التراث السوري ضحية القصف النظامي والاشتباكات ومحل أطماع المهربين

مواقع حلب وحمص ودير الزور الأكثر تضررا وخشية من تكرار النكبة العراقية

TT

لا يوفر القتال الدائر في سوريا منذ أكثر من عامين البشر ولا الحجر. الخسائر في الأرواح، والتداعيات النفسية والاجتماعية، وكلفة الدمار الاقتصادية، ونسبة النازحين والمهجرين في مختلف المحافظات السورية، تبدو كلها أكثر من أن تعد وتحصى.

لكن تداعيات الصراع لا تطال هذه الجوانب فقط، إذ إن التراث السوري مهدد وفي خطر حقيقي. وهو تراث لا يملكه السوريون فحسب، بل تمتلكه الإنسانية جمعاء. مواقع أثرية وتاريخية ودينية تواجه اليوم ما واجهته مثيلاتها العراقية؛ من تدمير وقصف ونهب. لم تعد هذه المواقع هدفا للنظام أو المعارضة فحسب، بل هدفا لعصابات محلية وأجنبية تمتهن سرقة الآثار وتهريبها، وفق ما يؤكده الطرفان المتخاصمان في سوريا.

وتعتبر سوريا، وفقا لعلماء الآثار، أحد أهم مراكز الحضارات القديمة؛ إذ انطلقت من رأس شمرا في ساحلها أول أبجدية في التاريخ، كما عرفت البشرية في ممالكها القديمة معنى الزراعة وتدجين الحيوانات، وفيها دمشق، أقدم عاصمة آهلة بالسكان، وتدمر، أو «البلدة التي لا تقهر» باللغة الآرامية، التي نافست حضارتها حضارة الإمبراطورية الرومانية القديمة في القرن الثالث الميلادي.

لم تكن المواقع الأثرية والتاريخية، مع اندلاع الأزمة السورية بمرمى نيران الجيش السوري النظامي أو مقاتلي «الجيش الحر». لكن مع إطالة أمد الأزمة واشتداد حدة المواجهات بين الطرفين، بات التحصن في بعض المواقع والقلاع والتلال الاستراتيجية أمرا في غاية الأهمية للطرفين، وتحديدا النظام السوري. وفي المرحلة الأخيرة، بدا واضحا تعمد القوات النظامية القصف الممنهج لمواقع دينية تحديدا.

وقد أعربت في وقت سابق المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو) إيرينا بوكوفا عن بالغ حزنها بسبب ما جاء في تقارير تفيد بمواصلة ممارسات الهدم التي ألحقت أضرارا جسيمة في مدينة حلب القديمة، المدرجة على قائمة التراث العالمي منذ عام 1986؛ تقديرا لما تحويه من «أنماط معمارية عربية نادرة»، ولما تشهد عليه من مظاهر التنمية الثقافية والاجتماعية والتكنولوجية للمدينة منذ عصر المماليك. إن حلب القديمة هي أحد مواقع التراث العالمي الستة في سوريا.

وذكرت المديرة العامة لليونيسكو جميع الأطراف المتصارعة في سوريا بضرورة الالتزام باتفاقية لاهاي لعام 1954 بشأن حماية الممتلكات الثقافية في حالة نزاع مسلح، وهي الاتفاقية التي وقعت عليها سوريا.

ويقضي البروتوكول 2 من هذه الاتفاقية بأن مسؤولية صون وحماية «الممتلكات الثقافية» في حالات الحرب تقع على عاتق النظام السوري، الذي يتوجب عليه «الامتناع عن اتخاذ قرار بشن أي هجوم قد يتوقع تسببه في إلحاق أضرار عرضية مفرطة بممتلكات ثقافية محمية»، وفقا للمادة 4 من البروتوكول 2 لاتفاقية جنيف 1954.

ويتبادل النظام ومعارضوه المسؤولية بشأن استهداف الآثار والمتاحف والمساجد والكنائس القديمة، لكن المسؤولية السياسية والأخلاقية تقع على عاتق الحكومة السورية في حماية الإرث الإنساني والحضاري للبلاد.

كما أدى القصف النظامي، الأسبوع الفائت، إلى تدمير مئذنة الجامع العمري في درعا، حيث انطلقت أولى المظاهرات المطالبة بالإصلاح، وشكلت شرارة المظاهرات التي اجتاحت عددا من المدن السورية.

المدن الثلاث الأكثر تضررا في سوريا هي حلب وحمص ودير الزور. يقول شيخموس علي، الحاصل على دكتوراه في آثار الشرق القديم من جامعة ستراسبورغ، والموظف السابق في مديرية الآثار في سوريا.

في حمص، يوضح علي لـ«الشرق الأوسط» أن «مئات البيوت القديمة تضررت، وعشرات الكنائس والمساجد»، لافتا إلى «خطر كبير يحيط بمدينة تدمر وقلعتها المعروفة باسم قلعة فخر الدين المعني».

يؤكد معارضون أن الدبابات النظامية تتمركز قرب تدمر، التي تعد من أهم المدن الأثرية في العالم، وليس في سوريا فحسب. كما تتمركز الدبابات قرب المدافن الأثرية. والأخطر، وفق علي، هو الضرر الذي لحق بمعبد بل الذائع الصيت، ويعود تاريخ بنائه إلى القرن الأول الميلادي؛ إذ إن أحد أعمدته الضخمة مهدد بالسقوط.

وتؤكد المديرية العامة للآثار والمتاحف أنها تعمل على «حماية الآثار والتراث الوطني» من عمليات النهب والسرقة والدمار، وذلك من خلال تأمين مقتنيات المتاحف السورية ومقتنياتها «النادرة في أماكن بعيدة عن أي اعتداءات محتملة، باستثناء القطع الثابتة التي يصعب نقلها، لكنها وضعت تحت حراسة مشددة».

وأوضح بيان المديرية أن لصوص الآثار نشطوا تحديدا في المواقع الأثرية الساخنة والبعيدة لصعوبة تأمين الحماية مع نقص أعداد الحراس، وبعدها عن المجتمع المحلي، ويمكن تحديد أهم التعديات في الحسكة، حيث بينت دائرة آثار الحسكة في تقرير لها أن المواقع الأثرية شمال المحافظة بحال جيدة إلى الآن، ولم تتعرض لتنقيبات غير مشروعة، وخاصة المواقع المهمة التي تنقب فيها بعثات أثرية سورية وأجنبية منذ سنوات طويلة، مثل مواقع «تل موزان وتل ليلان وتل بيد وتل عربيد» وتضم هذه المواقع بعضا من أهم الممالك القديمة في هذه المنطقة.

ولعل مدينة حلب هي الأكثر تضررا. احترق جزء كبير من أسواقها القديمة، التي تمتد لمسافة أكثر من 10 كلم، ويعود تاريخ بنائها إلى القرن الخامس عشر. كما أن باحة الجامع الأموي شكلت ساحة اشتباكات، وتحصن الجنود النظاميون في مئذنته التي باتت ركاما اليوم.

ويقول علي إن عشرات النداءات تم توجيهها إلى عناصر «الجيش الحر» في حلب لإبقاء حجارة المئذنة وركامها على حاله من دون المساس بها، تمهيدا لإعادة الترميم في مرحلة لاحقة.

يقول علي، وهو يرأس اليوم جمعية «حماية الآثار السورية»، ويدير صفحة على موقع «فيس بوك» تحمل اسم الجمعية، وترصد كل ما يتعلق بالآثار في سوريا وما تتعرض له، ويوثق مقاطع فيديو صور، إن مواقع كثيرة تضررت في سوريا. ويعدد من أبرزها تعرض السوق القديمة في دير الزور (شمال شرقي سوريا) لتدمير شبه كلي، واستهداف القوات النظامية لكاتدرائية القديس جاروجيوس وأربعة من المساجد الأقدم في سوريا في مدينة بصرى، المدرجة على لائحة التراث العالمي، إضافة إلى عدد كبير من البيوت القديمة في المدينة الواقعة في درعا.

كذلك، شقت القوات النظامية طريقا في قاعدة قلعة المضيق بريف حماه، تمهيدا لوصول الدبابات إلى القلعة التي باتت، بحسب علي، أشبه بثكنة عسكرية وأصابها دمار كبير.

وفي إدلب، أدى القصف على مدينة معرة النعمان إلى تكسير عدد من أبواب متحفها البازلتية، وهو يعد أكبر متحف للموزاييك في الشرق الأوسط، وفي داخله عدد كبير من لوحات الموزاييك المحفوظة منذ قرون.

وبين تقرير صادر عن دائرة آثار الحسكة أن الفضل في عدم وجود أعمال تخريبية في هذه المواقع المهمة ومواقع مجاورة ومحيطة بها يرجع للتعاون الذي يبديه المجتمع المحلي واللجان الشعبية المحلية في المنطقة، في حين لا تتوافر معلومات دقيقة عن المواقع الأثرية في جنوب المحافظة لصعوبة وصول الآثاريين والحراس إليها.

أما في الرقة فبين تقرير دائرة آثارها أن قلعة جعبر آمنة، لكنها مغلقة حاليا، وبالنسبة لدير الزور فقد شهد موقع دورا أوروبس أعمال تنقيب سرية محدودة، ولوحظ وجود خمس مخالفات بناء على أن الأضرار اقتصرت فيه على سرقة تجهيزات مادية تعود للبعثة العاملة في الموقع، وسرقة موجودات متحف «دورا أوروبس» وهي نسخ وليست قطعا أصلية.

والتهمت النيران بالفعل أسواق حلب المغطاة القديمة التي تعود للقرون الوسطى، واندلعت حرائق أيضا في المسجد الأموي بالمدينة. كما أن عمليات التنقيب غير القانونية هددت قبورا في بلدة تدمر الصحراوية وموقع إبلا الأثري الذي يعود للعصر البرونزي، وتبحث الشرطة الدولية (إنتربول) عن تمثال عمره 2700 سنة سرق من مدينة حماه.

الأضرار لا تقتصر على القصف فحسب، إذ تؤكد تقارير من النظام السوري والمعارضة انتشار ظاهرتي التنقيب والتهريب، داخل سوريا وخارجها، في مشهد يعيد إلى الأذهان ما تعرضت له آثار العراق وتحفها الفنية من عمليات نهب وسرقة كبيرة. وكان المدير العام للآثار والمتاحف في سوريا مأمون عبد الكريم، قال في حديث صحافي، الأسبوع الفائت، إن «معظم السرقات تمت من المواقع الأثرية البالغ عددها نحو 1000 موقع».

وأشار إلى استعادة أكثر من 4000 قطعة مسروقة خلال الأشهر الماضية، سرقت جميعها من مواقع أثرية، لافتا إلى أن عدد الحفر الناتجة عن أعمال التنقيب غير المشروع في موقع «ماري» على الفرات (دير الزور)، وصل إلى نحو 50 حفرة، في حين بلغ عدد الحفريات في موقع دورا أوروبوس 300 حفرة، إضافة إلى تخريب في الأبنية الأثرية ضمن الموقع.

وفي سياق متصل، يشير علي إلى مصادرة 18 لوحة فسيفساء، كانت في طريقها إلى التهريب، من مدينة أفاميا، وهي من أبرز المدن الأثرية في حماه وتحتوي على سويات تاريخية ترقى للعصور الهلينستية والرومانية والبيزنطية والإسلامية.

وينقل عن تقارير رسمية سورية إشارتها إلى أن مجموعات من العراق ولبنان وسوريا، وربما تركيا، تعمل على خط تهريب تحف وآثار من داخل سوريا.

ويبدي علي أسفه «لمشاركة بعض الكتائب المسلحة في عملية التنقيب والتهريب»، ويقترح أن يصار إلى «تعيين حراس بالتعاون مع مجالس الإدارة المحلية، وإلا فسيستمر الحفر بشكل أو بآخر»، على حد تعبيره.

وفيما يتعلق بالمتاحف التي يصر النظام السوري على أنها لا تزال خاضعة لسلطته، حتى في المناطق الخارجة عن سيطرته، يوضح علي، المتخصص في شؤون الآثار، لـ«الشرق الأوسط»، أن وسائل حماية المتاحف، حتى قبل اندلاع الثورة السورية، كانت بدائية، كما الحال في متحف مدينة أفاميا، وفي متحف دير الزرو الذي تحول إلى ثكنة عسكرية، وهناك خشية حقيقية اليوم من تعرضه لهجوم من قبل الطرفين.

ويشير إلى أن «متحف الرقة تحت سيطرة لجنة من المعارضة، فيما القطع المهمة محفوظة في آماكن آمنة»، محذرا من وضع متحف حمص، الواقع تحت مرمى نيران الجيشين النظامي والحر في آن معا، في ظل غياب أي تقارير صادرة عن المديرية العامة للآثار أو وسائل الإعلام تبين حال هذا المتحف اليوم، بعد أن أقدم الجنود النظاميون على فتح كوات في جدرانه.

في سياق أبرز السرقات، يشير علي إلى سرقة عدد كبير من محتويات متاحف التقاليد الشعبية في دير الزور وحلب وحمص، لكن السرقة الكبرى هي سرقة تمثال آرامي من البرونز مغطى بالذهب، يرجح أن يكون سارقه أحد العاملين في المتحف عينه.