أميركا عاجزة عن فهم ما يدور داخل كوريا الشمالية بدقة

أوباما ونظيرته الكورية الجنوبية يجريان أول محادثات بينهما في البيت الأبيض

TT

يزداد الثقب الأسود في عملية جمع المعلومات الاستخباراتية عن كوريا الشمالية سوادا. التقى الرئيس الأميركي باراك أوباما مع الرئيسة الجديدة لكوريا الجنوبية، بارك غيون - هاي، مساء أمس في البيت الأبيض، للمرة الأولى، وأجريا، وفق ما أفاد مسؤولون مسبقا، مباحثات من منطلق فهم غير مكتمل لعدوهما المشترك.

وفي وقت تعلمت فيه الولايات المتحدة كيفية شن هجمات بطائرات من دون طيار بدقة متزايدة في باكستان، وتوجيه أسلحة إلكترونية مباشرة صوب محطات طرد مركزي نووية بعينها في أعماق الصحراء الإيرانية، تراجع فهمها لقيادة كوريا الشمالية وأنظمة أسلحتها بشكل بالغ السوء. وتضمنت آخر أوجه إخفاق الاستخبارات ما يقر مسؤولو الإدارة الأميركية الآن بأنه الحكم الأولي من جانب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية - الذي انقلب رأسا على عقب الآن - بأن القائد الشاب الجديد لكوريا الشمالية، كيم جونغ أون، ربما يكون أكثر اهتماما بالإصلاح الاقتصادي من انتهاج سياسة والده وجده «الجيش أولا» التي تقوم على دعم ترسانة الصواريخ والأسلحة النووية لكوريا الشمالية، والتهديد باستخدامها، ما لم يطرق العالم بابه.

وفي الوقت نفسه، تطورت قدرة كوريا الشمالية على إخفاء حقائق هامة بشأن إمكانات أسلحتها. وبعد نحو ثلاثة أشهر من تسبب ثالث تجربة نووية لكوريا الشمالية في تصعيد التوتر في شبه الجزيرة الكورية، ما زالت الولايات المتحدة عاجزة عن الإجابة عن أكثر التساؤلات الملحة المتعلقة بالانفجار: ما إذا كانت الدولة قد توصلت إلى طريقة لتخصيب اليورانيوم وتسريع عملية بناء ترسانتها النووية بشكل هائل. لقد تمكنت كوريا الشمالية من احتواء الغازات الدالة على تلك الجهود التي كانت لتقدم الإجابة، معرقلة الجهود الأميركية الرامية لاكتشاف الأدلة من أجهزة استشعار القوات الجوية التي تحلق على طول ساحل كوريا الشمالية.

ومنذ ذلك الحين، ظهرت أنظمة صاروخية متنقلة جديدة، ثم تم إبعادها عن مجال رؤية الأقمار الصناعية الخاصة بالتجسس، حيث غادرت مواقعها، بحيث لا تدل على قدرتها على الوصول إلى غوام أو الساحل الغربي للولايات المتحدة. وأشار مسؤولون أميركيون أول من أمس إلى أن صاروخين اعتقدوا في البداية أن كوريا الشمالية قد تطلقهما بشكل فوري، قد تم نقلهما من مواقع الإطلاق، ربما في إشارة إلى أن كوريا الشمالية، حتى الآن على الأقل، ترغب في وقف التصعيد.

وفي إشارة إلى استمرار حالة الحيرة والارتباك، أعلنت وكالة استخبارات الدفاع - الذراع الاستخباراتية للبنتاغون - مؤخرا بـ«قدر معتدل من الثقة» أن بإمكان كوريا الشمالية الآن تقليص حجم رأس حربية نووية لتركيبها في أحد تلك الصواريخ، لتجد تقييمها يتم دحضه علنا من قبل كل من الرئيس أوباما ومدير الاستخبارات الوطنية.

«نحن نفتقر إلى رأي موحد حول تقييم عدة أمور في كوريا الشمالية»، هذا ما صرح به مدير الاستخبارات الوطنية، جيمس روبرت كلابر، أمام الكونغرس في إشارة واضحة لأوجه الاختلاف داخل الهيئات الاستخباراتية. وأضاف: «وليست إمكاناتها النووية الفعلية استثناء من ذلك».

تجلى العجز الشديد من جانب الولايات المتحدة عن اكتشاف ما يحدث في كوريا الشمالية يوم الخميس من خلال تقرير صادر عن البنتاغون رفعت عنه السرية تم تقديمه إلى الكونغرس عن الإمكانات العسكرية لكوريا الشمالية، الذي يبدو كما لو كان قد كتب في أواخر الثمانينات من القرن العشرين. فضلا عن ذلك، فإنه يثير، ضمنيا، قدرا هائلا من الشك في احتمال أن تجدي العودة إلى المفاوضات نفعا. وخلص التقرير إلى أنه: «من وجهة نظر كوريا الشمالية، لم تكن الإطاحة بأنظمة مثل نظام تشاوشيسكو وصدام حسين والقذافي نتيجة محتومة لنظام قمعي، وإنما لعجز عن توفير الإمكانات الضرورية اللازمة للدفاع عن بقاء أنظمتهم الاستبدادية».

لكن مصدر القلق الأكثر وضوحا هو احتمال أن يتبع كيم جونغ أون قواعد اللعبة الأخيرة لكوريا الشمالية ويلوح بعمل استفزازي آخر - أقرب لإغراق سفينة تابعة للأسطول البحري لكوريا الجنوبية في عام 2010 أو أحدث هجوم إلكتروني على بنوك وشركات إعلامية في كوريا الجنوبية. تطلب الأمر إجراء تحقيق استمر على مدى أسابيع قبل أن تتمكن كوريا الجنوبية من إلقاء اللوم على كوريا الشمالية فيما يتعلق بتلك الاستفزازات السابقة.

وعلى نحو أوسع نطاقا، تثير الزلات تساؤلا حول السبب في أنه، بعد مضي 63 عاما على اندلاع الحرب الكورية - التي تعتبر في حد ذاتها خطوة لم تتوقع الولايات المتحدة حدوثها، أدى جمع معلومات عن كوريا الشمالية، بحسب مصدر قريب من الاستخبارات، إلى «جعل سوريا وإيران تظهران ككتاب مفتوح».

في الوقت نفسه، كثف كيم الجهود الرامية لجمع معلومات عن كوريا الجنوبية، مثلما تجلى في آخر اعتقال تم في سيول لجاسوس كوري شمالي ادعى أنه منشق إلى كوريا الجنوبية.

دائما ما كانت كوريا الشمالية أصعب الأهداف، غير أن صعوبات اكتشاف ما يحدث الآن تتنوع ما بين القديمة والحديثة. لطالما كانت كوريا الشمالية بين أكثر الدول البوليسية وحشية في العالم. ويقول مسؤول استخباراتي أميركي: «إنها على درجة من البراعة الشديدة في اكتشاف الجواسيس وتصفيتهم بسرعة». ومن ثم، واجهت أجهزة الاستخبارات الكورية الجنوبية صعوبة جمة في زرع عملاء. إن سفر شخص غريب إلى كوريا الشمالية، الدولة التي تضم عددا هائلا من نقاط التفتيش وقليلا من السيارات وكثيرا من المخبرين بأحيائها، دون أن يتم اكتشافه، يعد مهمة شبه مستحيلة. وعلاوة على ذلك، فإن هذا الأسلوب الذي قد أفاد بدرجة هائلة في حالة إيران - التي تقوم بتجنيد علماء وغيرهم في مؤتمرات دولية - يستحيل تطبيقه على كوريا الشمالية، التي قلما يسافر مسؤولوها. وحينما يجازفون بالسفر للخارج، يكون هناك مسؤولون سياسيون وغيرهم ممن يتولون مهمة مراقبة أفعالهم وأقوالهم.

بل إن أضخم إنجاز محتمل - وصول شبكات الهواتف الجوالة - لم يستفد منه القائمون بجمع الاستخبارات بدرجة كبيرة.

كذلك، فإن الأسلوب الذي تم توظيفه بدرجة عالية من الكفاءة فيما يتعلق بالشأن الإيراني حتى عام 2010 - التجسس الإلكتروني، وفي النهاية شن هجوم على أجهزة الطرد المركزي التي تدير مركز تخصيب اليورانيوم النووي خاصتها الكائن في ناتانز - لم يثبت جدواه في كوريا الشمالية. فاستخدام أجهزة الكومبيوتر محدود هناك - كما هو الحال بالنسبة للدخول على شبكة الإنترنت - إلى حد أن الميزة التكنولوجية التي تتمتع بها أميركا لم تثمر سوى عن نتائج محدودة، بحسب مسؤولين مطلعين.

في الوقت نفسه، أصبحت كوريا الشمالية أكثر مهارة في شن الهجمات الإلكترونية - بعضها عبر الصين - على بنوك ومحطات تلفزيونية كورية جنوبية، بما فيها سلسلة اختراقات مدمرة في مارس (آذار). غير أن لب ضعف الاستخبارات يتمثل في كيم، الذي يعتقد أنه في أواخر العشرينات من عمره. ويؤكد الصينيون، الذين كانوا يدعون والده، كيم جونغ إيل، إلى بكين بشكل متكرر للتشاور معه أو إغداق المديح عليه أو تقريعه في بعض الأحيان، أنهم لم يلتقوا به سوى عدد محدود من المرات. ويعتبر الأميركي الوحيد الذي تعامل معه هو دينيس رودمان، نجم كرة السلة السابق، الذي أذيع أن مكتب التحقيقات الفيدرالي قد استجوبه عقب عودته من رحلة قام بها مؤخرا إلى كوريا الشمالية.

في واقع الأمر، توجد نظرية سائدة في كوريا الجنوبية مفادها أنه خلف مظهره الطفولي البريء وابتسامته العفوية تكمن شخصية مكيافيلية ترتعد أمامها فرائص أعلى الجنرالات مقاما وقادة الحزب فزعا، وتراهن على أن بمقدوره حمل واشنطن على قبول كوريا الشمالية كقوة نووية.

لقد دهش مسؤولون كوريون جنوبيون من توصلهم في الأشهر الأخيرة لحقيقة أنه على الرغم من صغر سن كيم وقلة خبرته، فإن حكومته وحزبه يسيطران على الجيش، الذي اعتبره كثيرون على درجة هائلة من النفوذ والفساد بحيث يصعب حدوث ذلك. وبحسب بعض الروايات، تم خفض رتبة ثلثي الجنرالات رفيعي المستوى بكوريا الشمالية أو استبدال آخرين بهم أو تعيينهم في وظائف أقل تأثيرا؛ فيما تم نفي عدد قليل منهم من قبل القائد الجديد. وتعين عليهم جميعا توقيع خطابات ولاء.

غير أن الرؤية القائلة إن كيم أصبح يتمتع بدرجة نفوذ والده ليست محل اتفاق من الجميع. ويقول صانع قرارات سياسية كوري جنوبي رفيع المستوى: «من يضطلع بالمسؤولية في كوريا الشمالية؟ يصعب تحديد ذلك. ما درجة قوة كيم جونغ أون؟ نحن لا نعرف على وجه التحديد. من يملي الأوامر في بيونغ يانغ؟ من الواضح أنه كيم جونغ أون، لكننا لسنا متيقنين من عملية صنع القرار بالدائرة المقربة منه».