الوجه الجديد لمسجد «فينسبري بارك».. تواصل مع المجتمع المحلي وحوار أديان

جامع في لندن يرفض وصفه قديما بأنه «بؤرة للانتحاريين»

مسجد «فينسبري بارك («الشرق الأوسط»)
TT

يقطع صوت تهشم هائل سكون الليل البارد في شمال لندن، بينما يدك كبش معدني يزن خمسين رطلا أبواب المسجد المحكمة. تدخل قوات الشرطة المسلحة بهدوء، مرتدية أغطية خاصة منزلقة على أحذيتها ذات العنق، إلى مسجد «فينسبري بارك»؛ وتتجه مجموعة مباشرة نحو منطقة الوضوء؛ فيما تصعد مجموعة أخرى أدراج السلم إلى المكاتب ومنطقة الصلاة. كان هذا في عام 2003 وكان يدير المسجد رجل يعبئ المسلمين لكراهية غير المسلمين، هو أبو حمزة المصري، ووقتها كان المسجد بمثابة «بؤرة للانتحاريين»، كما أشار اثنان من صحافيي «التايمز» في كتاب شهير يعرض قائمة واقعية بأسماء متطرفين وإرهابيين خطرين.

بعد عشر سنوات، عادت قوات الشرطة مجددا، ولكن في هذه المرة بوصفها جزءا من برنامج مجتمعي واسع النطاق للتعامل مع جرائم الكراهية والسلوكيات المعادية للمجتمع في المنطقة المحلية. وفي واقع الأمر، ليس المسؤولون رفيعو المستوى من الشرطة المحلية هم فقط من يحضرون هذا المؤتمر المفتوح في المسجد؛ بل يلقي النائب البريطاني جيريمي كوربين الخطاب الافتتاحي.

تولى الأمناء الحاليون، تحت لواء الرابطة الإسلامية في بريطانيا، إدارة مسجد «فينسبري بارك» في عام 2005؛ بعد عامين من مداهمة الشرطة، وبعد عام من اعتقال الإمام السابق أبو حمزة استنادا لتهم إرهابية. يذكر أن الرابطة الإسلامية في بريطانيا تشكلت في عام 1997 على يد عدد من المسلمين البارزين المقيمين في بريطانيا، من بينهم شخصيات معروفة، مثل كمال الهلباوي ووليد سفور. كانت تلك الرابطة في البداية منخرطة في حركات الاحتجاجات البريطانية: من بينها «ائتلاف وقف الحرب» و«حملة نزع الأسلحة النووية». ويترأس الرابطة حاليا عمر الحمدون.

ومنذ تولي الرابطة الإسلامية في بريطانيا إدارة مسجد «فينسبري بارك»، فقد شهد تحولا جذريا.

من مكتبه الصغير، تحدث مدير مسجد «فينسبري بارك»، محمد كوزبار، لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «في عام 2005، تقرب من الرابطة الإسلامية في بريطانيا المجلس المحلي والشرطة ونواب البرلمان والجمعيات الخيرية من أجل محاولة مد يد العون في حل المشكلات التي يواجهها المسجد. وبعد مناقشات مكثفة، قررنا المضي قدما في عملية الاستحواذ الكامل على المسجد، لأننا اعتقدنا أنها ستكون ذات نفع لكل من المسلمين والمجتمع الأوسع نطاقا. كنا نعي أن عدة مشكلات تحدث هنا، ورأينا أن واجبنا أن نساعد في حلها». وأضاف: «فعلنا ذلك لصالح المجتمع. لقد ذاق المجتمع الأمرين هنا؛ كل من المسلمين وبقية قطاعات المجتمع بسبب مشكلات المسجد. رأينا أن هذه ربما تكون فرصة لتغيير رأي الناس بشأن هذا المسجد على وجه التحديد والمساجد في العموم».

مع نهاية التسعينات من القرن العشرين، وتحت سيطرة أبو حمزة، الذي عرف بتعبئة مشاعر الكراهية، أصبح المسجد الواقع في شمال لندن ملاذا للمسلمين المتطرفين. تنتج قائمة المسلمين المتطرفين الذين مروا بالمسجد إبان هذه الفترة قراءة مريرة للمشهد وتضم عددا من الشخصيات سيئة السمعة. ومنها شخصيات ذات صلة بتنظيم القاعدة مثل مفجر الحذاء بريطاني المولد ريتشارد ريد، الذي حاول إشعال فتيل مواد متفجرة وهو على متن طائرة عابرة للمحيط الأطلسي متجهة من باريس إلى ميامي في نهاية عام 2001، وزكريا موسوي المعروف بلقب «المختطف العشرين»، أول شخص تتم إدانته في الولايات المتحدة في هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. ونضيف إلى ذلك الجزائري كامل بورغاس، الذي تم احتجازه بسبب اتهامه في مخطط مزعوم قام من خلاله بطعن ضابط شرطة ليرديه قتيلا، أثناء محاولته الهروب من السجن، ويقال إنه قد اختبأ داخل المسجد عدة مرات.

تشير تقديرات إلى أن 35 على الأقل من المحتجزين بمعتقل «غوانتانامو» مروا بمسجد «فينسبري بارك» وقتما كان لا يزال تحت إشراف أبو حمزة. وأثناء محاكمته أمام محكمة «أولد بايلي»، زعم أن الخطيب مصري المولد الذي سلم أخيرا إلى الولايات المتحدة حيث تجري محاكمته، قد أصبح «يجند أفرادا لارتكاب جرائم إرهاب وقتل»، حيث كان يغرس في جموع المصلين «المتعصبين» مشاعر الكراهية والتعصب.

وعلى الرغم من أنه قد تم عزل أبو حمزة من منصبه في أعقاب اقتحام الشرطة المسجد، فإنه استمر في إلقاء خطبه لأتباعه من المتطرفين أمام المسجد كل جمعة، حيث كانت تؤدى الصلوات في الهواء الطلق، مع تسليط الضوء في أغلب الأحيان من قبل وسائل الإعلام.

انتهى عهده في نهاية المطاف في عام 2004 بعد أن بدأت الولايات المتحدة تسعى إلى تسلمه بسبب دوره المزعوم في محاولة تشكيل «معسكر تدريب إرهابي» في أوريغون. اعتقلته السلطات البريطانية في 26 أغسطس (آب) بموجب المادة «41» من قانون الإرهاب لعام 2000. وتمت إدانته باثنتي عشرة تهمة من إجمالي خمس عشرة تهمة منفصلة، من بينها ست تهم بالتحريض على القتل، وثلاث تهم مرتبطة بتأجيج مشاعر الكراهية العنصرية، وتهمة امتلاك «موسوعة إرهابية».

تولت الرابطة الإسلامية في بريطانيا مهمة إدارة المسجد في فبراير (شباط) 2005 مع تعهد بإجلاء العناصر المتطرفة وإعادة دمج المسجد في المجتمع المحلي.

وتحدث كوزبار إلى «الشرق الأوسط» بجدية وهو يستند للأمام في مقعده، قائلا: «في فبراير 2005، أصبحنا رسميا أمناء المسجد، ومنذ ذلك الوقت، أصبح المسجد مستقرا، وتلاشت المشكلات، ورحل من اعتادوا السيطرة عليه ولم يعودوا أدراجهم مطلقا».

ولدى سؤاله عما إذا كان المسجد، في صورته الحالية، قد واجه مشكلات من قبل جموع المصلين في عهد أبو حمزة، يقول كوزبار: «غادروا ولم يعودوا أدراجهم مطلقا».

ومع ذلك، فإنه يقر بأن الأمناء الجدد واجهوا عدة مشكلات، قائلا: «واجهنا كثيرا من التحديات والعقبات. كان الموقف مروعا؛ لم يكن كثيرون يأتون إلى هنا؛ بدافع الخوف.. لم يثقوا فيما كان يحدث في المسجد، وكان علينا أن نحاول استعادة هذه الثقة ونأتي بالناس مجددا إلى المسجد».

يتحدث الشيخ شكري ماجولي، إمام المسجد المعين حديثا، قائلا: «مر المسجد بمرحلة صعبة. الجميع يعلم كيف كانت. كانت هناك عدة مشكلات، ولكن بفضل الله، منذ أن آلت مسؤولية إدارة المسجد إلى الرابطة ومجلس الأمناء، تغير الوضع برمته.. فقد أصبح المسجد مستقرا وبدأ يلعب دوره في تعليم الناس مبادئ الإسلام والتواصل مع المجتمع المحلي، ليس فقط المسلمين، ولكن غير المسلمين بالمثل».

كان كوزبار، الذي فضلا عن أنه مدير للمسجد يرأس أيضا فرع الرابطة بشمال لندن، هنا منذ البداية. وبالنظر إلى الأعوام الثمانية الماضية، يقول: «عملنا بجد واجتهاد، ولا يمكنني القول إن المهمة كانت هينة، لكن بفضل الله، كان المجتمع هنا في حاجة ماسة للتغيير وساعدنا كثيرا. علاوة على ذلك، فقد كان لدينا أيضا شركاء آخرون، مثل الشرطة والمجلس المحلي والنائب جيريمي كوربين، الذي كان متعاونا جدا. وقد عملنا معهم في شراكة وما زلنا نعمل معهم في إطار تلك الشراكة».

ومع ذلك، لم تأت الرياح بما تشتهي السفن على الدوام؛ إذ يشير كوزبار إلى أن المجلس قد واجه عدة محن صعبة منذ تولي الرابطة مسؤولية إدارة المسجد، بما في ذلك الهجمات على المسجد.

وفي يونيو (حزيران) 2011، تعرض المسجد لهجوم مشتبه به بالجمرة الخبيثة، مما أثار حالة من الفزع بين المصلين بعد إغلاق الشرطة المنطقة. تلقى المسجد حزمة، موجهة لإمام أسبق يدعى أحمد سعد، تضم مسحوقا أبيض مشتبها به إلى جانب رسالة معادية للإسلام وصور مسيئة لسيدات مسلمات. استدعى طاقم عمل المسجد على الفور قوات الشرطة التي قامت بإغلاق المنطقة والمسجد. وتم فرض الحجر الصحي على أفراد طاقم العمل الذين تعرضوا للمسحوق المشتبه به داخل المسجد إلى أن يتم تطهيرهم.

وقال كوزبار في ذلك الوقت: «أيا كان من أرسل هذا الطرد، فهو يحاول عزل المجتمع وإفشال كل الجهود الحثيثة التي قمنا بها. أتمنى أن أصحبهم في زيارة إلى المسجد وأن أريهم العمل الجيد الذي قمنا به».

وفي أعقاب ذلك الهجوم، تلقي المسجد دعما من السياسيين المحليين، بما في ذلك جيريمي كوربين، وهو النائب عن منطقة آيسلينغتون نورث، الذي استقبل المقيمين في دائرته الانتخابية وعقد اجتماعات معهم في المسجد. وقال كوربين: «أنا من أشد المعجبين بالعمل الذي يقوم به المسجد. هم جزء من المجتمع ولا يستحقون المعاملة بهذه الطريقة المهينة من جانب أولئك الذين يسعون لتهديدهم».

ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يتعرض فيها هذا المسجد للتهديد منذ أن أصبح تابعا للرابطة الإسلامية في بريطانيا، ففي شهر يوليو (تموز) 2010، ألقى بعض المخربين برأس خنزير على بوابة المسجد من الخارج.

وتزامن هجوم الجمرة الخبيثة الوهمي مع اليوم المفتوح للحي الذي نظمه المسجد للمرة الرابعة، وهو إحدى المبادرات العديدة التي طرحها مجلس أمناء الرابطة الإسلامية في بريطانيا بهدف دمج المسجد في المجتمع بصورة أوسع.

في الواقع، تبدو التغييرات التي قام بها المسجد واضحة بمجرد دخولك إياه، حيث يتم استقبالك بشاشة تلفزيونية مسطحة كبيرة عليها الجدول الزمني للأنشطة التي يقوم بها المسجد، وهو ما يعكس المجموعة المتنوعة للأنشطة التي يقوم بها المسجد، بداية من دروس تعلم اللغتين العربية والإنجليزية والتعاليم الإسلامية للشباب والفتيات، وحتى وجود ناد للشباب وصالة ألعاب رياضية.

أما بالنسبة لليوم المفتوح للحي الذي ينظمه المسجد بصورة سنوية، فيقول كوزبار إنه يضم إقامة معارض وعرض أفلام والقيام بجولة داخل المسجد، مشيرا إلى أن طلبة مدارس وجامعات محلية يقومون بزيارة المسجد كل شهر بهدف معرفة كثير من الأمور عن الإسلام.

وأكد الإمام ماجولي على ذلك، قائلا: «نحن نرحب بالمسلمين وغير المسلمين على حد سواء، ونتمنى أن نتطور بصورة أكبر في المستقبل حتى تعود الفائدة على المجتمع من المسلمين وغير المسلمين، وحتى نتمكن من تقديم رسالة مشروعة والقيام بدور مشروع. المسجد ليس مكانا للعبادة فحسب، ولكنه مكان أيضا للتواصل مع المجتمع المحلي وللدعوة الإسلامية ولتعليم الناس تعاليم الإسلام».

وبلغة عربية فصحي، قال ماجولي، الذي سبق أن عمل إماما في مسجد «ريجينت بارك» ومسجد «مايفير»، وهو يشير إلى المسجد: «نتمنى أن يتطور هذا المسجد بصورة أكبر في المستقبل، وأن يخدم المسلمين وغير المسلمين في المجتمع المحلي وفي لندن ككل».

ويعد «فينسبري» أيضا جزءا من المنتدى الإيماني لآيسلينغتون، وهو عبارة عن شراكة مجتمعية من المنظمات الدينية التي تعمل معا للمساعدة في تنمية المجتمع المحلي.

وقال كوزبار: «يحدث العديد من الأشياء التي لم نكن نتخيل حدوثها، وأصبحت مهمة التواصل بين الأديان أحد العناصر الأساسية التي يركز عليها المسجد. لقد عاد الشباب مرة أخرى إلى المسجد، ولدينا قسم خاص بالنساء، وهو القسم الأكثر نشاطا في المسجد».

وبالنسبة للمصليين المترددين على المسجد، أعرب كوزبار عن سعادته البالغة قائلا: «يأتي المصلون من جميع الطوائف والخلفيات، فلدينا جالية صومالية كبيرة في المسجد، وهناك أيضا ألبانيون وأكراد وعرب، لا سيما من الجزائر، علاوة على جالية كبيرة من البنغال. ويجتمع هؤلاء جميعا في مسجد (فينسبري بارك) كل يوم».

وعلاوة على ذلك، أبدى كوزبار فخره الشديد بـ«قسم الأخوات» في المسجد، وقال في حديث خاص لـ«الشرق الأوسط»: «يعد قسم الأخوات أحد أكثر الأقسام نشاطا في المسجد، حيث يقوم بالعديد من الأنشطة المحلية مثل حلقات الدراسة والدورات الدينية والتعليمية المختلفة، كما يمثل هذا القسم المسجد في الاجتماعات المختلفة التابعة للمجلس المحلي للمنطقة». وفي الآونة الأخيرة، التقى «قسم الأخوات» بالمسجد بلجنة النساء التابعة لإحدى الكنائس المحلية.

وأكد الإمام ماجولي على أهمية الدور الذي يقوم به المسجد فيما يتعلق بالتواصل بين الأديان، وقال لـ«الشرق الأوسط»: «الحوار بين الأديان ضرورة. تحاول بعض وسائل الإعلام إثارة المخاوف من الإسلام والمسلمين بطريقة غير موضوعية، ونحاول مواجهة هذا. يتعين علينا أن نسعى للتغلب على هذا الصدام الحضاري ونظهر زيف هذه الآراء».

وفي وقت سابق من العام الحالي، شارك مسجد «فينسبري بارك» أيضا في الاجتماع الرسمي لحركة «اتحدوا ضد الحركة الفاشية» التابعة لآيسلينغتون، وقد عقد هذا الاجتماع تحت عنوان «احتفال بالتنوع، والدفاع عن التعددية الثقافية، ومعارضة الإسلاموفوبيا والعنصرية»، وشهد حضور شخصيات سياسية ونقابية ودينية إلى المسجد معا.

وعندما يأتي الأمر لوسائل الإعلام يختلف تماما، حيث قال كوزبار: «على الرغم من التغييرات الإيجابية التي حدثت هنا، رفض كثيرون رؤية ذلك، وللأسف تستمر معظم وسائل الإعلام في الحديث عن المسجد كما كان من قبل. القضية المتعلقة بصورة المسجد تعد بمثابة تحد بالنسبة لنا. نريد أن نفتح المسجد لوسائل الإعلام ونقول لهم: انظروا؛ ليس هناك شيء تخافون منه. المسجد مفتوح للجميع ونرحب بأي شخص يريد أن يأتي ليرى التغييرات الإيجابية التي حدثت هنا». وعلاوة على ذلك، لعب مسجد «فينسبري بارك» دورا هاما في التحضير لدورة الألعاب الأولمبية التي استضافتها لندن، حيث شارك في عدد من البرامج المجتمعية، وتم اختيار كوزبار من قبل المجلس المحلي على أنه «بطل المجتمع» الأولمبي نظرا لعمله على جلب المجتمعات والجاليات معا.

وفي تعليقه على ذلك، قال كوزبار: «أنا فخور للغاية بذلك وسعيد لأن عملنا في المسجد قد لاقى تقديرا. لا يزال هناك الكثير للقيام به، ولكن إذا نظرنا إلى الوراء على مدى السنوات الماضية، فسنجد أنه كانت هناك عملية كبيرة لبناء الجسور بين الأطراف المختلفة».

وقال كوزبار لـ«الشرق الأوسط»: «إنه لشيء عظيم بالنسبة للمجلس أن يدرك ويقدر الجهود العظيمة التي بذلها المسجد. نحن فخورون لقدرتنا على تحويل المسجد من مكان مشتبه به إلى مكان آمن، وهو ما يدفع بنا لمواصلة العمل الجيد». وعندما سئل عما إذا كان قد تمكن من تحقيق كل الأشياء التي كان يصبو إليها عندما تولى إدارة المسجد في البداية، ابتسم كوزبار وهو يبدو عليه الإرهاق، قائلا: «نجحنا في نواح كثيرة. نجحنا في تغيير صورة المسجد، كما نجحنا في فتحه أمام المجتمع المحلي وعلى نطاق أوسع، ولكن ما زال هناك الكثير من العمل الذي يتعين علينا القيام به».