خاصة النقل وعمال المناجم، في صراع استمر عاما وانتصرت فيه ثاتشر؛ وهو ما لم يغفره لها اليسار البريطاني. لكن هذه السياسة أيضا، في محور التحالف السياسي والاقتصادي مع إدارة الرئيس الأميركي حينها رونالد ريغان أدت إلى انتصار العالم الحر في الحرب الباردة.

وبذلت جهودا عديدة في توجيه «مؤسسة ثاتشر» التي أنشأتها بعد خروجها من الوزارة لمساعدة شعوب شرق أوروبا بعد تحررها من الشيوعية. وقبل تدهور صحتها في السنوات الأخيرة ؛ خاصة بعد وفاة زوجها دينيس، الذي كان سندها الأكبر في الحياة، عملت وراء الكواليس لدعم المصالح البريطانية.. فعلى سبيل المثال اتصلت مرة بزعيم عربي لتوبخه على محاولته تسليح بلاده بدبابات أميركية وليست بريطانية. وبادرت بتقديم النصيحة لخلفائها، خاصة توني بلير للحفاظ على التحالف مع الولايات المتحدة بأي ثمن. وقد لقي بلير غضب اليسار البريطاني لاتباعه سياستين، اقتصادية وخارجية أقرب للثاتشرية من السياسة التقليدية للعمال.

ثاتشر التي أمرت الملكة إليزابيث، بالتنسيق مع «داونينغ ستريت»، بأن يشيع جثمانها في جنازة دولة رسمية، خلفت تركة، قد ينقسم المؤرخون والمراقبون على آثارها المعاصرة أثناء حكم السيدة الحديدية، لكن لا يختلف اثنان على بصماتها الهائلة التي تركتها على المشهدين البريطاني والعالمي، في تحرير الاقتصاد، وتحرير الفوكلاند، وتحرير الكويت، والمشاركة مع الحليف الأميركي في تحرير شعوب شرق أوروبا من الشيوعية.

* أشهر أقوال ثاتشر

* «يجب وقف المعتدي. هذا هو درس القرن، إذا استطاع المعتدي أن يفلت فسيريد آخرون الإفلات أيضا، لذلك يجب وقفه».

في مقابلة صحافية عن حرب 1991 وقرار الحرب بعد غزو نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين للكويت

* «لا يوجد شيء اسمه مجتمع».

في مقابلة صحافية عام 1987، كانت ثاتشر تشير إلى واقع أن المجتمع مبني على الأفراد وأن على الأفراد تحمل مسؤولياتهم وخصوصا مسؤولية العمل بدلا من انتظار مساعدات من المجتمع أو الحكومة. وكان هذا من أكثر الأقوال التي أثارت غضب معارضيها وحزب العمال

* «لست هنا ليحبني الآخرون».

مقولة كررتها كثيرا ردا على المعارضين لسياساتها الداخلية

* «ستمر سنوات - وليس بحياتي أنا - قبل أن نرى سيدة تقود حزب (المحافظين) أو تصبح رئيسة للوزراء».

في خطاب ألقته ثاتشر وهي وزيرة عام 1974