مارغريت ثاتشر في الذاكرة.. روح عظيمة وعطاء مشع

«الشرق الأوسط» انفردت بحقوق نشر «سنوات داوننغ ستريت» و«الطريق إلى السلطة»

مارغريت ثاتشر مع الملك الراحل فهد بن عبد العزيز أمام مقر رئاسة الوزراء في 10 داوننغ ستريت بلندن
TT

تظل الفترة ما بين 1970 و1979 إرهاصات لتحولات مفصلية في تاريخ بريطانيا، كان فيها هذا البلد مثقلا بأعباء الحرب العالمية الثانية، ومن ثم بالنكسة السياسية في حرب السويس عام 1956. بعدها جاءت أزمة البترول التي نفذت منها بسبب العثور على مخزون نفط الشمال. وأخيرا، دخول السوق الأوروبية المشتركة، وموقف الجنرال شارل ديغول منها. وكانت البلاد تمور بالمشكلات والديون، وانخفاض الإسترليني، والانقسام الطبقي الخطير، وسيطرة نقابات العمال.

والحق أن الحياة بشتى أطيافها في هذا البلد لم تتوقف عن حيوية الحركة وتموجاتها منذ قرون عدة. بل يمكن الجزم أنه منذ بداية القرن السابع عشر لم يكن هذا البلد إلا متصلا اتصالا وثيقا بأحداث العالم، من شرقه حتى غربه، ومن شماله إلى جنوبه. والمسألة تطول في عرض هذا التاريخ الباذخ، الغني، حيوي الحركة. وفي الثلث الأخير من ذلك العقد، تشكلت مجموعة أتت إلى الأوسط لتبني مستعمرات صغيرة، مستعمرات بنكية وعقارية وإعلامية، فما زالت هذه البلاد، وستبقى، ملاذا حصينا لأرباب الفرص ونُشّاد النجاح.

تحركت هذه المجموعات بفعل الصعود الساحق لأسعار النفط، والأحوال غير المستقرة في لبنان. وثمة عامل ينساه البعض، وهو تمكن التكنولوجيا من تقصير المسافة بين منطقتي الشرق الأوسط وأميركا، فضلا عن أوروبا، من خلال حركة التنقل الجوي.

وفجأة، شهدت لندن نزوحا عربيا كان لي حظ معايشته والتداخل معه، ربما تمكنت عبر هذه السطور من نقل بعض مراسمه، ونحن نتحدث عن امرأة شغلت الدنيا، واقتحمت التاريخ، وضمت اسمها وأفعالها إلى صانعيه، مثل وولبول، ويليام بت الأب والابن، ديوك ولينغتون، ديزرائيلي، ونستون تشرشل، وآتلي.

بعد وصولي إلى لندن بأشهر، زار الأمير فهد بن عبد العزيز ولي العهد السعودي الجديد آنذاك (الملك لاحقا) لندن في أول زيارة رسمية له، وكُلّفت بتغطية تلك المناسبة، فكان عليّ توزيع حركتي بين مقر مجلس الوزراء في داونينغ ستريت، والوايت هول، المقر الرسمي للوزارات، وفندق «كلاريدج» حيث كان يسكن الضيف السعودي، وهو ليس سكنه المفضل، إذ كان يحب «الدورشستر»، لولا أن «كلاريدج» هو السكن الرسمي للضيوف الكبار. في تلك الزيارة، صافحت مرات عدة هارولد ويلسون الزعيم العمالي ورئيس الوزراء آنذاك. عملت هذه المصافحة دورا تحريضيا في الشغف بمصافحة أمثاله من الزعماء. كان هارولد ويلسون مجددا سياسيا ترأس الحكومة مرتين؛ الأولى عام 1964 حتى 1970، ثم هُزم أمام المحافظين بزعامة إدوارد هيث، ليعود لمدة سنتين قبل أن يستقيل متنازلا لوزير خارجيته جيمس كلاهان. ويُذكر لويلسون الفضل في بدء العصر التكنولوجي في بلاده، وتنفيذ كثير من القوانين الليبرالية، فضلا عن إلغائه نهائيا عقوبة الإعدام.

بعد مصافحة ويلسون وذهابه، أطلت على «كلاريدج» امرأة تحمل حقيبتها النسائية ومعها مرافق واحد، متجهة إلى جناح ولي العهد السعودي، وكانت آنذاك انتخبت للتو زعيمة لحزب المحافظين الجالس في صفوف المعارضة، وكان واضحا أنها تسير بخطى ثابتة نحو كرسي رئاسة الحكومة.

بين صاحبة تلك الإطلالة مارغريت ثاتشر، بملابسها ذات اللون الأزرق، والأمير فهد بن عبد العزيز، الذي أصبح ملكا بعد بضع سنوات، نشأت آصرة صداقة منذ ذلك اللقاء، أثمرت تعاونا وثيقا ومتينا، وهي بعد 4 سنوات صارت رئيسة للحكومة. كان الملك فهد معجبا بسياستها الاقتصادية وقدرتها على تحويل المؤسسات المملوكة للدولة إلى القطاع الخاص، وهو ما نجحت به وصار أيقونة نجاح سلكته بعض الدول، لكنها طبقته معكوسا، إذ مكّنت مجموعة أشقياء من الاستيلاء عليها بمبالغ زهيدة - روسيا بوتين - على سبيل المثال.

وكانت هي معجبة بالعاهل السعودي أيما إعجاب، منذ ذلك اللقاء، ونشأت بينهما قنوات اتصال، لعل أهمها الأمير بندر بن سلطان، الذي تنقل بينهما بعيدا عن الاتصالات الدبلوماسية وأعين السفراء من الجانبين، لذا فهو يملك كثيرا من المعلومات عن هذا الجانب المهم في العلاقات بين البلدين، والمهم بالتالي للعالم. وكانت الليدي ثاتشر تلتقي بالأمير بندر بن سلطان شخصيا، وعلى انفراد، بعيدا عن القنوات المعتادة، مما يورث حرجا لها وعدم ارتياح من جانب آخرين.

لقد استمعت أخيرا وشاهدت مقابلة مع البارونة تتحدث فيها عن مذكراتها. وعلى الرغم من أنني أشرفت على نشر كتابيها على صفحات جريدة «الشرق الأوسط»، فإنه حين تروي لك السيدة مارغريت ثاتشر بنفسها عملية ولادة الكتاب تكتشف كم أنك أمام عمل تاريخي مهم، كثير من جوانبه كان يهمنا في العالم العربي خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، ولا تزال انعكاسات بعضها تعنينا حتى يومنا هذا، وربما حتى إشعار آخر.

لعل ما يميز بنت بقالنا، تلك الصرامة والجدية التي طبعت شخصيتها وسياستها، مع اهتمامها بمتطلبات الأمومة والأطفال والبيت. ها هي تقول، يوما: «عندما أتهيأ للذهاب لمواجهة البرلمان، أو أستعد لإلقاء خطاب، تعتريني حالات من الاستعداد والخوف، كأنني ذاهبة إلى مباراة حماسية، ولا يختفي هذا الإحساس ويزول إلا حين أندمج في الموقف».

الصرامة التي تميزت بها ثاتشر تراها، مثلا، في موقفها من اليسار والشيوعية، موقف كان يعكس قوة شكيمتها التي انعكست بدورها على علاقاتها بالاتحاد السوفياتي - آنذاك - وتجلى ذلك بتشجيعها خطوات الرئيس الأسبق ميخائيل غورباتشوف، واستقبالها له استقبالا تاريخيا خاصا، وثنائها عليه، واشتهر قولها عن غورباتشوف: «بإمكاننا العمل معه»، ثم إشرافها على حملة علاقات عامة لتعزيز مكانته بين حلفائها وأصدقائها. وأتذكر في تلك الحقبة أن ثاتشر بعثت بمندوب خاص إلى أحد زعماء منطقة الشرق الأوسط، شارحة له أهمية تغيير سياسة بلاده تجاه الاتحاد السوفياتي، لأنه تغير.

وعندما اصطدمت باليسار والنقابات العمالية في بلدها، واستحالت المواجهة إلى شبه حرب أهلية بين الشمال، حيث قوة النقابات والمناجم والصناعات الأخرى، والجنوب، حيث عرينها، اختارت ثاتشر طريق الهاوية، الذي أدى إلى جروح لم تندمل بعد.. صحيح أن الفوارق بين الشمال البريطاني وجنوبه لم تخلقها السيدة تاتشر، بل هي نتاج تاريخ إثني وديني طويل، يبدأ منذ سيطرة الجنوبيين دينيا وسياسيا على ذلك الشمال، لكن ثاتشر وقفت بحدة تميزت بالخسائر، ولكنها أعادت الروح إلى الاقتصاد البريطاني، ثم إن الصرامة تلك انعكست كذلك على سياستها إزاء يسار حزبها ذاته؛ فقضت على كل زعاماته. وللسيدة ثاتشر فضل كبير على صناعة الصحافة في بريطانيا، بشكل خاص، وعلى مستوى عالمي. لقد عشتُ في أرجاء فليت ستريت، حيث كانت تتمركز كبريات الصحف البريطانية منذ قرون، ممثلة معلما بارزا من معالم التقدم والحرية والإبداع، لكنها، بسبب جمود التقاليد وعدم مواكبة الزمن، صارت رهينة للنقابات تحكمها وتتحكم بإمكانات تطورها التقني. كانت النقابات ترفض الانتقال إلى مرحلة تنضيد الحروف إلكترونيا، أو إدخال آلات طباعة جديدة، أو حتى استخدام حبر جديد، أو ورق جديد، أو أي عنصر تقني جديد.. كان النقابي الذي لم يحصل على تعليمه الكافي يعامل صاحب المنشأة، أو رئيس التحرير، كما يعامل صرصارا، يُضْرِب متى يشاء، ويوقف دوران العمل لأسباب بعضها غير مفهوم. وكان بعض المقبلين من الشرق الأوسط، المتعطشين للحرية التي لم يألفوها في بلادهم، يقلدون نظراءهم البريطانيين بطريقة بشعة. لقد تمكنت ثاتشر، عبر سنّها قوانين جديدة، من الضرب بقبضة حديدية على ديكتاتورية النقابات المتحكمة بتطور مؤسسات الصحافة، مما تسبب بثورة عارمة عاصفة جعلت بريطانيا مساهما فعالا في الثورة التكنولوجية التي نعيشها اليوم. لقد وقفت نقابات العمال، كما يقف البدائيون والرجعيون والتقليديون، ضد التغيير والتفعيل، لكن التصميم إزاءهم، والصلابة في المضي بعيدا على خط المستقبل، كما تصرفت السيدة ثاتشر، كفيلان بإنهاء مقاومتهم. الحديث عن اللقاء مع ثاتشر، رسميا أو عرضا، في حفلات اجتماعية أو خاصة، ومن ثم التعامل مع حكومتها وأصدقائها خلال سنوات طويلة، يحتاج أكثر من هذه المقالة، إنما يمكنني الآن استدعاء مناسبة جرت في فبراير (شباط) 2007؛ عندما دعاني عميد السفراء العرب في لندن، سفير الكويت خالد الدويسان، إلى حفل استقبال أقامه لسمو الأمير صباح الأحمد الصباح أمير الكويت الذي كان آخر قائد عربي تلتقيه ثاتشر. وفي طريقي إلى الخروج طالعني وجه ثاتشر، خطواتها كما هي، إذ تدلف من الباب. كانت تحمل حقيبتها السوداء كما تفعل دائما. حقيبة السيدة الحديدية، كما تقول عنها البارونة تشارلي ويليامز عضو مجلس اللوردات، سر قوتها. إنها سلاحها السري. كانت تصفيفة شعرها كما هي، لم تتغير، بالأناقة المعهودة، والترتيب المتقن. تذكرت أنها قالت مرة: «أختصر من نومي ساعة ونصف الساعة كي أصفف شعري».

ولتكوين صورة أكثر شمولا عن شخصية السيدة ثاتشر؛ سياساتها وإدارتها لشؤون بلدها وعلاقاته مع العالم، من المفيد العودة إلى مذكراتها «سنوات داونينغ ستريت»، التي انفردت جريدة العرب الدولية بحقوق نشرها، فكانت «الشرق الأوسط» الجريدة العربية الوحيدة بين عدد من كبريات الصحف العالمية التي سلسلت ذلك الكتاب المهم اعتبارا من عدد يوم الأحد الموافق العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) 1993، وكنت آنذاك أتولى مسؤولية رئاسة التحرير، فكتبت للطبعة العربية من «سنوات داونينغ ستريت»، مقدمة تعرض بإيجاز جوانب رئيسة من ظروف مرحلة ما قبل مارغريت ثاتشر، ثم أهمية أن تتولى صحيفة بحجم «الشرق الأوسط» مهمة تقديم الكتاب للجمهور العربي، بحكم تميّز شخصية صاحبته ودورها على المسرح العالمي. بعد «سنوات داونينغ ستريت»، عكفت السيدة ثاتشر على كتابة بدايات سيرتها الذاتية، من سنوات النشأة الأولى والمراهقة ثم مرحلة الشباب، فكانت النتيجة كتابها «الطريق إلى السلطة»، وهو الذي سارعنا آنذاك في «الشرق الأوسط» إلى الانفراد بحقوق نشره باللغة العربية، وجرى ذلك بدءا بعدد يوم الاثنين الصادر بتاريخ 22 مايو (أيار) 1995.

أخيرا، العام الماضي، أنعمت علي السيدة مارغريت ثاتشر بمهر توقيعها على لوحة خاصة بها رسمتها الفنانة البريطانية لورنا ماي وادسورث سنة 2007. كان ذلك مصدر سعادة لإنسان عاش الثاتشرية معايشة شخصية وروحية وعاطفية. تحية لروحها العظيمة، ولعطائها المشع.

في 15 أبريل 2013