هولاند يطفئ شمعته الأولى في الإليزيه وسط تدهور شعبيته

قليل من وعود الرئيس الفرنسي تحقق مقابل استفحال المشكلات الاقتصادية والاجتماعية

هولاند يلقي كلمة بمناسبة يوم العمال في قصر الإليزيه أمس (رويترز)
TT

قبل ثلاثة أيام، أجرى معهد «سي إس آي» استطلاعا للرأي لصالح القناة الإخبارية الفرنسية «بي أف أم»، وشكلت النتائج التي أفضى إليها «صدمة» للكثيرين إذ يتبين منه أن رئيس الجمهورية الحالي الاشتراكي فرنسوا هولاند كان سيحل في المرتبة الثالثة من جولة الانتخابات الرئاسية الأولى فيما لو جرت الآن إذ إنه سيحصل على 19 في المائة من الأصوات، وكان سيخرج بالتالي من السباق الرئاسي. وبالمقابل، فإن الرئيس السابق اليميني نيكولا ساركوزي كان سيحل في المرتبة الأولى (34 في المائة) تليه مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن (23 في المائة).

وجاءت نتائج الاستطلاع المذكور لتبين عمق الانفصال القائم بين هولاند والفرنسيين بعد أقل من عام على وصوله إلى قصر الإليزيه. وبحسب نتائج استطلاعات أخرى، فإن شعبية هولاند تراجعت إلى الحضيض إذ إنها لا تتعدى حاليا مستوى 25 في المائة بحيث إن فرنسيا واحدا من أصل أربعة ما زالوا يمنحون الرئيس ثقتهم لمواجهة المشكلات التي تعاني منها فرنسا. وبذلك يكون هولاند أحد أقل الرؤساء الفرنسيين شعبية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة قبل ستين عاما.

والواقع أن صورة المشهد السياسي اليوم تختلف جذريا عما كانت عليه مساء 6 مايو (أيار) من العام الماضي حين نجح اليسار في إيصال مرشحه هولاند إلى قصر الإليزيه واضعا بذلك حدا لآمال الرئيس السابق بالفوز بولاية ثانية من خمس سنوات. هولاند الذي قدم نفسه على أنه «النقيض» من الرئيس السابق إن في طريقة ممارسته للسلطة أو في السياسة التي يدعو إلى تطبيقها، أثار كثيرا من الآمال خصوصا لدى الطبقات الوسطى والدنيا. لم يتردد في الإعلان أن «عدوه الأكبر» هو عالم المال والمصارف وأن همه الأول هو إعادة إطلاق عجلة الاقتصاد وتحقيق النمو وليس الخضوع لأوامر الاتحاد الأوروبي أو الانحناء أمام أوامر المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل. ودغدغ هولاند أحلام مواطنيه بإعلان عزمه على محاربة الركود الاقتصادي وتوفير فرص العمل وتحقيق العدالة الاجتماعية وألا يكون رئيسا للأغنياء وإقامة «الجمهورية النموذجية» وهي تعبير «مستنسخ» عن «المدينة الفاضلة». وفاجأ هولاند كثيرين عندما أعلن أنه سيفرض ضريبة تصل إلى 75 في المائة على الذين تزيد عائداتهم المالية على مليون يورو في العام. كما أفصح عن برنامج إصلاحي متكامل اقتصاديا وماليا واجتماعيا. واختار هولاند الذي قدم نفسه على أنه رئيس «عادي» رئيس حكومة يشبهه كثيرا هو جان مارك أيرولت الذي كلفه تطبيق برنامجه الانتخابي.

هذه الصورة نالت استحسان أكثرية من الفرنسيين الذين اختاروا إعادة رئيس اشتراكي إلى الإليزيه هو الأول منذ فرنسوا ميتران الذي دخله في عام 1981. ولكن بعد عام من ممارسة السلطة، يرى الفرنسيون أن زمن الحساب قد حان أوانه. وكان السؤال: هل حسابات الحقل تنطبق على حسابات البيدر؟.

الواقع أن الفروق كبيرة بين الوعود الوردية والحقائق المرة. فالبطالة وصلت إلى أعلى مستوى لها منذ عقود وهي تصيب حاليا 11 في المائة، أي أكثر من ثلاثة ملايين من الفرنسيين في سن العمل. وبسبب الارتفاع المضطرد للبطالة غلبت الفرنسيين القناعة أن وعود الرئيس بتراجع هذه النسبة مع نهاية العام الحالي لن يتحقق، ذلك أن النمو الاقتصادي الضرروي لخلق فرص العمل معدوم وبرامج تسريح العمال وإغلاق المؤسسات والشركات تفرض جوا ثقيلا على فرنسا يزيد من قتامته ارتفاع نسبة الضرائب التي تفرضها الدولة لمداواة العجوزات التي تعاني منها الميزانية والصناديق الاجتماعية والصحية. وبعد أن التزم هولاند بإعادة العجز إلى أقل من 3 في المائة وفق ما يطلبه الاتحاد الأوروبي نهاية عام 2013، اعترفت الحكومة بعجزها عن هذا الهدف.

يؤكد المحللون أن تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي هو المسؤول عن انهيار شعبية هولاند. بيد أن الأمور لا تتوقف عند هذا الحد. فقد عانى عهد هولاند في سنته الأولى من خيارات من فقدان الانسجام داخل الفريق الحكومي وعجز رئيسها على قرض «هيبته» عليها مما أعطى الانطباع بأن كل وزير «فاتح على حسابه». ثم جاءت فضيحة وزير الموازنة جيروم كاهوزاك لتزيد الطين بلة ولتنشر غلالة من الشك فوق رؤوس أعضائها، لا بل فوق قصر الإليزيه كذلك. ووجه الخطورة في هذه الفضيحة أن الوزير المكلف الإشراف على الميزانية العامة ومحاسبة المتهربين من دفع الضرائب الذي يضرب بسيف الدولة هو نفسه متهرب من الضرائب ويمتلك حسابات سرية في مصارف جنيف وسنغافورة. وكان واضحا أن اليمين جاهز لاستغلال كل الفرص للتصويب على الحكومة وعلى هولاند تحديدا. وذهب رئيس حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية اليميني جان فرنسوا كوبيه إلى القول، في مقابلة تنشر اليوم الخميس في مجلة «فالور أكتويل» (القيم المعاصرة): «السؤال المطروح اليوم يدور حول معرفة ما إذا كان فرنسوا هولاند قادرا فعلا على قيادة فرنسا».

قبل أيام معدودة على إطفاء شمعة العهد الأولى، رد هولاند، في لقاء مع وكالات أنباء دولية، على الانتقادات التي تستهدفه وذكر بـ«الإرث» الذي وصله من حكومات اليمين المتعاقبة كما دافع عما حققه خلال الأشهر الـ12 المنصرمة. والأهم من ذلك أن أكد «صموده» في الطريق التي اختطها والخيارات التي توجب عليه تبنيها معتبرا أن واجب رئيس الجمهورية هو «تحمل المسؤولية» في فترة استثنائية من عمر فرنسا. وللذين يصفونه بأنه «متردد» و«ضعيف» و«عاجز عن الحسم» يذكر بقراره التدخل العسكري في مالي. وللذين يقولون إن الحكومة لم تنجز شيئا منذ وصولها، يسرد هولاند الإصلاحات التي أقرتها وآخرها السماح بالزواج للجميع بمن فيهم المثليين وقبلها إصلاح سوق العمل وإيجاد فرص عمل للشباب غير المؤهلين وإقرار قانون التقاعد في سن الستين للذين بدأوا العمل باكرا وخفض راتب الرئيس والوزراء وإيجاد مصرف الاستثمار العام ونزع عشرين مليار يورو عن عاتق المؤسسات. أما الإصلاحات القادمة فتتناول تحقيق الشفافية المالية للوزراء والنواب بفرض إعلان عن موجوداتهم وتقديم مشروع قانون بفرض ضريبة الـ75 في المائة وإصلاح النظام التعليمي وخلق 60 ألف وظيفة في قطاع التعليم الرسمي.

لكن إلى جانب الوعود التي تحققت، ثمة وعود بقيت حبرا على ورق منها على سبيل المثال إعطاء حق التصويت في الانتخابات المحلية لغير الفرنسيين. لكن أمام هولاند أربعة أعوام إضافية ليحقق الوعود التي قدمها للفرنسيين.

يردد هولاند أمام سائليه وأمام الفرنسيين أنه يريد أن يحاسب على النتائج التي يكون قد حققها خلال عهده. وحظه أنه لو خسر كل الانتخابات من اليوم وحتى العام 2017 فإن الدستور يمكنه من الاستمرار في منصبه. وأمل الرئيس الحالي أن يعود النمو إلى الاقتصاد وأن تنتهي مفاعيل الأزمة الاقتصادية وأن تنتعش سوق العمل ويشعر الفرنسيون بالتغير في قدراتهم الشرائية ويعود أملهم بالمستقبل. الفرنسيون منغلقون اليوم على مشكلاتهم الداخلية والسياسة الخارجية لا تثير اهتمامهم. ولعل أبرز دليل على ذلك أن حرب ساركوزي في ليبيا لم تحمه من الهزيمة، وحرب مالي لم توقف تدهور شعبية هولاند.