سباق بنغلاديش لإنقاذ حياة شاهينة

بارقة أمل أخيرة بعد أكثر من 100 ساعة تحت الأنقاض

صورة شاهينة عاملة مصنع ملابس التي ظلت تحت الأنقاض لأكثر من مائة ساعة («نيويورك تايمز»)
TT

اكتشفها رجال الإنقاذ من خلال صوت بعيد واهن. كانوا قد أمضوا أربعة أيام في التقدم ببطء عبر حطام مبنى «رانا بلازا»، منقبين في أطنان من الإسمنت والفولاذ سعيا لإنقاذ حياة مئات البشر. الآن، لم يعد متبقيا سوى جثث الضحايا، باستثناء سيدة وحيدة، عاملة في مصنع ملابس.

كانت محشورة خلف عمود منهار، في صدع خانق قد يبلغ ارتفاعه قدمين. في البداية، لم يستطع رجال الإنقاذ رؤية أي شيء سوى أطراف أصابعها تتشبث بفتحة صغيرة. وبعد ساعات من كسر فتحة صغيرة، تمكنوا من إبصار وجهها. كان اسمها شاهينة وعمرها 32 عاما. وتوسلت إليهم أن ترى ابنها الصغير.

منحت قصة شاهينة، التي تضمنت عملية إنقاذ بطولية وإن كانت مشؤومة، آخر بصيص من الأمل في إمكانية العثور على أي شخص حي وسط ضحايا ما يعتبر الآن أكثر الحوادث المفجعة في تاريخ صناعة الملابس. على مدى ساعات في يوم 28 أبريل (نيسان) ، مع بث مراسلي المحطات التلفزيونية آخر أخبار الحادث المفجع، بات إنقاذ شاهينة أولوية وطنية. كانت لتظل مدفونة تحت الأنقاض لما يزيد عن 100 ساعة.

لقد حظيت محنتها بقدر هائل من الاهتمام بسبب الرعب الذي بثه حادث انهيار المبنى في النفوس، مع زيادة عدد القتلى يوم الأحد عن 600 قتيل؛ ودراما جهود الإنقاذ التي استمرت لفترة طويلة؛ إضافة إلى الرغبة الإنسانية في إيجاد سبيل لإنقاذ أرواح في خضم هذه المأساة المفجعة. غير أن الاهتمام كان أيضا غريبا عن المألوف؛ فهناك ما يربو على 2.5 مليون سيدة تعمل في صناعة الملابس في بنغلاديش واللائي عادة ما لا تحظى حياتهن سوى بقدر ضئيل جدا من الاهتمام، مع أنهن يمثلن عماد الاقتصاد الوطني.

بالنسبة لسيدات على شاكلة شاهينة، كانت صناعة الملابس بمثابة مصدر تمكين، إضافة إلى كونها مصدر استغلال. ففيما مضى، كان عدد قليل من النساء الريفيات هن من يعملن خارج الحقول في بنغلاديش، التي تعتبر دولة غالبية سكانها من المسلمين. ولا تزال كثيرات، مثل شاهينة، يحرمن من الحصول على لقب عند الميلاد. أما الآن، فقد أعطت الصناعة سيدات كثيرات خطوة أولى للتغلب على العوز في الريف، إذ أصبح بعضهن قيادات عمالية يتحدثن بكل جرأة أو مديرات في مصانعهن.

غير أنه في الأغلب تنطوي أية وظيفة في مصنع على صراع يومي من أجل العيش برواتب متدنية ينفقنها على الإيجارات الآخذة في الارتفاع وتكاليف المعيشة. وقبل يوم من انهيار مصنع «رانا بلازا» في يوم 24 أبريل ، تم إغلاق المصانع الخمسة التي يضمها المبنى بشكل مؤقت لدى اكتشاف تصدعات في الهيكل. غير أن أقارب شاهينة يقولون إنها أصرت على العودة إلى العمل في مصنعها، «فانتوم تك»، حتى مع تحذير زوج أختها إياها من احتمال ألا يكون المبنى آمنا.

قالت شاهينة في ظهيرة ذلك اليوم، حسبما تروي أختها ياسمين أختار: «إذا لم أذهب للعمل غدا، سيتم تسجيل غيابي ولن أتقاضى راتبا عن ذلك اليوم». وأضافت: «قد يؤجلون راتبي الشهري وأنا أحتاج لدفع الإيجار وشراء لبن لابني».

كان همها الأساسي هو كسب مبلغ 25 دولارا. لقد عاشت هي وابنها مع أسرة شقيقتها في منطقة تعرف باسم موجيدبور. وكانوا سبعة أفراد يتقاسمون غرفتين صغيرتين بإيجار شهري قيمته 56 دولارا.

وحتى ذلك المبلغ كان باهظا جدا، ومن ثم عثرت الأسرة على مكان سعره 38 دولارا شهريا. انتقل إليه جميع أفراد الأسرة باستثناء شاهينة؛ فقد كانت لا تزال بحاجة إلى مبلغ 25 دولار لدفع حصتها من المقدم.

وأشارت أسرة شاهينة إلى أن عملها قد منحها شعورا بالاستقلالية. لقد منحت نفسها لقبا، مماثلا للقب أختها. يذكر أن شاهينة قد تركت زوجها وقتما كانت حاملا في الشهر الثالث بابنها روبين، نظرا لأنه أساء معاملتها، بحسب أسرتها. غير أن ذلك اقتضى أن تصبح الآن العائل الوحيد لأسرتها، في الوقت الذي تحصل فيه بالكاد على 100 دولار شهريا بعد عملها في المصانع منذ 10 سنوات.

تسترجع شقيقتها قائلة: «كانت تعمل لليال كثيرة حتى منتصف الليل. فقد كانت في أمس الحاجة للمال».

لم تكد نوبة العمل الصباحية تبدأ داخل «رانا بلازا» يوم 24 أبريل حتى بدأ المبنى في الانهيار. وفي اليوم السابق، كان مهندس قد قام بفحص التصدعات وشدد على ضرورة إغلاق المبنى، غير أن مالك المبنى، سهيل رانا، ومديري المصنع ضربوا بتحذيره عرض الحائط وقاموا بفتح المصنع في ذلك الصباح. حينها، انهارت أرضيات المصنع بالكامل، متسببة في سقوط ألواح إسمنتية. لقي بعض الأشخاص حتفهم على الفور، فيما بترت أيدي أو أرجل آخرين أثناء إنقاذهم أو بعد ذلك. كذلك، دفن المئات أحياء، يائسين من إمكانية الحصول على ماء في درجات الحرارة الخانقة وأيضا من النجاة. قاد خاندوكر جليل، وهو ضابط رفيع المستوى بخدمة إطفاء الحرائق في بنغلاديش أحد فرق الإنقاذ. ولكي تتمكن تلك الفرق من الوصول إلى الناجين، قامت بشق حفر في السقف المنهار وبدأت في اختراق الأنقاض، بإنشاء أنفاق والانزلاق عبر المساحات الضيقة التي أنتجتها اللفافات الضخمة من النسيج التي اعترضت الألواح المنهارة.

وفي وقت متأخر من يوم 26 أبريل ، وهو ثالث يوم من أيام البحث، اكتشف فريق الضابط جليل 13 شخصا حيا، إضافة إلى تردد بعض الأصوات. يسترجع قائلا: «سمعنا أصوات بعض الأشخاص من الجانب الآخر».

وطوال أكثر من يوم، استمروا في البحث عن مصدر تلك الأصوات، من خلال الانزلاق عبر الممرات الضيقة وشق حفر. في النهاية، وصلوا إلى مساحة ارتفاعها لا يزيد عن 18 بوصة، وكان صدى الأصوات أكثر حدة.

يسترجع أبو يوسف، أحد رجال الإطفاء، قائلا: «سألت: كم عددكم؟»، فأجابت السيدة: «هناك أربعة منا». قام رجل إطفاء آخر بإنارة مصباحه اليدوي أسفل فتحات صغيرة تحت اللوح الإسمنتي. وتوجه بسؤاله قائلا: «هل تبصرون ضوءا؟» وجاءت الإجابة بالنفي. وظل يكرر السؤال، إلى أن جاءه رد قاطع بالإيجاب. قاموا بتمرير سلك عبر التصدع الصغير بالأسفل. وقامت شاهينة بسحبه.

كان ذلك في وقت مبكر من ظهيرة يوم 27 أبريل. بالخارج، كان المسؤولون يجهزون معدات ثقيلة لرفع الأنقاض والوصول إلى بقية الجثث. لقد بحثت أسرة شاهينة عنها منذ انهيار المبنى، لكنها لم تعثر على أي أثر لها على مدى أربعة أيام. بعدها، سمع الجيران أخبارا تبث على شاشة التلفزيون وقاموا بالاتصال بالأسرة.

يقول والدها، عبد المطلب غولدر، 72 عاما: «سمعنا أن رجال الإنقاذ يحاولون انتشالها. قالوا إن شاهينة تتمسك برمق الحياة الأخير».

ساهم ذو الفقار علي مانيك في كتابة التقرير.

* «نيويورك تايمز»