الذكرى العاشرة لتفجيرات حمراء الرياض: كيف نجح تنظيم القاعدة في جعل جندياته سجينات «حقوق مدنية» لا قضايا أمنية؟

أم الرباب وأروى ونجوى.. وجوه نسائية سعودية قاعدية

تجمع لنساء يرفعن علم القاعدة
TT

قبل عشر سنوات من الآن، وتحديدا في 12 مايو (أيار) 2003، دوت انفجارات مفاجئة في شرق العاصمة السعودية (الرياض) وتبيّن بعد لحظات أن الهدف كان ثلاثة مجمعات سكنية، أشهرها مجمع حي الحمراء، يقطنها الكثير من العرب والغربيين وبعض السعوديين، لتحصد الانفجارات «الانتحارية» قتلى وجرحى، وليعلن تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» كما يطلق على نفسه، بداية الحرب العلنية بينه وبين السعودية والسعوديين.

هذه الأيام تمر الذكرى العاشرة لبداية الحرب العلنية في السعودية مع الإرهاب الديني. «الشرق الأوسط» تفتح ملفا تقلب فيه الذاكرة، وتقرأ الحاضر، وتحاول توقع المستقبل، عبر جملة من الأعمال الصحافية المتنوعة، بدايتها في موضوع حول سجينات «القاعدة» من النساء، ومجنداته الموجودات في الخارج، المرأة القاعدية بين خطاب الجهاد ولغة حقوق الإنسان. فإلى أولى قطاف الملف:

في سبتمبر (أيلول) 2004، أطلق تنظيم القاعدة في جزيرة العرب مجلة «الخنساء» لتكون ذراعه في التعامل مع النساء المؤيدات أو المنخرطات في العمل القاعدي. منذ ذلك الحين شكل العنصر النسائي حضورا مؤثرا في سير النشاط القاعدي، سواء على المستوى اللوجيستي، أو على المستوى الدعائي والتحريضي، أو حتى المستوى العملي والتنفيذي. لكن لم يبرز دور النساء بشكل مؤثر في نشاطات الجماعات الإرهابية، ولم تبرز أسماؤهن بشكل صريح إلا منذ نحو السنتين، وكانت أسماء مثل هيلة القصير، ووفاء الشهري، وأروى بغدادي، هي الأكثر ترددا في بعض الأحيان من الأسماء الرجالية في التنظيم.

هذا عن جماعات «القاعدة»، لكن الأمر لم يقتصر على الجماعات «الجهادية» في توظيف النساء، بل تجاوزه إلى الجماعات «المحتسبة»، والتي تشكل في بعض نشاطاتها، وتحشيداتها، نوعا من السند الشعبي حتى لرموز العمل القاعدي، كما حصل في التعبئة العامة على مواقع التواصل الاجتماعي وحتى في الشوارع، مع مسجونات على ذمة قضايا «القاعدة» في السعودية، مثل هيلة القصير، وأروى بغدادي، قبل أن تفر الأخيرة إلى اليمن لتنضم إلى بقية عناصر «القاعدة» هناك بقيادة اليمني ناصر الوحيشي (أبو بصير) والسعودي سعيد الشهري (أبو سفيان الأزدي)، ملبية بذلك نداء السعودية..

وفرت قبلها إلى اليمن وفاء الشهري، التي أطلقت نداء عبر مؤسسة «صدى الملاحم» التابعة لـ«القاعدة» في مايو (أيار) 2010 لنساء «القاعدة» في السعودية محرضة لهن على الهرب إلى اليمن طلبا للأنس مع أزواجهن، عندما وجهت مقالة نشرتها مجلة «صدى الملاحم»، نداء إلى «نساء أرض الحرمين» قالت فيه «إذا عجز الرجال عن الدفاع عنكن والمحافظة عليكن، فتعالين إلى أسود المجاهدين في جزيرة العرب ليكرموكن، ويذودوا عنكن». والحق أن تنظيم القاعدة في السعودية ليس هو الوحيد الذي سن هذه الطريقة في استخدام النساء معه، بكل المجالات العملية واللوجيستية والدعائية، فقد سبقه إلى ذلك تنظيم القاعدة في العراق، بل ونفذ هذا الأمر بشكل متتابع ومنهجي. ففي نوفمبر (تشرين الثاني) 2005 تم تفجير فندق «غراند حياة» في العاصمة الأردنية عمان، من خلال مجموعة إرهابية، وتبين لاحقا أن العراقية ساجدة الريشاوي، المولودة في 1970، كانت ضالعة في الهجوم، وهي انتحارية من العراق؛ لكنها نجت عندما لم ينفجر حزامها.

وفي الوقت نفسه قتل 19 شخصا في ثلاث هجمات هزت بغداد نفذت إحداها انتحارية ترتدي حزاما ناسفا عند أحد مداخل المنطقة الخضراء المحصنة. ووفقا لما أعلنه اللواء قاسم عطا، الناطق الرسمي باسم خطة فرض القانون في بغداد، فإن منفذة العملية الانتحارية هي فتاة «مختلة عقليا» تم تفخيخها بحزام ناسف وجرى تفجيرها عن بعد بواسطة جهاز للتحكم.

وهذا ليس أول استخدام للمختلات عقليا، أو القاصرات في العمر، في عمليات انتحارية، ففي وقت سابق ذكرت الصحيفة الأميركية «واشنطن بوست» أنه طبقا لسجلات الجيش الأميركي فإن أصغر منفذة انتحارية في العراق سنا كانت تبلغ من العمر 13 عاما. وأضافت الصحيفة أنه منذ الغزو في عام 2003، نفذت 53 امرأة عراقية هجمات انتحارية أو ألقي القبض عليهن قبل تنفيذها، طبقا لبيانات الجيش الأميركي. وقتلن في هذه الهجمات ما يزيد على 370 شخصا، وجرحن 650 آخرين. وفي عام واحد فجرت 31 امرأة نفسها، 17 منهن في محافظة ديالى، شمال شرقي العاصمة بغداد.

وتكشف الصحيفة عن أنها أجرت لقاء، في قرية شرق الفلوجة «مع امرأة ملثمة وصفت نفسها بأنها قيادية في كتيبة نسيبة الأنصارية الاستشهادية (وهنا يحسن فتح قوس للإشارة إلى حرص هذه التيارات على تسمية تشكيلاتها النسائية، المقاتلة أو الداعمة للقتال، بأسماء نسائية تراثية لخلق مرجعية شرعية ونفسية للمجندات، مثل اسم: الخنساء، وأم عمارة، وخولة بنت الأزور.. إلخ). وتعرف الصحيفة هذه الجماعة بأنها «مرتبطة بتنظيم دولة العراق الإسلامية الذي يعمل تحت مظلة تنظيم القاعدة في العراق».

وفي الشيشان، جرى استخدام العنصر النسائي أيضا في المواجهات مع الحكومة الروسية، وكان من أشهر هذه العمليات الهجوم على مسرح موسكو في أكتوبر (تشرين الأول) 2002، وذكرت وكالات الأنباء ووسائل الإعلام، مثل «بي بي سي» أنه كان ضمن المهاجمين للمسرح ومن فيه من الرهائن، 18 امرأة شيشانية ضمن الـ50 عنصرا، وقد قتلن في مسرح قصر الثقافة. ونقلت الأنباء عن مصادر السلطة الروسية في الشيشان، في حينها، قولها إن كثيرا من النساء اللواتي شاركن في عملية الاختطاف تلك لسن شيشانيات، بل من منطقة الشرق الأوسط، وقد جرى تداول اسم خاص لتلك النسوة الشيشانيات المقاتلات، وهو «الأرامل السود» نظرا لكونهن يحملن حقدا شخصيا على الجانب الروسي، بسبب موت أزواجهن أو إخوانهن أو آبائهن، أو أبنائهن، على يد القوات الروسية في الحرب الشيشانية، وهو ما يسري ربما على نظيراتهن في العالم العربي، حيث نرى كثيرا من النساء الفاعلات في «القاعدة» على صلة قرابة مع عناصر رجالية أخرى في التنظيم، كما يتبين من حالة العراقية ساجدة الريشاوي، منفذة هجوم فندق عمان، والسعوديات أروى بغدادي وحنان سمكري ووفاء الشهري، وغيرهن.

يأتي توظيف النساء في العمل القاعدي أو حتى النشاط «الاحتسابي» المتزمت، بسبب حساسية وضع المرأة في المجتمع العربي، خصوصا في مجتمع مثل المجتمع السعودي، حيث تحاط المرأة بسياج من الوقار، الذي يصل إلى درجة من الغموض، ومحاولة تخليصها دوما من الإشكالات الأمنية والقانونية، مراعاة للتقاليد العامة، التي ترى في المرأة «حرمة» بالمعنى اللغوي لكلمة حرمة، مثل حرمة المال والأرض والعرض، فهي أمر يجب حمايته، والقتال دونه، وإبعاده عن الضوء العام، وقصر المسؤولية قدر المستطاع على العنصر الرجالي، وهو أمر يشكو منه الإعلام، ويشكو منه حتى رجال الأمن، بسبب تقييد حركتهم في التحقيق والاحتجاز والتتبع لعناصر خطرة من النساء، كما قال أحدهم لـ«الشرق الأوسط». لكن المفارقة، كما يذكر هذا الشخص، أن الأجهزة الأمنية الرسمية هي التي تراعي هذا الجانب، وتحاول إحاطة النساء بستار من حجب الأسماء وتضييع الهوية، ومحاولة الإسراع بتخليص القضية، لكن تنظيم القاعدة في السعودية هو من لا يجد غضاضة في ذكر الأسماء النسائية والفخر بهن كمجاهدات، ويكفي للبرهنة على ذلك أن أول من ذكر اسم «هيلة القصير» صراحة لم يكن بيانات الداخلية السعودية، بل بيان «القاعدة» من خلال سعيد الشهري في اليمن، ثم وفاء الشهري في مقالتها عنها، ثم مشعل الشدوخي، أحد عناصر «القاعدة» السعوديين في اليمن، الذين يقفون خلف عملية اختطاف الدبلوماسي السعودي عبد الله الخالدي في اليمن.

من هنا، من الخصوصية الثقافية لوضع المرأة في المجتمعات المسلمة المحافظة، كانت الثغرة الأمنية التي حاولت العناصر الإرهابية توظيفها لصالحها، وكثيرا ما كانت المداهمات لمواقع الجماعات الإرهابية تعثر على ملابس نسائية (عباءة، وغطاء وجه) يتنكر بها المنفذون الرجال التابعون للتنظيم، ومن ذلك عمليات اشتباك كثيرة، خصوصا على الحدود اليمنية، مع عناصر التنظيم، منهم من قتل فيها ومنهم لمن قبض عليه. ويبدو أن هذا الأمر صار سلوكا متبعا، لدى تيارات أخرى، فقد ذكرت مصادر من الجانب السعودي أن بعض عناصر ميليشيا الحوثي اليمنية استخدمت هذا التكنيك في مخادعة رجال حرس الحدود، كما ذكرت صحيفة «عكاظ» في تغطيتها لحرب جبل الدخان مع الحوثيين. وفي يناير (كانون الثاني) 2011، ذكر شاب سعودي اسمه هاني الملا كان من أعضاء التنظيم، وظهر على شاشة التلفزيون السعودي في برنامج «همومنا»، أنه بسبب محاصرة قوات الأمن السعودية لهم، والضربات الاستباقية للتنظيم، فقد تخلخلت مفاصل التنظيم داخل المملكة، وجعلت التنظيم يبدو أشبه ما يكون بالضياع، مبينا أن التضييق الأمني الشديد عليهم جعلهم يتخلون عن الكثير من الأدبيات التي لديهم، ولعل أبرزها التنكر بالأزياء النسائية، وهو أمر مخالف للدين والشريعة، لكنهم استندوا إلى قاعدة الغاية تبرر الوسيلة، كما يذكر الشاب هاني الملا.

وكان يوسف العييري، وهو أول وأخطر قائد لتنظيم القاعدة في السعودية (قتل في يونيو/ حزيران، 2003، في اشتباك مع قوات الشرطة بالقرب من مدينة حائل شمال وسط السعودية)، قد أشاد في رسالة بعنوان «دور النساء في جهاد الأعداء» بدور النساء في التنظيم، وقال «سبب مخاطبتنا في هذه الورقات للمرأة هو ما رأيناه من أن المرأة إذا اقتنعت بأمر كانت أعظم حافزا من الرجال لأدائه، وإذا عارضت أمرا كانت من أعظم الموانع له»، مستعرضا في رسالته سيرة الكثير من النساء اللاتي شاركن في القتال في أفغانستان. وكان أستاذ العييري، وهو أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة، الذي قتلته قوات أميركية خاصة في منزله السري في أبوت آباد، إحدى ضواحي إسلام آباد بباكستان (في مايو 2011) كان قد نوه بأهمية دور النساء، وكان كثيرا ما يتحدث عن مشاركتهن، خصوصا العربيات، في مرحلة «الجهاد الأفغاني»، وكثير ممن يتذكرون ويعون مرحلة التجييش العام في السعودية «للجهاد» في أفغانستان يتذكرون اصطحاب عدد من الشباب لأمهاتهم أو زوجاتهم في «سياحة جهادية» لأفغانستان.

* النساء و«القاعدة»

* دخول الإسلاميين، خصوصا السلفيين، وأخص منهم الجهاديين السلفيين، على خطاب حقوق الإنسان، ولغة المواثيق العالمية، هو دخول حديث، سبق لحظة الفوضى العربية، أو ما سمي بالربيع العربي، بقليل، وهو دخول يشوبه الكثير من الاستفادة اللحظية والسريعة، دون الالتزام بمضامين الفكر الذي بنيت عليه منظومة حقوق الإنسان، أي قطف ثمرة الخطاب الحقوقي، بمعنى فتح الحرية المطلقة لعمل الجماعات الأصولية في «الاحتساب» والوصاية، على المجتمع، من دون منح هذا الحق في التساوي في المزايا للآخر المختلف.

باندلاع ما سمي بالربيع العربي في ديسمبر (كانون الأول) 2010، ووصوله إلى الذروة في الثلث الأخير من 2011، وتبين أن الجماعات الإسلامية، وعلى رأسها «الإخوان المسلمون»، هم الطرف المستفيد من مغانم السلطة في الربيع العربي، و«الموضة» العالمية الغربية في التغني بالهبة الديمقراطية العربية، أو ربيع العرب، على غرار «ربيع براغ» الأوروبي، الذي كان للتحرر من الهيمنة السوفياتية الحمراء.. مع هذه المعطيات كلها لانت عريكة الإسلاميين الصقور تجاه فكرة الديمقراطية، لكن عند كثير منهم كآلية استخدامية، نفعية، عملية «تقدر بقدرها» كما تقول القاعدة المعروفة، ولا يتم الالتزام بمنح هذه الحقوق للغير. وقد تجلى هذا الموقف الرافض الحاسم للحل الديمقراطي - كحل نهائي، وأنه مجرد «ضرورة» مرحلية، ولا يجوز التوسع فيه، وأن الحل هو في تطبيق الشريعة فقط، حسب تصورهم - في كلام زعماء السلفيين وبعض وعاظ وخطباء اليمين الإخواني في مصر، مثل وجدي غنيم، ومحمد الظواهري، بل ووصل الحال مع مفتي جماعة الجهاد، السابق، الشيخ سيد عبد العزيز، أو الدكتور فضل كما هو مشهور، إلى «تكفير» النظام الحاكم الحالي في مصر، بقيادة القيادي الإخواني الرئيس محمد مرسي.

لعل خير معبر عن هذا التحول «العملي» الجديد لدى بقية الإسلاميين خارج مصر هو رمز بارز من نجوم «الصحوة» في السعودية، وهو د.ناصر العمر، حيث كتب العمر على موقعه (كما نقل، وشرح، عبد الله الرشيد في جريدة «الشرق الأوسط») مقالا في اليوم المقرر للتصويت على الدستور المصري 15 ديسمبر 2012، أكد فيه أن «الديمقراطية الغربية الليبرالية مناقضة لشريعة الإسلام، لكن البعض يتصور الحال في مصر، وكأن تطبيق الشريعة خيار متيسر فقط يحتاج من القوم دعوة الناس إليه، غافلا عن الكيد السياسي والإعلامي الذي يحرك دهماء الناس نحو قصر الرئاسة، وما يؤازره من مكر إقليمي ودولي». ويؤكد العمر أن «الكفر لا يجوز الإقدام عليه إلا في حال الإكراه، لكن الفقيه هو الذي يفرق بين المفسدتين بالدوس على أدناهما، مدركا أن الكف (عن التصويت) سيكون أشد أثرا في نصرة الباطل». ويلخص العمر الرؤية الصحوية «الاستخدامية» لآلية الديمقراطية ويقول بوضوح مذهل «يمكن الأخذ بالآليات الانتخابية في ظروف معينة، والعمل على أسلمتها بفرض قيود لا تتعداها».

وبمثل هذه الروح «الغنائمية - المرحلية» تم الدخول إلى ملف المعتقلين في السعودية، من بوابة «حقوق الإنسان» وكثير من هؤلاء المعتقلين ينتمون فكرا وسلوكا إلى خطاب القاعدة التفكيري الحاسم، وكثير منهم محبوس على ملاك قضايا تتعلق بـ«القاعدة»، تمويلا، ودعاية، ودعما لوجيستيا، لكن كل هذه الأمور تم التغافل عنها، وفي لحظة لقاء غريبة اجتمعت رغبة أنصار هؤلاء القاعديين، مع رغبة أنصار التيار الحركي الإسلامي، أو «الصحوي» كما يسمى في السعودية، بشكل عام، من جناحه الاحتسابي الاجتماعي، ممثلا بشخص كيوسف الأحمد، إلى جناحه السياسي ممثلا بشخص كسلمان العودة، وتيار الديمقراطية الإسلامية الفكرية، كما في كتابات الشبان النشطاء في موقع «تويتر»، إلى بعض الليبراليين اليساريين، مع بعض النشطاء السياسيين الشيعة، لينضوي الجميع تحت مظلة «حسم»، وهو مسمى لتجمع «جبهوي» حقوقي، يطالب فقط، وبشكل مصمت وشاعري، بالحقوق للجميع، من دون توقف عند الاعتبارات الأمنية، بل وحتى «كفر» من يطالبون بالحقوق له، بمفهوم الحقوق هذا نفسه، في ترديد رومانسي متكرر بكثافة لمقولة تنسب للمفكر والأديب الفرنسي التنويري فولتير الذي توفي 1778 قبل اندلاع الثورة الفرنسية بنحو عقد من السنين، وهي قوله «قد أختلف معك في الرأي، لكنني على استعداد أن أموت دفاعا عن رأيك»، على اختلاف في دقة نسبة هذه المقولة إليه، وفي ملابساتها، لكنها تحولت إلى الكلمة السحرية التي تذوب عندها كل الاختلافات والتناقضات البنيوية العميقة بين من يؤمن بالحرية ومن يحاربها، في المشهد السعودي «التويتري» بشكل خاص.لذلك التقط شخص صحوي معروف بقدراته الكلامية، وثقافته الجيدة، هذا الخيط وركز عليه، وهو إبراهيم السكران، رغم أنه في وقت سابق هاجم تهافت بعض رفاقه الإسلاميين على فكرة «الخطاب المدني»، ومحاولة استدخال فكرة الحرية والديمقراطية إلى نسيج الخطاب السياسي الصحوي في السعودية، قبل موسم الربيع العربي بالطبع، ، وحذر بلغة احتسابية فكرية من «مآلات الخطاب المدني» كما هو عنوان مقالته الإضافية ضد رفاقه من الحقوقيين الصحويين، مخاوف من انحراف هذا النهج عن خطة السلف الصالح، لكنه عاد وضرب بمعول الحقوق المدنية نفسه، مع آلية الاحتساب الشرعي، من أجل نصرة معتقلي وملاحقي الإسلاميين، تحديدا، وركز بشكل أكبر على العنصر النسائي، لنفس الأسباب التي سبق ذكرها حول تأثير التركيز على النساء واستثارة النخوة لهن في المجتمع السعودي.

ففي (14 يوليو/ تموز، 2011) بث إبراهيم السكران على موقع «يوتيوب» خطبة بالصوت والصورة، بعنوان «إلا النساء يا خادم الحرمين» حافلة بالجدال، والمناظرة، مع الإثارة الوجدانية المتكئة على شيمة «النخوة» في ما يخص المحتجزات من النساء على ملاك قضايا أمنية، وكان العنوان الذي اختاره إبراهيم كافيا للدلالة على الغرض من هذه الكثافة الوجدانية والضرب على وتر حساس في المجتمع المتلقي، بصرف النظر عن أن الشريعة نفسها ساوت في الحقوق والواجبات بين النساء والرجال، إلا ما استثني بنص واضح، وأنه ثمة نساء عوقبن بشتى العقوبات في العهود النبوية والراشدية وما تلاها، ولم يحمهن من ذلك كونهن نساء.

أنشئت عدة حسابات على موقع «تويتر» للحشد من أجل ما سمي بملف المعتقلين، لكن الأمور وصلت لمنعطف جديد بعد التركيز على العنصر النسائي الموقوف أمنيا، وترك التركيز، قليلا، على العنصر الرجالي، وقامت بالتفاعل مع هذه الحسابات أسماء تنتمي، كما ذكرنا قبل قليل، إلى التيار القاعدي، والتيار الاحتسابي الإسلامي السلفي، والتيار الإخواني المعارض، كما التيارات الليبرالية اليسارية، ومعها نشطاء من الشيعة، وكان لافتا للانتباه أن يتعاطف ناشط شيعي معارض للدولة، ومهموم بالقضية الشيعية مثل حمزة الحسن، مع نشطاء سلفيين خلص من القصيم أو الرياض! اعتصام بريدة وخطاب «القاعدة» في مارس (آذار) 2013 دعا إبراهيم الربيش، القيادي السعودي البارز في تنظيم القاعدة باليمن، في تسجيل مصور له، العناصر المفرج عنهم في السعودية لمواصلة العمل المسلح بعد إطلاق سراحهم، وشمل ذلك أيضا المرأة. وجاءت الدعوة بعد يوم واحد من صدور بيان شرطة منطقة القصيم حول القبض على عدد من المتجمهرين أمام مقر هيئة التحقيق والادعاء العام في مدينة بريدة، عاصمة منطقة القصيم، وسط السعودية، ومعهم عدد من النساء والأطفال، بعد رفضهم فض الحشد الممنوع بشكل مطلق، وفق النظام السعودي العام، في ما عرف في الإعلام بقضية «اعتصام بريدة».

خطاب الربيش جاء بعد وصول التعبئة والحشد في «تويتر»، بقيادة رموز من شيوخ الصحوة وبعض «النشطاء» الحقوقيين، إلى الذروة، وبعض الفضائيات مثل قناة «الحوار» من لندن، ذات الصبغة الإخوانية، مع هذه القضية ومحاولة تحويلها إلى «بؤرة» تحفيز سياسي تحت مظلة «الحقوق»، وقد أعادت هذه القضية «الزخم» إلى النشاط السياسي المعارض، وشارك فيها كل الأطياف «الجبهوية» التي أشير إليها في هذا السياق، وكان لافتا دخول د.سلمان العودة، القوي والساخن، على هذه القضية من منطلق حقوقي، ولكن وفي قمة هذه الإثارة، وفي قمة نفي أن يكون الحراك له صلة بأي نشاط قاعدي، أو حتى قريب الصلة به من هنا أو هناك، جاء خطاب القيادي القاعدي إبراهيم الربيش محبطا للنشطاء، حتى تمنى بعضهم لو لم يخلق هذا الخطاب. إبراهيم الربيش، وهو مطلوب أمني معلن عنه في القوائم السعودية، تطرق إلى قضية توقيف نساء من بين المشاركات في الاعتصامات المطالبة بإطلاق سراح متهمين بقضايا على صلة بـ«الإرهاب»، قائلا «ما هو ذنب هؤلاء الأخوات؟ لو تتبعنا قضاياهن لوجدنا هذه ذنبها أن زوجها أو أحد محارمها من المجاهدين»، على حد تعبيره. قبل ذلك هدد تنظيم «القاعدة في جزيرة العرب» في 3 يونيو (حزيران) 2010 بشن عمليات اختطاف تستهدف كبار المسؤولين في السعودية، ردا على اعتقال السلطات السعودية امرأة محكوما عليها من قبل القضاء السعودي بـ15 عاما على ذمة قضايا دعم الجماعات الدينية المسلحة في السعودية، وهي هيلة القصير أو «أم الرباب» كما يعرف بها إعلام «القاعدة»، أو «سيدة القاعدة» كما يعرف بها الإعلام السعودي.

في 28 مارس 2012 اختطف تنظيم القاعدة في اليمن نائب القنصل السعودي عبد الله الخالدي، وذلك في مدينة عدن من أمام منزله «أثناء ممارسته مهامه الوظيفية في منح المواطنين اليمنيين تأشيرات دخول المملكة للحج والعمرة والعمل وزيارة الأهل والأقارب وغيرها»، بحسب بيان الداخلية السعودية حينه.

في 17 أبريل (نيسان) 2012، كشفت السلطات الأمنية السعودية النقاب عن تسجيل لمكالمة هاتفية جرت بين علي الحمدان، السفير السعودي في صنعاء، ومشعل الشدوخي أحد المطلوبين للجهات الأمنية السعودية، والذي أعلن اسمه ضمن قائمة الـ«85» في 2 فبراير (شباط) 2009، تمحورت على تفاصيل «الصفقة» المطلوبة من تنظيم القاعدة للإفراج عن الدبلوماسي السعودي المخطوف، وكان التركيز فيها واضحا على المعتقلين السعوديين على ذمة قضايا أمنية ذات طابع «جهادي»، ويتضح أكثر الاهتمام بمسألة «النساء» من المعتقلات.

ومن الأسماء اللواتي نص عليها مفاوض «القاعدة»، مشعل الشدوخي، بالاسم مع السفير السعودي في اليمن، من أجل الإفراج عن الرهينة الدبلوماسي السعودي: فارس الزهراني، ناصر الفهد، عبد الكريم الحميد، عبد العزيز الطويلعي، سليمان العلوان، وليد السناني، علي الخضير، محمد الصقعبي، خالد الراشد. هذا من الأسماء الرجالية، ومن الأسماء النسائية: هيلة القصير، نجوى الصاعدي، أروى بغدادي (هذه أفرج عنها تحت الرقابة والمحاكمة، ثم فرت لاحقا إلى اليمن)، حنان سمكري، نجلاء الرومي، وهيفاء الأحمدي.

وفي النهاية فإن ما قيل من أدبيات، وما جرى من تحالفات، في جلّه، حول ملف المعتقلين الأمنيين في السعودية، هو تمازج مدهش في مكوناته وأفكاره وحراكه، بين صيحة الجهاد، ونداء الحقوق المدنية الإنسانية، ونذير الاحتساب الشرعي.