ثاتشر جعلت الحديث عن «اليمين» ليس ضربا من التخلف والرجعية

مقدمة الطبعة العربية لـ«سنوات داوننغ ستريت» في «الشرق الأوسط»

TT

نشرت «الشرق الأوسط» يوم الأحد 10 أكتوبر (تشرين الأول) 1993 الحلقة الأولى من الترجمة العربية لكتاب «سنوات داونينغ ستريت» لرئيسة الحكومة البريطانية السابقة مارغريت ثاتشر. وكتب مقدمة الطبعة العربية عثمان العمير رئيس تحرير «الشرق الأوسط» آنذاك. وفي ما يلي نص المقدمة الذي نشر وقتذاك.

* يمثل عام 1979 تطورا مثيرا في شباب الستينات والسبعينات، من متابعي السياسة. هذا المزاج كان، بصرف النظر عن الانتماءات الطبقية واختلاف المدارس الفكرية، قد تلبدت بالنموذج اليساري أبصاره وأسماعه وإذا كان أقل تطرفا وأكثر محافظة، صارت الشخصية المثالية لديه.. أو الحاضرة في ذهنه هي الليبرالي، وقل ما التقت تقاطعاته الفكرية مع اليمين المحافظ، بادئ ذي بدء! هنا كان شباب العالم، وبالأخص العالم الثالث، تتجسد أمامه شخصية تشي غيفارا في مرحلة ما بين التقديس والانبهار. وكذلك الحال مع فيدل كاسترو.. وسلفادور أليندي وجمال عبد الناصر وجورج حبش في العالم العربي، فضلا عن بقايا كوهين بنديت في فرنسا، ورودي «الأحمر» في ألمانيا، وطارق علي في بريطانيا، وبقية الزعامات الراديكالية التي خلبت ألباب الشباب، إبان تلك الفترة.

شباب تلك الفترة الذي صار ثلاثينيا، وأربعينيا فيما بعد، وجد نفسه أمام حالة جديدة تقوده إلى مسار يصل به إلى منتصف اليمين بل أحيانا إلى أقصاه، لقد وجد أن «الكاريزماتيكية» ليست حكرا على اليسار والليبرالية.

وكانت من العوامل التي غيرت هذا المفهوم امرأة سحبته من تلك العصابة، لتطرح عليه تصورا جديدا يقول له إن الحديث عن اليمين ليس ضربا من التخلف والرجعية.. وإنه إذا كانت لليسار أحلامه الوردية، فلليمين واقعه الأملس الذي لا يخلو هو أيضا من الأحلام.

قبل هذه المرأة كان اليمينيون يتحدثون همسا وعلى استحياء، ومعها صار لليمين مدرسته التي تعني الرخاء والفرص المتوافرة.. و«اليابيز» وهو تعبير بريطاني يصف الشباب الطموح المغامر الذي أدركته منافع اليمين فلمع اقتصاديا.

هذه المرأة هي صاحبة الكتاب الذي بين أيدينا، وتنشره «الشرق الأوسط» مسلسلا لديها، ومن ثم كتابا يطرح في الأسواق الناطقة باللغة العربية، إنها السيدة مارغريت ثاتشر التي ستبلغ عند صدور هذا الكتاب عامها الثامن والستين، إذ ولدت يوم 13 أكتوبر (تشرين الأول) 1925، والتي أصبحت فيما بعد «الليدي» ثاتشر، لدى دخولها مجلس اللوردات حيث لا تزال تقود اليمين المحافظ، المتشدد، وتشرف من بعيد على ما تبقى من زملائها وتلامذتها.. أمثال بيتر ليلي، ومايكل هوارد، ومايكل بورتيللو، وجون ريدوود، الذين يحاربون من أجل مبادئها داخل الحكومة البريطانية الحالية.

لقد غيرت هذه السيدة، التي يطلق عليها لقب «المرأة الحديدة»، المفهوم المنبوذ لليمين لدى الجيل الجديد، في فترة سالفة، ليصبح حركة سياسة متطورة، ونظرة ثاقبة للأمور، يزيح عن طريقه دعاوى الاشتراكية ووعودها البراقة.

ومن هنا تبدأ أهمية متابعة حياة امرأة نجحت في إخراج بلادها من ركام خراب اقتصادي، لا نزال نحن الذين عشنا في لندن إبان تلك الفترة نستعرض مشاهده في أواخر السبعينات، حين كانت الحركة معطلة في الكثير من المواقع، والجنيه الإسترليني في الحضيض، والسيد آرثر سكارغيل الزعيم النقابي المعروف وزملاؤه الآخرون يتصرفون كما يشاءون في مقدرات الحكم البريطاني. ولم لا..؟ ألم يسقطوا بطرفة عين إدوارد هيث، وأتوا بحزب العمال من جديد؟

لقد كانت بريطانيا في تلك الأيام مجال تندر بين الكثير من أبناء العالم المتقدم حتى أصبحت عبارة «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» أشبه بنكتة، منها بحقيقة تاريخية. وفجأة أطلت مارغريت ثاتشر لتعيد لبريطانيا قوتها وعنفوانها، وتعيد مؤسساتها إلى خط السير الصحيح الذي يليق بقوة عظمى «متوسطة الحجم»، كما تعبر عنها! وفوق ذلك كله، لتصبح رئيسة الحكومة البريطانية الأطول حكما في القرن العشرين إذ حطمت الرقم القياسي للمكوث في المنزل رقم 10 داوننغ ستريت حيث استقرت لمدة 11 سنة ونصف السنة، متجاوزة تشرشل، وبلدوين، وآتلي، وويلسون. بل لعلها في نظر البعض تجاوزت في حجم تأثيرها السياسي العملاقين غلادستون ودزرائيلي.

ولقد قادت ثاتشر حزبها للفوز بالانتخابات العامة ثلاث مرات متتالية حطمت فيها ثلاثة زعماء عماليين هم جيمس كالاهان ومايكل فوت ونيل كينوك وأرسلتهم بانتصاراتها إلى ملف الذكريات.

وإذا كان تاريخ بريطانيا سيتذكر، فإنه لن ينسى أشياء كثيرة من نجاحات هذه السيدة، من «حرب الفوكلاندز» التي أعطت الشعب البريطاني جرعة من الثقة بالنفس، والإحساس التاريخي بالشخصية البريطانية.. إلى مواجهة الشيوعية.. ذلك الموقف الحازم الذي آتى ثماره عالميا فيما بعد، ابتداء من احتضانها ميخائيل غورباتشوف وهو ما يزال رجلا خارج الصفوف الأمامية حين استقبلته في لندن وقدمته للغرب.

.. إلى ذلك التاريخ حين هبت مسرعة إلى أميركا، إبان أزمة الخليج لتلقي محاضرة عن ضرورة صيانة مصالح الغرب في الخليج. وعادت من اجتماعها بالرئيس جورج بوش، وقد ضمنت تماسك التحالف بين أهم شريكين في منظومة الكتلة الغربية. ولعل التاريخ، وهو مسجل بارع، سيتذكر لها أيضا صراعها مع «الإخوة الأعداء» في أوروبا التي لم تصبح موحدة بعد. تلك المعركة التي لا تزال تقودها خفية حينا وعلانية أحيانا.. من كل المواقع، سواء أيام كانت في الحكومة، أو خارجها أو الآن داخل مجلس اللوردات.

وأخيرا وليس آخرا لن ينسى التاريخ والمؤرخون تلك الدموع التي لم تستطع حجبها عن المصورين وهي تغادر المنزل «رقم 10» متحرقة من خيانات التلامذة وغدر الأصدقاء.. الذين جاءوا إليها في ساعة حرجة ليقولوا لها «لقد انتهى دورك.. وشكرا!» فكانت النهاية السريعة التي لم تأخذ وقتا طويلا، قرب نهاية عام 1990.

عندما ينهي قارئ هذا الكتاب متابعة فصوله الـ23، سيكتشف الإجابة عن ذلك التساؤل الذي طرح دائما، وهو كيف تمكنت السيدة ثاتشر من أن تحكم بلادها نحو اثنتي عشرة سنة، وتسرق الأضواء في العالم، مثيرة كل هذه الزوابع والبراكين. قطعا عليه ألا يدخل العنصر الأنثوي في هذا الموضوع لأن المرأة السياسية لم تخلقها ثاتشر. بل إن بريطانيا شهدت نسوة كثيرات تركن بصماتهن واضحة على التاريخ، مثل الملكة إليزابيث الأولى، أو الملكة العظيمة فيكتوريا.

وإذا كنا في الشرق نصفق لوصول المرأة إلى الحكم باعتبار ذلك خطوة متقدمة في طريق المساواة، كما فعلنا مع أنديرا غاندي، وسيري فو باندرانيكا، وبي نظير بوتو، فهذا المفهوم لا يشكل قضية في بريطانيا، مع أن ثاتشر كانت أول امرأة تحتل كرسي الحكم.

كما يجب تجنب القول إن هذا البروز اللافت للنظر لصاحبة هذه المذكرات إنما جاء نتيجة لضعف معارضيها وفشل سياستهم، لأن بريطانيا، منذ عهد هارولد ماكميلان، مع الفارق بينه وبين الزعامات التاريخية، لم تحتج إلى شخصية استثنائية، إلا أن كرسي الحكم نفسه اكتسب أهمية إضافية من استثنائية شاغله. ولعل من الممكن تجسيد نجاح ثاتشر في العبارة التي أطلقها أحد مؤرخي هذا العصر حين قال: «الفرق بين السياسة وفن الحكم، هو الفلسفة، أي القدرة على رؤية اللحظة العابرة والجزيئات الصغيرة في ضوء الزمن الخالد، والكل الذي يضم كل الأجزاء».

مارغريت ثاتشر بنت البقال الذي تفاخر به، والتي بدأت محافظة منذ نعومة أظفارها وانضمت إلى حزب المحافظين إبان فترة دراستها الثانوية.. ثم درست الكيمياء في جامعة أكسفورد الشهيرة، ثم درست القانون بعد التخرج، تقول عن نفسها «إن خلفيتي وتجربتي لا تنتميان إلى خلفية وتجربة أي رئيس حكومة محافظ من الطراز التقليدي».

وتُسأل ما هو إذن الفارق بينك وبين أولئك؟ فتجيب «لقد كنت أقل قدرة على الركون إلى الإذعان التلقائي، ولكن لعلي أقل خوفا من مخاطر التغيير»! نعم «التغيير»، هذه الصرخة الجميلة التي ما إن تصيب زعيما أو شعبا أو مجتمعا، حتى يتعرض للرعشة الإيجابية.. فينطلق باحثا عن مداخل المستقبل.

هذه العبارة، هي التي تجعل من الشعوب تضرب، وتعصي، وتمل من حكوماتها، وتفتش عن شعارات جديدة ورؤوس جديدة، بعدما كانت قد قدمت الرؤوس القديمة قربانا لنار التغيير.

هي العبارة ذاتها التي جعلت الشعب البريطاني ينفض عنه غبار الاشتراكية، ويعلن طلاقا طويلا مع حزب العمال، ويبدو فرحا بعودة المحافظين. إنه فرح لا يقارن ولا يوصف ولكنه يذكرك بتلك الجملة التي قيلت، إبان عودة الملك تشارلز الثاني بعد سقوط تجربة كرومويل الجمهورية، على لسان الكاتب الفرنسي الشهير فولتير: «لقد أنبأني العجائز الذين كانوا هناك أن معظم العيون اغرورقت بالدموع».. على أي حال فإن مواصفات السيدة ثاتشر ولسان حالها كانت تردد عبارة الملك العائد «لا بد أنه كان من الخطأ أنني لم أحضر قبلا».

إن المواصفات الذاتية، والتجربة الكبرى لصاحبة هذه المذكرات، تكسبها هالة من نوع خاص. فهي بداية زوجة رجل أعمال ناجح ومحامية بارعة. ثم نائبة جماهيرية في مجلس العموم (عن دائرة فينشلي منذ عام 1959) فوزيرة تربية وتعليم في حكومة إدوارد هيث، ثم زعيمة للمعارضة لمدة أربع سنوات.

يضاف إلى ذلك أنها لحسن حظها رافقت بعد عام من حكمها، تيارا مشابها لفكرها حكم أميركا. إذ استفادت من بروز تيار براغماتي يميني في الولايات المتحدة.. تمثل بانتخاب رونالد ريغان رئيسا لفترتين متتاليتين، فكان الاثنان، يمثلان نسيجا واحدا من الصلابة والشعور بواجب إزاء مسيرة التاريخ. مسيرة تواجه اليسار، وتعيد للفرد حريته في وجه المجموع، وتحجّم الدولة.. إلا كقوة لصنع القرار الصعب، فغيرا معا العالم.

قد يسأل قارئ: لماذا هذا الكتاب.. وما فائدة القارئ العربي منه.. حين تنشره جريدة عربية كبرى على نطاق واسع، خاصة أنه يغص بمعلومات تخص البريطانيين والبريطانيين وحدهم. والملاحظ أنه كتب لهم أكثر من غيرهم! الواقع أنه لأول مرة تتولى جريدة عربية ذات مسؤولية عامة ترجمة كتاب لسياسي بريطاني بهذا الوزن. فمنذ مذكرات تشرتشل لم تنشر مذكرات لسياسي بريطاني، خاصة على مستوى رئيس حكومة. وهذا للأسف تغفل تتحمل مسؤوليته الهيئات والمؤسسات العربية بمختلف أشكالها وأدوارها.

ثم إنه حتى مذكرات تشرتشل، وغيرها، عولجت بطريقة فردية، ولا تخلو من عنصر الخطأ الذي يتمخض عن عمل فردي أو تجاري.

إلا أننا نزعم أن هذا العمل يضاف إلى أبرز ما قدمته «الشرق الأوسط» للقارئ العربي مثل «ذاكرة ملك» للملك الحسن الثاني، ومذكرات الرئيسين نيكسون وكارتر، والجنرال شوارتزكوف، وغيرهم ممن تعتبر مذكراتهم هدية للمكتبة العربية قُدمت رغم المشاق المالية والأدبية. ثم إن القارئ حين يتعمق في هذا الكتاب لا بد له أن يتوقف عند محطات سياسية تتعلق بـ«الشرق الأوسط».. وأوروبا.. والعالم، كلها غطيت باقتدار وإلمام، مع أن الحصيلة الكبرى تظل للباحث في الشؤون البريطانية التي هي أكثر التصاقا بثاتشر من أي شأن في العالم.

إن هذا الكتاب سيتيح لقارئه بالعربية - كما لقارئه بالإنجليزية - الإطلالة على الشخصية البريطانية الحقيقية. ففي كل سطر وصفحة وفصل منه.. يشعر القارئ أنه يعيش بريطانيا.. منذ تمكن الإنجليز في القرون الثلاثة الماضية أن يسهموا إلى حد كبير في التوفيق بين النظام والحرية. وهذا التوفيق الذي يدعو للإعجاب والاحترام، هو قوام الحكم البريطاني اليوم. إن هذا الكتاب، وإن كان يتحدث عن مشكلات يتعرض لها المواطن البريطاني اليوم.. فإنه يردد أصداء ما كان يدور في هذه البلاد منذ مئات السنين. ومن أوجه العظمة في شخصية بريطانيا أن تغضنات وجهها لا تتغير كثيرا، فهي بقدر ما تزداد احتفاء بأمسها، تزداد تطلعا إلى غدها. إن الكتاب لا ينبيك عن هذا التاريخ الذي تشكل عنوة وبقسوة.. ومر بأطوار مختلفة.. ليصبح على شكل بريطانيا الحالية وقياسها، بل هو كذلك يجسد لك «بلا رتوش» ولا مقدمات هذه المرأة التي شغلت الدنيا وناسا ورجالا في فترة عقد من الزمن. ولم تتغير.. بجموحها، وصلابتها، وكبريائها.. واعتزازها بما تعتبره إرثا مقدسا تدافع عنه، ودورا تاريخيا كان قدرها أن تؤديه.