الشوباني: الجمعيات المغربية المصرحة بشراكاتها مع الخارج لم يتعد عددها 352 عام 2012

وزير العلاقات مع البرلمان المغربي يقول لـ «الشرق الأوسط» إن ضمور ثقافة الحوار في المجتمع يقف وراء تفجر الأوضاع وقيام «الربيع العربي»

TT

قال الحبيب الشوباني، وزير العلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني المغربي، إن ضمور ثقافة الحوار في المجتمع يقف وراء انفجارات الأوضاع وقيام الربيع العربي.

وأشار الشوباني، في حديث أجرته معه «الشرق الأوسط» مؤخرا في الرباط، إلى أن مهمة لجنة الحوار الوطني حول المجتمع المدني، الذي أطلق في الآونة الأخيرة وسيستمر مدة سنة، ليست إنتاج إجابات للحوار، بل إدارته. وبشأن اتهام مبادرته بأنها تهدف إلى اختطاف المجتمع المدني، قال الشوباني، المنتمي إلى حزب العدالة والتنمية، ذي المرجعية الإسلامية، ومتزعم الائتلاف الحكومي الحالي، إن من يقولون هذا الكلام يستخفون بالمجتمع المدني لأنهم يعتقدون أنه شيء يمكن أن يوضع في سلة ويخطف.

وحول دعوة بعض الجمعيات إلى مقاطعة الحوار الوطني، قال الشوباني إنه توجد في المغرب آلاف الجمعيات، وإذا كانت مجموعة منها تدعو إلى مقاطعة الحوار الوطني حول المجتمع المدني فهذا موقف طبيعي لأن منطق الإجماع في كل هذه القضايا ليس ممكنا. وأوضح أن الحوار يجب أن يصبح مطلبا ثقافيا وسلوكيا.. والكرسي الفارغ لا قيمة له. وذكر الشوباني أنه لا أحد اليوم يجهل أنه بقدر ما هناك نقاط قوة في المجتمع المدني وفعالية وتاريخ عطاء، فإن هناك تقارير ومعطيات تفيد بأن هناك اختلالات خطيرة مرتبطة أساسا بضعف حكامته.

وكشف الشوباني أن 1024 جمعية فقط من أصل 70 ألفا استفادت عام 2012 من إنفاق القطاعات الحكومية على المجتمع المدني المنظم، مشيرا إلى أنه لا توجد معايير محددة لتلك الاستفادة. وبشأن عدد الجمعيات المغربية المصرحة بشراكاتها مع الخارج، قال الشوباني إنه محدود جدا، ولم يتعدَّ 352 جمعية عام 2012. وأشار إلى أن موضوع التمويل الخارجي للكثير من الجمعيات من القضايا التي فيها معلومات غير مكتملة، وقال: «كل ما نملكه الآن هو ما تصرح به بعض الجمعيات للأمانة العامة للحكومة، بمقتضى القانون». وفي ما يلي نص الحوار:

* أطلقتم حوارا وطنيا حول المجتمع المدني سيستمر مدة سنة، لكن الملاحظ أن ثمة سوء فهم كبيرا بينك أو بين الوزارة والكثير من الجمعيات بشأن موضوع الحوار.. ما حقيقة سوء الفهم هذا؟

- أولا، يجب التأكيد على أن الحوار الوطني ينخرط في إطار دينامكية تبنتها الحكومة تهدف إلى إشراك أوسع لمكونات المجتمع في كل القضايا التي لها علاقة بتفعيل الدستور، وإعطاء هذه المشاورات بعدا بيداغوجيا (تربويا) يدمج ثقافة الحوار في المجتمع، نظرا لأننا في المجتمع المغربي عشنا ظروفا اتسمت أحيانا بنقص في الحوار أدت إلى مشكلات كثيرة بين الدولة والمجتمع. ولذلك، نحن واعون منذ البداية بأن علاقة المجتمع المدني بالدولة والمؤسسات الرسمية ليست دائما علاقة تناغم وتجاوب، خصوصا عندما يكون هذا الفاعل المدني المنظم له امتداد في الحقل السياسي. فعندما نرى أن حزبا سياسيا معارضا يعلن أنه سيقاطع كل حوارات الحكومة، وأن بعض الأعضاء المرتبطين بهذا الحزب سياسيا يعلنون عدم مشاركتهم في عضوية اللجنة الوطنية للحوار، يكون المنطق واضحا ومفهوما بأن هناك منطقا سياسيا يمتد إلى حقل العلاقة مع الفاعل المدني. لهذا يبقى العامل السياسي هو العامل المحدد أساسا لهذا الموقف، وهو عامل عادي وطبيعي في سياق تحولات لم تفصل بعد بين الفعل المدني والفعل السياسي كأفعال مستقلة من دون أن يكون هناك إشكال في أن يكون الفرد له نشاط سياسي وآخر مدني. لكن التأثير بين الفعل السياسي والفعل المدني في هذه النازلة كان واضحا، وبالتالي فإن كل التبريرات التي قدمت لتبرير هذا النوع من عدم الموافقة على المشاركة في عضوية اللجنة لم تكن مبنية على أسس صحيحة. ثم لا بد أن أقول إن هذا الأمر هو محدود كيفما كان الحال. ذلك أن المغرب توجد فيه آلاف الجمعيات، وإذا كانت مجموعة من الجمعيات تدعو إلى مقاطعة الحوار فهذا موقف طبيعي، لأن منطق الإجماع في كل هذه القضايا ليس ممكنا، وأنا دائما أقول إنه حتى الدستور نفسه لم يكن موضع إجماع. وقد سمعت مؤخرا تصريحا غريبا لمسؤول سياسي في حزب معارض يقول فيه إنه لم يصوت على الدستور أصلا، وهو فاعل رئيس في ذلك الحزب. إذن، عندما نجد بعض الجمعيات تقرر أنها لن تشارك في الحوار فهذا شيء عادي جدا.

* لقد لمحتم في تجمع حزبي عقدتموه مؤخرا إلى قيام من يسميهم رئيس الحكومة «العفاريت والتماسيح» بالتشويش على مبادرتكم، أما آن الوقت للكشف عن طبيعة هؤلاء التماسيح والعفاريت وتسمية الأشياء بمسمياتها، أم أن إكراهات الحياة السياسية ما زالت تقتضي منكم مواصلة خطاب كتاب «كليلة ودمنة»؟

- عندما لا تعرف الجهة التي تقوم بتشويش معين، وترى فقط مظاهر هذا التشويش، مثل أن ترى أشخاصا كانوا مرشحين لعضوية اللجنة، وجلسوا مع رئيسها، ومعروف عنهم أنهم لا يمكن أن يحسبوا على أي منطق إداري أو حزبي، وينظر إليهم باعتبارهم شخصيات محترمة، واشتغلوا مع الأعضاء في هذه المجموعة، واقتنعوا بعضوية اللجنة، وأبدوا مجموعة من الملاحظات وفجأة غيروا موقفهم، فهذا لا يمكن تفسيره إلا بأن هناك موقفا سياسيا، لأن بعض الأعضاء لهم ارتباط سياسي ببعض الأحزاب أو بحزب سياسي معين، أعلن مقاطعته لكل الحوارات التي أعلنتها الحكومة. إذن، فهذا منطق سياسي واضح يكمن في أن أشخاصا لهم موقف مبني على التزام سياسي، لكن هناك أشخاصا آخرين من الصعب أن تفهم إن كانت هناك تدخلات غير واضحة أملت عليهم هذا الموقف غير المتين في تعليله أو تبريره. فلغة التماسيح والعفاريت إلى آخره هي لغة رمزية تفيد بأن هناك أشخاصا تصرفوا بغموض للتأثير على قرارات ومبادرات الحكومة. هم نافذون، هم لا يواجهون بوضوح، ويتصرفون بطريقة غير واضحة، ويقومون بعمل يتم في الكواليس وأحيانا في غرف معتمة.

* بعيدا عن لغة العفاريت والتماسيح، يقول المناوئون إن الحوار انطلق بشكل أعرج، وإنه يروم ضبط أكثر من 70 ألف جمعية والتحكم فيها من خلال الوقوف على واقع هذه الجمعيات ومدى احترامها للقوانين الداخلية والقوانين الجاري العمل بها، بل هناك من ذهب إلى القول إن مبادرتكم تهدف إلى اختطاف المجتمع المدني. ما تعليقكم على ذلك؟

- من يقولون هذا الكلام يستخفون بالمجتمع المدني لأنهم يعتقدون أنه شيء يمكن أن يوضع في سلة ويخطف، ثم إنهم يستخفون بالقانون أيضا لأنهم لا يحترمون منطقه على أساس أن إعمال القانون في أي مجال من مجالات الحياة، وجعله سيدا على الجميع، يجب أن لا يكون فيه خلاف بين الناس، وإلا ما معنى دولة القانون إذا كان إعمال القانون لن يؤدي إلى إحلال المزيد من الشفافية، ومزيد من العلاقة بين المسؤولية والمحاسبة؟! ما يجب التأكيد عليه هنا هو أننا يجب أن نضع هذه القوانين ونطبقها ونواكبها. هذا هو المنطق. ولا أحد اليوم يجهل أنه بقدر ما هناك نقاط قوة في المجتمع المدني، وفعالية، وتاريخ عطاء، هناك تقارير ومعطيات تفيد بوجود اختلالات خطيرة مرتبطة أساسا بضعف حكامته.

* مثل ماذا؟

- عندما نأخذ مثلا بحثا صدر عن المندوبية السامية للتخطيط عام 2009 نجده يقول إن أكثر من 94 في المائة من الجمعيات لا تقدم أي تقرير عن أدائها المالي. فالأمر هنا يتعلق بالغالبية الساحقة، وهذا يجعلنا نتساءل: هل هناك ما هو أكثر من هذا الرقم لكي يبين الحاجة إلى إعمال القانون في تنمية دور المجتمع المدني وتعزيز حكامته؟ زد على ذلك عندما نجد أرقاما أخرى مرتبطة بما أنفقته القطاعات الحكومية على المجتمع المدني المنظم، من جمعيات إلى آخره. ففي 2012 تم إنفاق نحو 86 مليار سنتيم، وزعت من مختلف القطاعات الحكومية لكن المستفيدين هم 1024 جمعية فقط من أصل 70 ألف جمعية موجودة في البلد. فما هي معايير توزيع هذا الدعم على الجمعيات؟ وهل هناك بعد جهوي يحترم؟ وهل هناك بعد مرتبط بالفئات الهشة في المجتمع؟ والجواب: لا توجد معايير. إننا عندما نتحدث عن الحكامة لا نعني اتهام النيات وممارسة نوع من الضغط والتحكم، بل نعني إعمال القانون، بمعنى أنه لا بد أن تكون هناك معايير واضحة وقواعد يصوغها الجميع في إطار تشاركي مسؤول ومؤسساتي، وإلا فإن المجتمع المدني سيصبح ملاذا لكل من يريد أن يبني له ريعا آخر غير الريع الاقتصادي المباشر. إذن، هذه الادعاءات فيها استخفاف بالمجتمع المدني لأنه بتعدده وشساعته وغناه، لا يمكن أن يختطف. ثم إن واقع الحكامة بلغة الإحصائيات والدراسات المؤسساتية يفيد بأن هناك اختلالات حقيقية مرتبطة أساسا بتدبير أمرين. الأول يتعلق بتدبير المال الذي تتعاقد الجمعيات على تسييره مع الدولة أو مع المؤسسات الأجنبية، وهذا يشكل إشكالا حقيقيا، والثاني يتعلق بالتدبير الديمقراطي في الجمعيات. إذ هناك جمعيات كثيرة تحترم القانون، وتعقد اجتماعاتها العامة، وتقدم تقاريرها الأدبية والمالية، لكن هناك جمعيات كثيرة لا تقوم بذلك، ورغم انعدام شرعيتها القانونية فإنها تواصل القيام بالاتصالات والأنشطة. فهناك مشكلة في الحكامة الديمقراطية ومشكلة في الحكامة التدبيرية.

إن هذه الإشكالات اليوم يعيها الجميع، وهي من أهم ما يجب أن ننكب عليه في إطار الحوار الذي من غاياته تشخيص الوضع بطريقة جماعية، ومن ثم فإنه لأول مرة في تاريخ المغرب الحديث سيتم الانكباب الجماعي على تشخيص هذا الوضع سواء تعلق الأمر بالدستور، وتفعيل المقتضيات المتعلقة بالمجتمع المدني، أو المتعلق بالحياة الجمعوية والنهوض بها من خلال منظومة جديدة من القوانين والتنظيمات والمؤسسات التي يمكن أن تجعل من المجتمع المدني قوة مدنية تصنع التنمية وتشارك فيها.

* الحديث عن الحكامة يجعلني أسألكم عن التمويل الخارجي لكثير من الجمعيات، وهل لكم أرقام محددة بشأن حجم تلك التمويلات؟

- هذا الموضوع من القضايا التي فيها معلومات غير مكتملة. وكل ما نملكه الآن هو ما تصرح به بعض الجمعيات للأمانة العامة للحكومة، طبقا للقانون. وكما هو معلوم فإن الأمانة العامة عندما تتسلم تصريحات بالتمويلات والشراكات الأجنبية فإنها تنشر ذلك في موقعها الإلكتروني. فالملاحظ أن الجمعيات التي تصرح بشراكاتها مع الخارج محدودة جدا. وانطلاقا من مرجعية 2012 لم يتعدَّ عدد الجمعيات المصرحة 352 جمعية، والحال أن هناك الآلاف من الجمعيات تتعامل مع الخارج. وهذا التعامل هو إيجابي لأنه يعبر عن القدرة على تعبئة الإمكانيات والخبرات الدولية في التنمية. لكن يبقى هذا الخلل واضحا، فهناك آلاف الجمعيات التي تتعامل مع الخارج بحكم الواقع والأنشطة، لكن الذين يصرحون بذلك قلة قليلة جدا. إذن هذا الخلل يجب أن يتدارك. وبالمناسبة أود الإشارة إلى أنه عندما أثير النقاش حول هذه القضية تضاعف عدد المصرحين، بمعنى أن هناك أحيانا فقط سوء إعمال للقانون وليس سوء نية لدى الفاعل المدني، أي وجود نوع من التراخي يؤدي إلى عدم التزام الناس بالقانون، وهو ما يؤدي إلى اختلالات. ونحن المغاربة لدينا مثل يقول «المال السائب يعلم السرقة»، بمعنى أن المال الذي لا يحرسه أحد تمتد إليه الأيادي.

* ارتفعت عدة أصوات تشتكي من إقصائها من لجنة الحوار، وهو حوار اعتبرته مجرد مونولوغ ذاتي، وطالبت بأن يكون بين الحكومة والمجتمع المدني وليس ضد المجتمع المدني، وقالت أيضا إن صيغة هذا الحوار هي شيء واحد يكمن في استفراد الطرف الحكومي بموضوع ليس له حق الاستفراد به، وبالتالي يجب مناقشته والتقرير في مساره ومستقبله مع الطرف الأصلي والمعني، وهنا تتم الإشارة إلى بعض الجمعيات الحقوقية. ما تعليقك على هذه الشكاوى والانتقادات؟

- هذا الادعاء للأسف الشديد مردود عليه، خصوصا أنه صدر من شخص كان عضوا في لجنة الإعداد للحوار، وحضر اجتماعها الأول. ثم إنه مردود عليه من جهة أن هذه اللجنة لا يمكن أن يمثل فيها كل الفاعلين المدنيين. فلا بد أن يكون عدد أعضاء اللجنة محدودا، وقد بلغ عدد أعضاء اللجنة 66 عضوا وهو ما يفند هذا الادعاء. وضمن هذا العدد هناك فقط 14 قطاعا حكوميا لها علاقة بالجمعيات، ولا يمكن تصور هذا الحوار دون حضور هذه المؤسسات التي لها علاقة مع الجمعيات. ثم هناك البرلمان بستة مقاعد حتى نشرك المشرعين في هذا النقاش، وهناك ثماني مؤسسات دستورية لها علاقة بمنظومة الحكامة والحقوق ضمنها المجلس العلمي الأعلى، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ووسيط المملكة، والمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، ومجلس الجالية، ومجلس المنافسة، هذا إلى جانب 34 ممثلا للمجتمع المدني، رغم اقتناعي بأنه لا أحد يمثل أحدا في المجتمع لأننا هنا بصدد ديمقراطية تشاركية وليست تمثيلية، اختيروا على أساس كفاءتهم وخبراتهم وتعدد مشاربهم الفكرية والآيديولوجية. وإذا كانت هذه التشكيلة تعني ضمن ما تعنيه أن هناك هيمنة للحكومة فهذا كلام لا يستقيم عقلا. فإذا كان وجود 34 فاعلا مدنيا، و8 مؤسسات حقوقية وطنية ودستورية، وستة برلمانيين، و14 قطاعا حكوميا، يجسد هيمنة الحكومة، فإن الأمور هنا تبدو مقلوبة تماما. بالعكس، نحن حريصون جدا على أن يكون هذا التعدد حاضرا في اللجنة وهنا تكمن قيمتها. هذا مع العلم بأن هذه اللجنة ليست مهمتها إنتاج إجابات للحوار، بل إدارته. فهي هيئة إدارة وليست هيئة إجابات. هذه لجنة ستدير الحوار، وستضع له برنامجا وفعاليات، وتشرك وتستمع وتنصت وبعد ذلك تجمع كل ذلك وتنظمه وتقدمه كخلاصات. فهي ليست جهة إجابة أو تقديم حلول أو مقترحات قوانين، بل جهة لإدارة الحوار، وبالتالي فإن كل هذه الدفوعات مردودة من أصلها، لأن اللجنة ليست هيئة مخولة بأن تنتج الجواب لهذا الحوار، فكونها هيئة إدارة فإنها تسقط كل هذه الادعاءات.

* هناك نقطة أثارت الجمعيات تكمن في تعيين قيادي في حزبكم مقررا عاما للحوار الوطني، واعتبرتها تجاوزا للحد الأدنى من مبادئ الديمقراطية والحكامة الجيدة، ومؤشرا على الرغبة في الضبط والتحكم في نتائج الحوار. كيف تنظرون إلى ذلك؟

- هذه حساسية لا يستقيم أن تكون عند الفاعلين المدنيين الذين يتكلمون اليوم في مناخ يجب أن نشجع فيه على الممارسة السياسية والوضوح السياسي، وإلا لماذا لم يثيروا هذا الموضوع مع رئيس اللجنة؟ إذا كان إخراج البطاقة الحمراء ضد أي عضو ما في اللجنة لأي اعتبار فليتم ضمن اللجنة. وهذا ما يبين أن الدوافع آيديولوجية وسياسية وليست دوافع موضوعية مرتبطة بمنطق إدارة الحوار. ثم إن جل أعضاء هذه اللجنة لهم ارتباطات سياسية، وأعتقد أنه شيء إيجابي أن يكون الشخص سياسيا وفاعلا مدنيا في الوقت نفسه، ولكن على أن يحترم في كل مجال خصوصياته.

وإذا كان المقرر العام للجنة الحوار الوطني قياديا في حزب العدالة والتنمية، فهو رئيس منظمة حقوقية وطنية. فهل كونه يقوم بهذا الدور هنا يسقط عنه حقه في أن يكون عضوا في لجنة ويتحمل فيها مسؤولية؟ فهذه الخطابات والتصورات تكشف الطبيعة الآيديولوجية والسياسية للانتقادات، وتخرج عن موضوعية الانتقادات إن كان لا بد منها. وإذا كان الأمر كذلك فيجب أن نقف عند رئيس اللجنة (إسماعيل العلوي، رئيس مجلس رئاسة حزب التقدم والاشتراكية، والأمين العام السابق للحزب) لأنه هو المؤتمن على استقلالية ومصداقية هذه اللجنة. وأنا دائما أضرب مثالا، وقلت هذا لبعض الإخوان في المعارضة: «في البرلمان مثلا هناك لجان دائمة، وهناك رئيس لجنة بلون حزبي واضح. هل رئيس اللجنة يؤثر على عمل اللجنة؟ لا يؤثر، وكذلك الأمر بالنسبة لمقرر اللجنة الذي له صفة إدارية إشرافية، ذلك أنه لا يستطيع أن يغير شيئا». ثم إننا هنا نتكلم عن لجنة وطنية بخبرات وكفاءات عالية جدا. فمن الاستخفاف بهذه اللجنة وعدم الاحترام لها القول بأن فلانا يتحمل مسؤوليتها سواء كان رئيسا أو مقررا، لأن لديها هيكلة تتضمن رؤساء لجان، ونوابا للرئيس، وبالتالي فإن كل محاولات الإشارة إلى أن شخصا معينا سيؤثر على عمل اللجنة هي استخفاف بها.

إن الأصل هو أن نحترم التعدد، وحق الأشخاص في أن يكونوا متعددي الانشغالات في المجتمع، وإنما نحكم على عملهم من خلال أدائهم وليس من خلال أحكام مسبقة وجاهزة ومرتبطة بحسابات آيديولوجية وسياسية تنتقل من حقل السياسة المعارض إلى حقل الحوار حول المجتمع المدني.

* هل نفهم من كلامكم أن ما طرح من مؤاخذات وانتقادات على مبادرتكم هو جعجعة بلا طحين؟

- بكل تأكيد هناك أحكام مسبقة وتسرع وعدم تفهم لغاية هذا الحوار الذي هو في حد ذاته تمرين على ثقافة الحوار والإنصات المتبادل. ليس هناك أي عيب في أن أنتقد أي عمل وتكون لي وجهة نظر مغايرة، لكن حينما ندعو إلى مقاطعة الحوار وعدم المشاركة فيه هنا نكون قد خرجنا من منطق الحق في الملاحظة إلى منطق التشويش على العمل. وأقول لك بكل صدق إن كل ممارسة من هذا النوع لا تخدم إرساء ثقافة الحوار باعتبارها مطلوبة في إدارة شؤون المجتمع، لأن الحوار مطلوب داخل البرلمان، ومطلوب داخل الجمعيات، ومطلوب بين الجمعيات والحكومة، وبين الحكومة والبرلمان. الحوار يجب أن يكون ثقافة سائدة لأنه من بين أسباب الاحتقانات التي أدت إلى انفجارات الأوضاع، وإلى قيام «الربيع العربي»، ضمور ثقافة الحوار في المجتمع. لذلك فإن الحوار يجب أن يصبح مطلبا ثقافيا وسلوكيا، ومن ثم فإن الكرسي الفارغ لا قيمة له، ثم يجب أن نؤمن أيضا بأن الإجماع مستحيل في أي شيء، فإذا كان هناك من قاطع الدستور، ومن يريد أن يقاطع الحوار فهذا شيء عادي جدا، لكن هناك الآلاف من الجمعيات التي ستشارك في هذا الحوار، وستغذيه بأفكارها ومقترحاتها. ولنفترض أن هذا الحوار قاطعته نسبة 10 أو 20 في المائة من الجمعيات، فهل سيؤثر هذا على الحوار؟ فالحوار مبادرة حكومية لا تلغي حق المبادرات الأخرى. ثم إن الحكومة لا تدعي أن مبادرتها تجسد الكمال، وأنها شاملة وتنوب عن المجتمع في كل شيء، فنحن واثقون أن الحوار يمضي إلى غايته، وسيكون واسعا وتعدديا وتشاركيا إلا من أقصى نفسه منه، وسنعتمد عدة آليات لاستقبال آراء الأشخاص، فليس ضروريا أن يكون المرء عضوا في اللجنة لكي يحاور. اللجنة ستنظم الحوار، وستلتقي الجمعيات في الجهات والأقاليم، وستستقبل عبر موقعها الإلكتروني مذكرات الهيئات حتى تجمع أكبر قدر من الأفكار والآراء. ثم إن المنتج سيكون ملك المجتمع، وكل سيأخذ منه حسب حاجته ورغبته، ولن نحفظه ليكون عملا للحكومة وحدها. أعتقد أن الإخوة الذين فكروا هذا التفكير أخطأوا لاعتبارات سياسية وآيديولوجية فيها الكثير من التسرع، وانعدام الصبر على إنضاج هذا المسعى من خلال الإيمان بأن التعدد والاختلاف لا قيمة لهما إلا داخل الحوار.

* ما التصور المنشود للمجتمع المدني الذي تتمنون أن يكون موجودا في المغرب؟

- اليوم إذا أردنا أن نطرح فلسفة هذه القصة المسماة «المجتمع المدني»، هذا الفاعل الجديد في منطق الدستور، فيجب أن نعود إلى بداية القصة، ونتساءل: لماذا اضطربت أوضاع المجتمعات؟ ولماذا خرجت الشعوب تطالب بإسقاط الفساد والاستبداد؟ والجواب هو أن هناك في الأصل إشكال سلطة محتكرة بدرجة كبيرة، وفي بعض الدول كانت محتكرة كليا. إذن، فالإشكال الجوهري اليوم لاستقرار المجتمعات وتنميتها وتقدمها يكمن في إعادة توازن منظومة السلطة، وإعادة تقاسم الأدوار فيها، والحرص على تناغمها وتكاملها وتعاونها أيضا.

إن الدستور الجديد أتى بهندسة ذات علاقة بهذا المسعى تكمن اليوم في أن تكون السلطة متقاسمة في تناغم بين الفاعلين. فجلالة الملك له صلاحيات حددها الدستور، ورئيس الحكومة له صلاحيات حددها أووسعها الدستور، ثم البرلمان، والسلطة القضائية، والإعلام، والمجتمع المدني. واليوم لا يمكن تصور دور المجتمع المدني إلا في إطار معادلة السلطة في الدولة، أي أن هناك حاجة إلى فاعل دستوري جديد يملك سلطات وليس فقط شريكا تابعا. ماذا فعل الدستور؟ الدستور قال إن هذا الفاعل الجديد، الذي هو المجتمع المدني، في إطار توازن هذه السلطة حتى يضمن استقرار البلد واستمراريته وتنميته، لا بد أن تعطى له حقوق واضحة، فصار له حق في التشريع، الذي كان حكرا على الحكومة والبرلمان، وصار له الحق في الرقابة على السياسات العمومية، والحق في صياغة السياسات العمومية وتتبع تنفيذها وتقييمها.

هناك إذن ثلاث وظائف جديدة، أو بالأحرى ثلاثة حقوق من الجيل الجديد لم تكن متوافرة لدى المجتمع المدني في السابق، بمعنى أن يكون مشرعا، ومراقبا، وشريكا في وضع السياسات وتتبعها وتقييمها. هذه المنظومة من السلطات تحتاج اليوم إلى أمرين أساسيين، ودعني أقل ثلاثة أمور: أمرين دعامتين من نوع خاص، ودعامة خصوصية.

الدعامتان الرئيسيتان اليوم تكمنان أولا في أنه يجب على الدستور أن يصير قوانين تمشي على الأرض هي القوانين التنظيمية، وثانيا أن نؤهل هذه الجمعيات لكي تكون فاعلا حقيقيا، إذ لا معنى أن تكون لك قوانين جيدة تعطي الفاعل المدني حقوقا، لكن هذا الفاعل المدني يعيش اختلالات وأعطابا وأمراضا. لذا يبقى تأهيل الحياة الجمعوية والمنظومة القانونية دعامتين رئيسيتين. ونحن أضفنا في الحوار دعامة ثالثة هي دعامة ميثاق الشرف الوطني، والغاية من هذا الميثاق هي أن يكون هناك تعاقد أخلاقي قيمي يجعل هناك منظومة ثقافية إضافة إلى قوانين. إذن، من خلال هذه الفلسفة، ماذا نريد؟ نريد مجتمعا مدنيا منظما، وشفافا، وفاعلا، وشريكا دستوريا في مربع السلطة، وهذا يتطلب تأهيل هذه المنظومة القانونية من جهة، ومنظومة المؤسسات المدنية، من جهة أخرى. إن الغاية المثلى هي أن نصل إلى توازن في مربع السلطة يجعل من السياسات والشأن العام موضع شراكة، ولكن في إطار عدم الوقوع في الميوعة، أي احترام اختصاصات المؤسسات. فالحكومة حكومة، والبرلمان برلمان، والقضاء قضاء، والمجتمع المدني مجتمع مدني، وبالتالي لا يمكن مثلا باسم الشراكة والتشارك والتشاركية أن نطلب من الحكومة أن تشركنا في كل شيء. إذ الشراكة والتشارك لهما أيضا مراحل. نحن أخدنا المبادرة في إطلاق هذا الحوار، ولم يطلب منا أحد أن نفعل ذلك، ورتبنا الوضع لكي يكون هناك حوار وطني ثم دعونا إلى تشكيل لجنة وطنية، وقبل ذلك اخترنا شخصية وطنية محترمة للإشراف على الحوار، ومضينا قدما في هذا المسار، والغاية من ذلك هي مغرب بعيد عن الاستبداد والتحكم والفساد، مغرب يكون لكل أبنائه حيثما كانوا، في الحكومة أو البرلمان أو الجمعيات أو الأحزاب، وضع قانوني سليم وشفاف يجعلهم شركاء في بناء المستقبل وتنمية الوطن. هذه هي الفلسفة الدستورية الواضحة اليوم بحيث نسعى من خلال الحوار أن تكون لها مخرجاتها من خلال مجموعة من القوانين والتدابير التنظيمية والمؤسساتية التي تخلق هذا الانتقال التاريخي غير المسبوق في وضع المجتمع المدني. وأود الإشارة إلى أن هذا الحوار لم ننجزه بعمل حكومي–حكومي، بل هناك أربع مؤسسات دولية شريكة فيه، وتتابعه وفق أجندة ومعايير تضفي عليه طابع الحوار المعترف به دوليا. فهو ليس حوارا وطنيا بمعنى أنه داخلي. فهناك البنك الدولي، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومنظمة الإيسيسكو، والبنك الأفريقي للتنمية، فكل هذه المنظمات انخرطت في هذه الشراكة بعد أن استوعبت وفهمت أن الأمر يتعلق بحوار نوعي له مخرجات حقيقية تؤهل هذا الفاعل المدني لأن يكون في المستوى الذي رفعه إليه الدستور.