إرث ثاتشر في السياسة الخارجية

بدأت رئاسة حكومة بريطانيا مع إنشاء زيمبابوي الحديثة.. وأنهتها بتسليم هونغ كونغ إلى الصين

حاملة مدفع تحمل نعش ثاتشر لدى وصوله إلى كاتدرائية سان بول بمشاركة عناصر من القوات المسلحة البريطانية (إ.ب.أ)
TT

بعد أكثر من عشرين عاما على استقالتها، لا تزال رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت ثاتشر تحتل مكانة متميزة على الساحة العالمية، وتحولت الجملة التي جاءت ضمن كلمتها أمام مؤتمر حزب المحافظين عام 1980: «السيدة لا تعني التغيير»، كإحدى أشهر عباراتها. وككل الشعارات التسويقية التي تنتشر على السلع المعلبة في متجر البقالة الذي كان يمتلكه والدها، كانت هذه الكلمات بمثابة وعد منها بأنه مهما كانت الظروف سيظل المنتج كما هو. بيد أنه برغم مكانتها الفريدة على الساحة العالمية، لم تصغ ثاتشر سياسة خارجية مكتملة الأركان. فقد اعتمدت في نجاحها الكبير في المملكة المتحدة على برنامج اقتصادي تجريبي للغاية، إلى حد أنه لا يزال يثير الجدل حتى وقتنا الراهن. أما في خارج بريطانيا فقد كان الجانب الاقتصادي أقل أهمية، رغم شهرتها عالميا بكونها مدافعة شرسة عن الرأسمالية والليبرالية الجديدة. كانت ثاتشر تهدف إلى صياغة سياسة دولية تقوم على «القناعة» الصلبة، ويلخص ذلك فكرة أن السياسة الجيدة تبدأ بالصراحة والوضوح.

من الأسهل التعبير عن معتقدات ثاتشر بكلمات بسيطة لا كفلسفة سياسية مكتملة. فكانت ثاتشر تناصر الحرية والمنطق والفردية والقوة والاستقلال وسيادة القانون والإيمان. كانت تكره ما ترى عكس ذلك، أي: سيطرة الدولة المفرط والهراء الفكري والعمل الجماعي والتسويات والتفاوض والأعمال الإرهابية والنفاق، لكن ما يلخص ذلك كله هو حبها للوضوح. وكانت تبدي قلقا بالغا تجاه الغموض حتى أن التلاعب بالألفاظ والتورية كانا يجعلانها تشعر بنوع من عدم الارتياح. وحتى نظرياتها الاقتصادية الشهيرة كانت مبنية على محاولة إعادة الصدق إلى السوق، يحدوها الأمل في خفض التضخم وجعل الأسعار أكثر «واقعية» ومن ثم فرض نوع من الوضوح في مجال البيع والشراء.

كانت تحلم بعالم تنجز فيه الأشياء كما تم تصورها على الورق، بحيث تكون المنتجات جديرة بالثقة والأسعار عادلة وفي الأعمال والسياسة أن يعرف الناس أنهم يعقدون اتفاقات منصفة. فهل نجحت في ذلك؟

بدأت ثاتشر مسيرتها كرئيسة للوزراء بمؤتمر شهد نهاية دولة المستعمر الأبيض في روديسيا وإنشاء دولة زيمبابوي الحديثة، وأنهتها بتوقيع اتفاق تسليم هونغ كونغ إلى الصين. ومثلت جناح حزبها، من نواح شتى، الأكثر حنينا للإمبراطورية، لكنها كانت واقعية بشأن التخلي عنها. لكنها رفضت السماح في جعل نهاية الإمبراطورية البريطانية تتحول إلى بداية التدهور البريطاني. وسار رؤساء الوزراء الثلاثة الذين خلفوها، جون ميجور وتوني بلير وغوردون براون، على خطاها في اعتقادها بأن السبيل الأفضل لاستعادة بريطانيا مكانتها السابقة كقوة عظمى هو الحفاظ على علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة. وكان نجاحها الأكبر في تكوينها شراكة مستقلة نسبيا.

بل كان هناك الكثير من اللحظات التي تصدرت فيها ثاتشر المشهد، بدءا بتأييدها لاتحاد عمال حوض السفن البولندي، حركة «التضامن»، الذي لعب دورا حاسما في القضاء على الشيوعية. كما أنها مارست ضغوطا على الولايات المتحدة لتحرير الكويت بعد الغزو العراقي عام 1990.

لكنها كانت تعاني من القيود بسبب المصالح السياسية الأميركية. فلم تنجح على الإطلاق في وقف تدفق الأموال الأميركية على عناصر الجيش الجمهوري الآيرلندي، نتيجة لطبيعة السياسة الأميركية - الآيرلندية. ورغم قتل الجيش الجمهوري الآيرلندي لعدد من أصدقاء ثاتشر المقربين وكادوا أن يقتلوها هي في تفجير فندق برايتون عام 1984. فجاءت المصالح البريطانية بعد السياسات الداخلية الأميركية (من خلال ضغط الأميركيين من أصول آيرلندية لحماية مصالح الجيش الجمهوري الآيرلندي).

واستفادت ثاتشر من التعاطف الشخصي القوي من رئيس الولايات المتحدة آنذاك رونالد ريغان الذي وصل إلى الحكم بعد 21 شهرا من انتخابها عام 1979. كان كل منهما يعتبر الآخر شريكا متميزا، وأظهر ريغان إذعانا عندما طلب من ثاتشر النصيحة، فيما رأت ثاتشر في ريغان شخصا أكبر سنا وأكثر جاذبية وشخصية تفهم العالم إلى حد بعيد. بيد أن هذه العلاقة شهدت 3 خلافات جوهرية، الأول عندما أقدمت الأرجنتين على احتلال جزر فوكلاند عام 1982 ردت ثاتشر بإرسال قوة عمل بحرية، وكانت الولايات المتحدة حليفا ضعيفا، على الأقل. وفي العام التالي، غزت الحكومة الأميركية بصورة غير قانونية غرينادا دون أي محاولة لإطلاع الحكومة البريطانية، رغم كون غرينادا دولة تابعة للكومنولث، ورئيسة الدولة هي ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية. لكن الأحداث وضعت أميركا في موقف حرج، وأظهرتها بمظهر المتلاعب بالقوانين الدولية في دول أميركا اللاتينية وجزر الكاريبي.

ظهر الاختلاف الثالث بين ثاتشر وريغان جليا في التباين الأساسي بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ففي عام 1986 عقدت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قمة في ريكيافيك، العاصمة الآيسلندية. كانت ثاتشر قد التقت ميخائيل غورباتشوف، قبل أن يصبح رئيسا للاتحاد السوفياتي وأطلعت ريغان على سمات غورباتشوف، قائلة: «إنه رجل يمكن العمل معه». لكن في ريكيافيك خرجت من الصورة، وعقدت القمة لتجديد الحظر على أنظمة الصواريخ الباليستية. لكن غورباتشوف فاجأ الولايات المتحدة بتقديم صيغة للتخلص من الأسلحة النووية من المسرح الأوروبي كليا. ولو نجحت المفاوضات، لكان معنى ذلك نهاية الصواريخ البريطانية - ومن ثم انهيار أسطورة إنشاء المملكة المتحدة قوة ردع نووي مستقل - وفي النهاية انهارت المفاوضات، لكن لا تزال الحقيقة قائمة، أنه عندما كانت تضيق الاختيارات كانت الولايات المتحدة مستعدة في بدء تفاوض ينتقص من السيادة البريطانية.

رغم هذه الاختلافات حافظت ثاتشر على الشراكة مع الولايات المتحدة في إطار الصدق والمساواة رغم عدم الاتزان بين البلدين. وقد أسهم اعتبار أميركا ثاتشر رمزا مقدسا في الحرب الباردة في تلك العلاقة، واعتبرت أنها تجسيد لمهمة مستلهمة من رئيس الوزراء السابق وينستون تشرشل في تمزيق الستار الحديدي عبر أوروبا.

لكن نجاحها كمحاربة باردة كان له أثر سلبي على سياستها الخارجية الأوسع. فقد اعتقدت ثاتشر أن الإرهاب أمر منكر، فكانت على وشك رفض لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغن بسبب مسؤوليته عن مذبحة فندق الملك داود. وغضبت بشدة عندما تورطت إسرائيل في اغتيال رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي في لندن، وردت بطرد ثلاثة دبلوماسيين إسرائيليين من لندن وإغلاق مكتب الموساد الإسرائيلي. لكنها كانت ترى، من وجهة نظرها، أن كل أشكال الإرهاب تجسيد للحرب الباردة، معتقدة أن الاتحاد السوفياتي وأقماره الصناعية يقفون خلف كل عملية إرهابية. واقتنعت بسهولة بالغة بحجة مخادعة للسفير الإسرائيلي الشاب في الأمم المتحدة بنيامين نتنياهو، بأن الإرهاب يمكن هزيمته بالوسائل العسكرية دون اللجوء مطلقا إلى المفاوضات.

كانت النقطة الأكثر إثارة للجدل في سياسة ثاتشر الخارجية هي عداؤها تجاه نيلسون مانديلا، المناضل في أفريقيا الجنوبية. فقد وصفته وحزبه المؤتمر الوطني الأفريقي بالإرهابيين، في الوقت الذي استخدمت فيه حق الفيتو لمنع فرض عقوبات على جنوب أفريقيا. فهل ساهمت في تمديد نظام الفصل العنصري؟ الحقيقة أنها على الأرجح لم تفعل ذلك. فقبول حجة رئيس وزراء حقبة الفصل العنصري بي دبليو بوثا، بأن احتلال ناميبيا كان ضرورة لحماية جنوب أفريقيا من القوات الشيوعية التي تقودها أنغولا وكوبا، تخلت عن بوثا للتوجه إلى طاولة المفاوضات بعد أن دعم ريغان وغورباتشوف قمة لاستعادة السلام في ناميبيا. وبعد استقلال ناميبيا سقط نظام الفصل العنصري في الحال على الأغلب.

والآن في عام 2013. لم تكن جنوب أفريقيا الإخفاق الأكبر بالنسبة لسياسة ثاتشر الخارجية، بل كان تحالفها مع ديكتاتور باكستان الجنرال ضياء الحق. كانت تلك أبعد ما تكون عن شراكة مفتوحة. الحقيقة أنها كانت غامضة إلى أبعد حد. وكان ضياء حليفا في الحرب السرية ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان وكان ثمن ولائه باهظا. فقد أدى تطوير باكستان لأسلحة نووية إلى انتشار نووي من كوريا الشمالية إلى إيران، وتحولت معسكرات التدريب التي أقامها اللاجئون الأفغان في المنطقة الحدودية مع باكستان حاضنة الإرهاب الذي يمثله تنظيم القاعدة حول العالم. وتمثل علاقة ثاتشر بضياء الحق أن سياسة «عدو عدوي صديقي» أسوأ قاعدة ممكنة في السياسة الخارجية.

لقد حاربت مارغريت ثاتشر من أجل بريطانيا بالفوز في الساحات الدولية بدءا من الاتحاد الأوروبي والعمل كمندوب مبيعات للشركة المحدودة العامة البريطانية والفوز بعقود ضخمة للشركات البريطانية. لكن أعظم جزء من إرثها كان طلبها الصراحة الكاملة في الشؤون الدولية، فنادرا ما كانت تعمل بخلاف معاييرها الشخصية، بيد أنها في المناسبات القليلة التي قامت فيها بذلك، كانت نتائج ذلك كارثية للعالم.