فرص حل النزاع التركي ـ الكردي ترتفع بعد تلاقي «الرغبات والمصالح»

الجيش التركي «ينام» عند الحدود.. والاستخبارات ساهرة

TT

بدءا من فجر اليوم، سوف «ينام» الجيش التركي لـ3 ساعات بين الواحدة والرابعة صباحا، لإفساح المجال أمام انسحاب المقاتلين الأكراد بسلاحهم إلى خارج الحدود مدشنين أول محاولة جدية لإنهاء صراع دموي مستمر منذ مطلع الثمانينات من القرن الماضي، كلف الأتراك والأكراد 50 ألف قتيل و500 مليار دولار كان يمكن لها أن تحول مناطق الجنوب التركي الفقيرة حيث يتجمع الأكراد إلى مناطق مزدهرة، بدلا من الوضع الحالي الذي يعتبر الأسوأ بكل المقاييس الإنمائية والسياسية والأمنية في البلاد.

ووفقا لاتفاق سري موقع بين زعيم تنظيم حزب العمال الكردستاني والاستخبارات التركية، فإن الجيش التركي سوف يقفل كل أجهزة الرؤية الليلية في مناطق حدودية معينة بين الواحدة والرابعة فجرا، لتجنب أي اتصال مباشر مع المتمردين المنسحبين، فيما ستبقى عيون الاستخبارات ساهرة لتجنب أي تعقيدات قد تطيح بخطة الحل. فالجيش التركي لا يمكنه إلا أن يوقف أي مسلح يضبطه في ضوء عدم وجود اتفاق موقع ومكتوب مع الحكومة التركية، أما الاستخبارات فهي ستكون المشرفة على الانسحاب.

وستمثل الـ600 كيلومتر التي سوف يعبرها مسلحو الكردستاني بداية الحل للأزمة الكردية التي اندلعت منذ إعلان الجمهورية التركية، حيث شعر الأكراد الذين قاتلوا إلى جانب مصطفى كمال باشا (أتاتورك) بالخيبة جراء عدم تبنيه مطلبهم بإقامة دولة خاصة بهم، ثم ما لبث أن انفجر الوضع عام 1983 بإعلان عبد الله أوجلان العصيان المسلح. ورغم أن محاولات عديدة كانت قد جرت في السابق لحل الأزمة، فإنها باءت جميعها بالفشل، ويحلو للسياسيين الأكراد، ولقادة حزب العدالة والتنمية، إلقاء اللوم في ذلك على النظام العسكري الحاكم آنذاك، حيث كانت للجيش اليد الطولى في سياسات البلاد قبل وصول حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى السلطة.

لكن الصورة هذه المرة تبدو مختلفة، فالطرفان جاهزان على ما يبدو للحل، وللمرة الأولى تتلاقى الإرادتان التركية والكردية على إعطاء فرصة حقيقية للحل. فالأكراد قد تعبوا على ما يبدو من الصراع العسكري ومن الحروب التي ذهبت بعشرات آلاف الضحايا، كما أن مناطقهم دفعت الثمن إنمائيا حتى باتت إسطنبول تحتضن أكبر تجمع كردي في العالم لهجرة سكان الجنوب إليها بحثا عن فرص العمل.

وفي المقابل، منحت حكومات العدالة والتنمية المتتالية الأكراد الأمل بحل ما، رغم استمرارها في «النهج الأمني» في التعاطي مع الملف الكردي كما دأبت الحكومات السابقة بضغط من العسكريين ومن القوميين المتطرفين الذي كانوا يرفضون حتى مجرد الاعتراف بحق وجود الأكراد في تركيا، فتركيا لا تحتوي في نظرهم إلا على الأكراد، وقد نالوا نتيجة ذلك ما نالته الأقليات الأخرى من منع لإحياء مناسباتها القومية، ومنعوا من تعلم لغتهم الأم في المدارس، وحرموا من إحياء تراثهم الفني، وتعليم تاريخهم.

وشهد الملف الكردي منذ وصول الحزب الحاكم انفراجات، حيث تم تخفيف القيود الثقافية، وبات الأكراد قادرون على إحياء عيد النوروز في إسطنبول وغيرها من المدن التركية الكبرى، بالإضافة إلى احتفالهم الكبير في ديار بكر. غير أن العائق الأبرز لا يزال الاعتراف بقوميتهم، ذلك أن الدستور التركي يقيد حق الأكراد وغيرهم بهذا الخصوص، فسكان تركيا هم الأتراك، وإذا لم يكن المرء تركيا فهو ليس مواطنا. وهذا الأمر من شأنه أن يتغير، فمن ضمن الاتفاق المعقود مع «الكردستاني» قيام البرلمان التركي بتعديل الدستور لإقرار «تعريف» مختلف للمواطن التركي، ليصبح «مواطنا في الجمهورية التركية»، أما الاستقلال فقد تخلى عنه الأكراد، وهم تخلوا حتى عن مطلب الحكم الذاتي فحولوه إلى «الحكم الذاتي الديمقراطي» أي تقوية المجالس المحلية وإعطاءها صلاحيات تقريرية أكبر.

وفي المقابل، تبدو تركيا عازمة على الحل هذه المرة، فحزب العدالة والتنمية الحاكم يمتلك رؤية آيديولوجية مختلفة عن النظرة القومية المتطرفة للنظام العسكري السابق، والدليل على ذلك أن هذا الحزب يحصل في داخل إقليم الجنوب ذي الغالبية الكردية على نسبة أصوات تفوق تلك التي يأخذها الجناح السياسي للكردستاني. فالحزب ذو «الجذور الإسلامية» بات قادرا على مخاطبة الشارع الكردي بلهجة مختلفة عن اللهجة السابقة. ويؤكد المراقبون أن إنهاء الصراع مع الأكراد بات يمثل «أولوية» في السياسات التركية، خصوصا بعد اندلاع النزاع في سوريا والتقارب الكبير الذي شهدته العلاقة بين «الكردستاني» والنظام السوري الذي غازل الأكراد بإخلاء مناطقهم في سوريا ومده «الكردستاني» بالسلاح. أما العامل الثاني فهو أن أنقرة تريد أن تتخلص من العبء الاقتصادي والإنساني الذي يمثله هذا الصراع، من أجل الانطلاق نحو «تركيا المستقبل» لأنها تريد أن يكون اقتصادها بين الاقتصادات العشرة الأولى عالميا، فيما أن «العسكرة» في هذه المناطق تنهكها وتمنعها من استثمار قدراتها. أما العامل الثالث فهو رغبة شخصية عند رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الذي يطمح إلى تحقيق إنجاز أقل ما يمكن وصفه بأنه «تاريخي» يمكن أن يجعله من بين القادة التاريخيين في تركيا. أما العامل الرابع فهو أن أردوغان يرى في إصلاح العلاقة مع الأكراد مدخلا إلى تقوية نفوذ تركيا في المنطقة وتكريسها لاعبا سياسيا أساسيا فيها. فالعلاقة مع شمال العراق باتت مميزة إلى حد كبير جدا، ومن المعروف أن القيادة الكردستانية العراقية تلعب دورا مهما في تقريب وجهات النظر بين الطرفين. ومن شأن امتداد النفوذ التركي لدى الأكراد أن يجنب تركيا الضغوط التي مارستها بعض القوى عليها من خلال الملف الكردي، كما حصل في العام الأول من الأزمة السورية، عندما اشتعلت الجبهة الكردية وأزعجت تركيا كثيرا.

وإضافة إلى هذه العوامل، ثمة من يتحدث عن عامل خامس. فأردوغان يحتاج إلى أصوات الأكراد في البرلمان التركي لتمرير التعديل الدستوري. ذلك أن حزبه غير قادر وحده على إقرار مشروع الدستور الجديد الذي يعده، والذي يريد من خلاله تحويل النظام رئاسيا، ليترشح - كما يقال - إلى رئاسة الجمهورية في الانتخابات العام المقبل ويصبح رئيسا للبلاد بصلاحيات تنفيذية كبيرة. ويحتاج أردوغان إلى 367 صوتا في البرلمان لإقرار التعديل الدستوري، فيما لا يمتلك حزبه سوى 325 صوتا. ومن شأن انضمام أصوات الكتلة الكردية البالغة 36 نائبا إليه أن يرفع عدد الأصوات إلى 361 مما يجعله قاب قوسين من تحقيق مراده. أما في حال فشله فهو قادر بهذه الأصوات على تحويل مشروع الدستور إلى الاستفتاء العام حيث يحتاج إلى 330 صوتا لذلك، مما يمهد له الطريق إلى إقرار الدستور لثقته في قدرته الشعبية.

وفي المقابل، ثمة من يشكك في إمكانية الوصول إلى حل لفقدان الثقة بين الطرفين، ولوجود متضررين من الجانبين التركي والكردي من هذا الحل، كحال الحركة القومية التركية التي تعتبر أردوغان «خائنا» لمجرد التفكير في ذلك، ومن قبل قادة الحرب في الكردستاني الذين سيفقدون تأثيرهم في حال السلم. غير أن الطرفين لا يبدوان قادرين فعليا على منع الحل، إذا توافرت النية الحقيقية لدى الطرفين. كما أن فشل الحل من شأنه أن يحمل «الكوارث» إلى تركيا، فأوجلان هدد بطريقة غير مباشرة، بأن الفشل سيعني أن الدماء ستصل إلى الركب، نتيجة لانفجار الوضع بشكل كبير هذه المرة وفقدان الأمل في الحل السياسي.