الثابت والمتحول لسياسة هولاند إزاء الشرق الأوسط بعد عام من رئاسته

مراوحة في الملف الفلسطيني وتشدد إزاء إيران وتذبذب في الموضوع السوري وسعي للتوازن في المغرب العربي

رئيس مجلس الدولة جان - مارك سوف يسلم التقرير السنوي إلى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في قصر الإليزيه أمس (إ.ب.أ)
TT

انقضى عام على انتخاب فرنسوا هولاند رئيسا للجمهورية الفرنسية. جاء حاملا حلم التغيير في الداخل والخارج، في سياساته الاقتصادية والاجتماعية كما في سياساته الخارجية. وبعد 12 شهرا على الممارسة الهولاندية، كيف تبدو صورة الدبلوماسية الفرنسية وسياسة باريس الخارجية إزاء العالم العربي وأزمات الشرق الأوسط؟ ما الثابت منها وما المتحول؟ ما الذي تميزت به أسلوبا ومضمونا إزاء ملفات المنطقة الساخنة التي تعيش تحولات «الربيع العربي»، والحرب في سوريا، وأزمة النووي الإيراني، وجمود ملف الشرق الأوسط، وإرهاب «القاعدة» في بلاد المغرب الإسلامي وتمدداته إلى مالي وبلدان الساحل؟

في 31 أكتوبر (تشرين الأول) من عام 2011، أصبحت فلسطين دولة كاملة العضوية في منظمة اليونيسكو للتربية والثقافة والعلوم. وفي شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، قبلت فلسطين دولة غير عضو في منظمة الأمم المتحدة. وفي المرتين، صوتت باريس لصالح فلسطين. المرة الأولى، كان الرئيس يمينيا، وفي المرة الثانية اشتراكيا، مما يدلل على ثبات السياسة الفرنسية تجاه ملف الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي الواقف مكانه من غير حراك منذ ثلاث سنوات على الأقل.

لا يبدو أن ثمة تبدلا في حركة الدبلوماسية الفرنسية إزاء الملف المذكور؛ فالموقف الفرنسي معروف: مطالبة بوقف الاستيطان، وإقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ومتواصلة جغرافيا على حدود عام 1967، وغيرها من المبادئ العامة أو محددات السلام مع الاستمرار في دعم السلطة الفلسطينية سياسيا وماديا على مستويين: ثنائي، وأوروبي. وفي الأشهر الأخيرة، بذلت جهود كانت باريس ولندن وبرلين محركها الأساسي لبلورة خطة سلام من أجل تحريك الوضع الراكد وحث الإدارة الأميركية على الانخراط مجددا في عملية السلام. لكن مصادر فرنسية قالت لـ«الشرق الأوسط» إن التحرك «جمد» بسبب طلب مباشر من وزير الخارجية الأميركي إلى نظيره الفرنسي لوران فابيوس خلال اجتماعهما الأخير في باريس حثه فيه على «عدم إزعاج» واشنطن وإعطائها مهلة شهرين للتحرك وإعادة دفع مفاوضات السلام وفق «خطة» يعكف الوزير كيري على بلورتها في الوقت الحاضر.

يقول دبلوماسي فرنسي سابق شغل مناصب مهمة في السنوات القليلة الماضية إن «عيب» الدبلوماسية الفرنسية أكان الحكم لليمين أم اليسار، أنها «تفصل» بين سياستها وصداقتها إزاء إسرائيل، وبين ما يمكن أن تقوم به إسرائيل إزاء الفلسطينيين. وعلى سبيل المثال، يذكر الدبلوماسي أن البلدان الأوروبية وفرنسا على رأسها يمكن أن تتخذ إجراءات عقابية بحق تل أبيب في موضوع الاستيطان أو تصدير منتجاتها إلى الأسواق الأوروبية. غير أنها حتى الآن لم تفعل تحت حجج مختلفة.

وكما في الملف الفلسطيني - الإسرائيلي، تتميز سياسة هولاند بالاستمرارية تجاه ملف الحرب في سوريا.. ففرنسا، في عهد ساركوزي، كانت أول من اعتبر الرئيس السوري فاقدا للشرعية وعليه التنحي. وفي السياق عينه، كان هولاند أول من اعترف بالائتلاف الوطني للمعارضة السورية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب السوري وأول من حثه على تشكيل حكومة انتقالية تعود إليها صلاحيات الدولة السورية. كذلك كان الرئيس الفرنسي أول زعيم غربي دعا إلى تسليح المعارضة السورية؛ لا بل ذهب إلى حد التلويح بتدابير «فردية» خارج الإجماع الأوروبي في حال تقاعس الاتحاد عن الإقدام على هذه الخطوة التي تعتبرها باريس السبيل الوحيد لإعادة التوازن الميداني وحمل النظام السوري على القبول بتسوية سياسية ولكن من غير الأسد. يروي الوزير فابيوس أن نظيره الروسي سيرغي لافروف كان متفاهما مع بقية وزراء الخارجية على تفسير بيان جنيف الصادر في يونيو (حزيران) من العام الماضي حول معنى العملية السياسية التي يفترض أن تتم من غير الأسد. غير أن لافروف خرج للاتصال بموسكو وتحديدا بالرئيس بوتين ليعود بعدها ويؤكد أن لا إبعاد للأسد عن العملية السياسية. واليوم، ما زال الخلاف يدور حول النقطة نفسها.

تقول مصادر سياسية فرنسية إن مشكلة باريس أن لديها «كثيرا من الأفكار والمشاريع، لكن أدوات تنفيذها غائبة».. فقد اقترحت ممرات إنسانية ولم تتحقق كما ارتأت مناطق حماية للاجئين السوريين. وبقيت الفكرة حبرا على ورق. والآن يبدو أنها تراجعت عن استعجالها تسليح المعارضة السورية بسبب انقسام المعارضين وبروز «جبهة النصرة» وإعلان ولائها لزعيم «القاعدة» أيمن الظواهري، ولمخاوفها من ذهاب السلاح إلى «الأيدي الخطأ»، خصوصا لغياب الضمانات «المطلقة» التي أخذت تطالب بها والتي لا يبدو أن أحدا في المعارضة قادر على توفيرها بهذا الشكل.

وفي الملف النووي الإيراني، تستمر باريس على نهجها المتشدد، وهي السياسة التي دشنها ساركوزي. غير أنه «شخصن» الخلاف مع إيران عندما أعلن أكثر من مرة أنه «لن يصافح» الرئيس الإيراني لأنه أعلن عن عزمه على «إلغاء إسرائيل من الخارطة». وذهب ساركوزي إلى تأكيد أن برنامج إيران النووي عسكري الهدف، وأنه «لا يمكن السماح» لإيران بامتلاك القنبلة النووية. ولتحاشي الاختيار بين إيران نووية وضربة عسكرية إسرائيلية، حثت فرنسا على تشديد العقوبات المالية والاقتصادية والنفطية لدفعها إلى طاولة التفاوض. عند اندلاع أحداث «الربيع العربي» عانت السياسة الفرنسية من بعض «التعثر» إن في تونس أو في مصر. وحاول ساركوزي «استلحاق» الوقت الضائع في ليبيا من خلال الدفع باتجاه التدخل العسكري لإسقاط نظام العقيد القذافي رغم ما كان يجمعه بالنظام الليبي والخدمات التي قدمها له الأخير. لكن السؤال الذي سعت باريس لبلورة «خريطة طريق» للتعامل معه يتناول كيفية التعاطي مع الإسلام السياسي. والخلاصة التي توصلت إليها هي استعدادها للعمل والتعاون والدفع باتجاه قيام شراكة استراتيجية مع الدول المتحولة للديمقراطية على مستوى مجموعة الثماني للدول الأكثر تصنيعا، الأمر الذي ترجم بـ«شراكة دوفيل» لعام 2012.

حتى الآن، زار هولاند أربعة بلدان عربية هي: لبنان والسعودية والجزائر والمغرب، وهو يخطط للعودة إلى السعودية في الأسابيع المقبلة، والذهاب إلى تونس على الأرجح في يوليو (تموز) المقبل. ويسعى الرئيس الفرنسي لعلاقات أوثق لبلاده مع بلدان الخليج لاعتبارات استراتيجية وسياسية، وخصوصا اقتصادية. وفي الوقت عينه، يبحث عن علاقات متوازنة مع بلدان المغرب العربي بالتقارب مع الجزائر دون المساس بالعلاقات «الاستثنائية» مع المغرب.

يقول خصوم الرئيس الفرنسي إنه «متردد وعاجز عن الحسم». لكن حربه في مالي التي دخلتها فرنسا وحدها أثبتت أنه جاهز لاتخاذ القرارات الصعبة في الأوقات الحرجة.