الانتخابات المحلية في العراق.. خيارات مفتوحة وخرائط مغلقة

تجري اليوم في 12 محافظة من مجموع 18 محافظة عراقية

TT

لم تسلم جرة الانتخابات المحلية في العراق المقرر إجراؤها اليوم السبت. فبعد حملة إعلامية ودعائية استخدمت فيها كل السبل والوسائل المشروعة وغير المشروعة انتهت الحملة عند مقتل نحو 16 مرشحا لهذه الانتخابات فضلا عن تفجيرات مروعة كان آخرها تفجير العامرية مساء أول من أمس الذي أدى إلى مقتل وإصابة أكثر من 100 شخص معظمهم من الشبان ممن كانوا يرتادون مقهى للبلياردو. القوى السياسية كلها وإن كانت تريد لهذه الانتخابات أن تكون بمثابة «بروفة» للانتخابات البرلمانية التي سوف تجرى عام 2014 إلا أنها وإن بدت الآن بمثابة حرب خيارات مفتوحة فإن حرب الخيارات هذه لا تزال تنتشر مواقعها الهجومية والدفاعية على خرائط مغلقة عرقيا ومذهبيا. ومما عزز ذلك هو استمرار المظاهرات في المحافظات الغربية من العراق والتي لا تبدو مرشحة للتراجع حتى موعد تلك الانتخابات الأمر الذي جعل عملية «التمترس» إن جاز التعبير خلف المكون العرقي أو الطائفي أو الحزبي أو المناطقي هو العنوان الأبرز لما يجري على ساحة هذه الانتخابات. ومن أبرز ما يمكن تأكيده هنا على صعيد تلك الانتخابات أن ما هو بارز فيها لا يتعلق بمجرد وعود لم تتحقق وإنما ما يتعلق منها بكشف الحساب عما تحقق خلال السنوات الماضية لا سيما بعد أن بدأت تتضح على نطاق واسع معالم الفساد المالي والإداري في العراق وبأرقام فلكية (عشرات إن لم تكن أحيانا مئات مليارات الدولارات). لذلك تبدو هذه الانتخابات وإن كانت تتعلق بمجالس محلية (بلدية) إلا أنها تبدو وكأنها محاكمة مبكرة لنظام سياسي مضى عليه في السلطة عشر سنوات دون أن يتمكن حتى الآن من تقديم أوراق اعتماده للتاريخ بوصفه يمثل مرحلة جديدة تعادل الثمن الباهظ الذي دفعه العراقيون على مستوى تغيير بنية نظام سياسي كان قد مضى عليه ثمانون عاما في السلطة بصرف النظر عن مضمونه. هذا النظام المتهم الآن من قبل الشارع العراقي بشتى أنواع التهم من فساد مالي وإداري وفشل في الخدمات وصولا إلى إدخال البلاد في سلسلة من الأزمات المتلاحقة بدأت منذ أن ظهرت النتائج التي أفرزتها انتخابات مارس (آذار) عام 2010 والتي تشكلت على أثرها الحكومة الحالية التي أطلق عليها «حكومة الشراكة الوطنية». وعلى الرغم من بدء العد التنازلي لنهاية الدورة الانتخابية الحالية وبالتالي عمر الحكومة الافتراضي والعملي عام 2014 إلا أنها (الحكومة) لا تزال تفتقر إلى وزراء للدفاع والداخلية والأمن الوطني. ليس هذا فقط بل إن الغالبية العظمى من وكلاء الوزارات وقادة الفرق العسكرية ورؤساء الهيئات المستقلة وأعدادا كبيرة من المديرين العامين في الدولة العراقية يديرون وزاراتهم ومعسكراتهم ودوائرهم بالوكالة بسبب الخلافات الحادة بين البرلمان والحكومة مرة بشأن مفهوم الفصل بين السلطات ومرة بشأن مفهوم إدارة الدولة بدءا من اقتراح مشاريع القوانين وإقرارها داخل قبة البرلمان في وقت تجد فيه الحكومة في المحكمة الاتحادية ضالتها في البحث عن تفسيرات شاءت الصدف أو المقادير أو ترتيبات معينة أن تأتي دائما لصالحها.

وبسبب ازدواجية السلطة في العراق من حيث عدم وجود موالاة أو معارضة داخل الحكومة أو البرلمان فإنه كثيرا ما يكون البرلمان منقسما على نفسه والحكومة منقسمة هي الأخرى على نفسها وذلك لجهة وجود كتل في البرلمان تؤيد جزءا من الحكومة (ائتلاف دولة القانون داخل البرلمان يتزعمه رئيس الوزراء نوري المالكي وهو مؤيد دائم له) وفي الوقت نفسه فإن هناك وزراء في الحكومة يؤيدون جزءا من البرلمان (وزراء التحالف الكردستاني منسجمون تماما مع كتلتهم البرلمانية والأمر نفسه ينطبق على وزراء التيار الصدري مع أنه يجمعهم مع المالكي تحالف أكبر هو التحالف الوطني وبدرجة أقل وزراء القائمة العراقية). وإذا أضفنا إلى كل هذه التركيبة السياسية مشكلة أخرى تتمثل في الدستور العراقي المختلف عليه جملة وتفصيلا فإن النتيجة النهائية التي باتت واضحة للعيان أن هذا النظام (نظام المحاصصة العرقي والطائفي) فقد شرعيته ومشروعيته معا.

محفظتي أولا.. تسقيط ممنهج من أكثر الأمور التي لفتت الانتباه على صعيد الحملة الانتخابية هو طبيعة الشعارات التي استخدمتها القوى والأحزاب والتيارات لكي تتمكن بوساطتها من جذب اهتمام الناس وانتباههم إليها.. وقد كان شعار «محافظتي أولا» الذي طرحه تيار المواطن (المجلس الأعلى الإسلامي الذي يتزعمه عمار الحكيم) من أكثر الشعارات الانتخابية التي جذبت الأنظار عندما تعرض إلى حملة تشويه ربما ستكون نتائجها النهائية لصالحه. فالمعروف أن تيار الحكيم حاله حال ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء نوري المالكي والتيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر يتنافسون على الساحتين الوسطى والجنوبية ذات الأغلبية الشيعية فيما تتنافس القائمة العراقية وبعض القوى الأخرى الأقل أهمية على المنطقة الغربية في حين تبدو بغداد ساحة مفتوحة ومختلطة أمام الجميع على الرغم من أن سكان بغداد هم ربع سكان العراق تقريبا (6 ملايين نسمة من 32 مليون نسمة). وعودة إلى شعار «محافظتي أولا» لتيار الحكيم فإن بعض المنافسين تقصد أن يرفع الألف عن محافظتي فتحول الشعار إلى «محفظتي أولا» وهو ما يعني أن هم المرشح هو كيفية ملء محفظته بالنقود جراء عمليات الفساد المالي في العراق وليس تقديم الخدمات البلدية للمحافظة التي يمثلها في الانتخابات. زعيم المجلس الأعلى الإسلامي عمار الحكيم اعتبر أن ما جرى ضد مرشحي تياره بتغيير اسم محافظتي إلى محفظتي عملية تسقيط ممنهج. ولكن حجم الدعاية المضادة التي تعرض لها من حاول تشويه الشعار جعل المعركة الآن تصب في مصلحة تيار الحكيم لا في مصلحة خصومه وهم من الشيعة طبقا لمفهوم الخرائط المغلقة في إطار حرب الخيارات المفتوحة.

ما البديل؟ وما العمل؟

مع ذلك فإن السؤال الهام هو ما البديل وما العمل؟ وتأتي مشروعية هذا السؤال من أكثر من مستوى. ففي الوقت الذي يدرك فيه الجميع أن هناك فشلا على كل المستويات فإن هناك في الغالب نوعين من الحلول ومن داخل الطبقة السياسية الحالية الممسكة بزمام السلطة طبقا لمبدأ المحاصصة. النوع الأول يتمثل في تشكيل حكومة أغلبية من خلال الذهاب إلى انتخابات مبكرة وهذا النوع من الحل يتبناه في الغالب ائتلاف دولة القانون وبعض القوى والكتل الصغيرة التي باتت اليوم هي الأقرب إليه سواء داخل التحالف الوطني (حزب الفضيلة الإسلامي ومنظمة بدر التي يتزعمها هادي العامري) أو خارج التحالف الوطني مثل الكتلة البيضاء بزعامة جمال البطيخ أو العراقية الحرة بزعامة قتيبة الجبوري وكلتاهما انشقت من ائتلاف العراقية الذي يتزعمه رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي. بينما هناك اتجاه يقترب من هذا الحل وذلك لجهة الذهاب إلى انتخابات مبكرة ولكن بتشكيل حكومة أغلبية سياسية موسعة على أساس البرامج وليس المكونات العرقية والطائفية. وهذا الاتجاه تتبناه القائمة العراقية والتحالف الكردستاني والمجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري لكن مفهوم الأغلبية السياسية الموسع يذهب إلى التأكيد على ضرورة أن يكون هناك تمثيل بشكل من الأشكال للمكونات وبالذات الرئيسية «الشيعة والسنة والأكراد». ومع ما في هذا الطرح نوع من الالتفاف على مفهوم الأغلبية السياسية من وجهة نظر التيارات الديمقراطية والليبرالية الناشئة في العراق اليوم لأنه محاصصة محسنة إلا أن المبرر الرئيسي لهذا الطرح أنه من غير الممكن أن نغادر سواء في الانتخابات البرلمانية المقبلة أو حتى التي تأتي بعدها نظام المحاصصة الطائفية والعرقية لا سيما أن قدرة الطبقة السياسية الحالية لا تزال كبيرة على خلق الاصطفافات الطائفية والعرقية لأغراض انتخابية. وفي هذا السياق فإن الكثيرين يرون اليوم أن ما يجري من مظاهرات واعتصامات وبصرف النظر عما تتضمنه من «مطاليب مشروعة» فإن هناك من دخل تحت «إبط المتظاهرين» لكي يعيد تسويق نفسه أمام الجماهير بوصفه المنقذ الطائفي لها من الآخر.. الضد النوعي الطائفي أو ركوب موجتها على أمل الحصول على مكاسب مبكرة.

سانت ليغو.. ينصف من؟

طوال فترة الانتخابات البرلمانية والمحلية في العراق في غضون السنوات العشر الماضية كانت هناك إشكالية «البواقي» مثلما يطلق عليها الدكتور عامر حسن فياض عميد كلية النهرين للعلوم السياسية بالعراق في حديثه لـ«الشرق الأوسط» وتتعلق بالأصوات الباقية ولمن ينبغي أن تذهب حيث «طبقا لقانون الانتخابات قبل أن يفلح البرلمان العراقي أواخر العام الماضي بتعديله بعد نقاشات وجدل طويل كان لصالح الأقوياء أو الكبار من الكتل والأحزاب والقوى السياسية المهيمنة على الشارع وعلى الساحة السياسية». لكنه وبعد تعديل القانون - والكلام للدكتور فياض - «فإن الذي حصل أن الظلم قد تم رفعه عن الضعفاء أو القوائم الصغيرة لكنه لم يضر الكبار وإن نفع الصغار وبالتالي فإنه ليس التعديل النموذجي المطلوب والذي أطلق عليه قانون سانت ليغو». وفيما إذا كانت ستتغير الخارطة السياسية في البلاد بعد الانتخابات قال فياض إن «المشكلة أن اعتماد المعايير التقليدية غير السياسية مثل معيار القومية والعشيرة والمذهب لا يزال باقيا وإن تراجع فإن تراجعه نسبي وبالتالي لا يمكن الحديث عن تغييرات كبيرة في الخارطة السياسية المقبلة»، معتبرا أن «القوائم ذات البعد الوطني غير الجهوي لا تزال غير مؤثرة بما فيه الكفاية». من جهته يرى عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي وأحد قادة التيار الديمقراطي في العراق رائد فهمي في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن «الطبقة السياسية الحاكمة تواجه حاليا حراكا جماهيريا غير مسبوق وأزمة سياسية تحتاج إلى مراجعة شاملة للبرامج والسياسات وبالتالي فإن المواقف غير محسومة بين من يريد أغلبية سياسية ومن يريد بقاء الحال على ما هي عليه». ويضيف فهمي أن «السؤال الهام الذي يطرح نفسه الآن في ضوء ما يجري الآن وسوء الأوضاع خلال السنوات الماضية هو هل وعي الناخب الآن بالمستوى الذي يمكن أن يغير الخارطة السياسية بصعود قوى وأحزاب عابرة للهويات الفرعية؟». عن هذا السؤال تأتي الإجابة من قبل عميد كلية الإعلام في جامعة بغداد الدكتور هاشم حسن الذي يرى في تصريح لـ«الشرق الأوسط» أن «المشكلة التي نعانيها في العراق تتمثل في عدم وجود رأي عام قوي يمكن أن يغير الموازين حيث إن القوى التقليدية لا تزال قوية فضلا عن أن الرأي العام لا يزال منقسما على نفسه وهو ما يجعلها قادرة على التأثير من خلال وسائل كثيرة منها فساد منظمات المجتمع المدني وعدم حيادية الكثير من وسائل الإعلام فضلا عن المال السياسي وشراء الذمم». وانسجاما مع كل ذلك ينتهي حسن إلى القول «علينا عدم توقع حصول نتائج كبيرة».

الصندوق الرابع!! السياسي والأكاديمي العراقي البارز الدكتور غسان العطية الذي دخل انتخابات مجالس المحافظات في عدة ائتلافات وفي عدة محافظات (بغداد، الديوانية، البصرة، صلاح الدين، كركوك) يقول في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إن «التركيبة السياسية الحالية هي التي كرست الانقسام الطائفي والإثني في البلاد وأوصلت الناس إلى قناعة أنها لم تعد قادرة أن تعطي شيئا أو تعد بشيء». ويضيف أن «هناك حالة نفور عام لدى الناس وهو ما يدعونا خلال الانتخابات المحلية المقبلة أن نقدم للناس البديل الذي نراه مناسبا وهو الصندوق الرابع الذي هو الصندوق العراقي» مشيرا إلى أن «الناخب العراقي تعود خلال الانتخابات الماضية أن يجد أمامه ثلاثة صناديق هي الصندوق الشيعي والصندوق السني والصندوق الكردي بينما نحن القوى الوطنية والليبرالية والديمقراطية سنقدم للناخب الصندوق الرابع». ويرى الدكتور العطية أن «الطبقة السياسية الحالية تحاول العمل على تأزيم الأمور بما يدفع إلى مواجهة شيعية - سنية لكي تحقق من خلالها اصطفافات تؤمن لها المزيد من الأصوات وهو ما نعمل على منعه بكل الوسائل». ويبقى الرهان على مدى استقلالية مفوضية الانتخابات ونزاهتها.. الناشط في مجال مراقبة الانتخابات وعضو منظمة «شمس» لمراقبة الانتخابات حسين الساهي يرى في حديث لـ«الشرق الأوسط» أن «الأصل في مفوضية الانتخابات الحالية هي أنها تريد أن تكون مثلما كانت عليه في السابق تراعي بشكل أساسي المعايير الدولية لأنها بالأصل هي مدينة لهذه المعايير في وجودها ولذلك فإنها تحاول الانسجام مع هذه المعايير على الرغم من أن تشكيلها يتم بالفعل وفقا للمحاصصة الطائفية والعرقية». ويرى الساهي أن «مما يساعد المفوضية أيضا على القيام بعملية انتخابية ناجحة أن الغطاء الثقيل الذي كانت تتمتع به بعض القوى والأحزاب الدينية من قبل المرجعية الدينية كان قد رفع عنها إلى حد كبير بل إن المرجعية الدينية تحولت الآن إلى طرف في محاربة الفساد» معتبرا أن «مبدأ التنافس بين القوى المشاركة في الانتخابات سيكون أقوى مما كان عليه في المرات الماضية يضاف إلى ذلك أن وعي الناخب اختلف هذه المرة عن المرات السابقة والأهم أن الكثير من القوى والكتل السياسية قد انكشف عنها الغطاء وأصبحت القوى الديمقراطية الآن أكثر قدرة على التحرك والمنافسة».