الثورة ضد النظام تجعل الناس يتقبلون الرأي والرأي الآخر

قرية في ريف حلب يتعايش فيها المؤيدون والمعارضون

عنصر من قوات الدفاع الوطني السورية يحرس حاجزا عند مدخل قرية الغسانية المسيحية في ريف القصير القريبة من الحدود اللبنانية أمس (أ.ف.ب)
TT

يقول محمود وهو ينفث دخان النرجيلة: «في البداية، تظاهرت ضد النظام.. في بادئ الأمر اندلعت الثورة، دفاعا عن كرامة الشعب السوري. ولكن انظر ما حدث لها الآن». ويصف محمود نفسه بأنه منشق عن المعارضة، سابحا بذلك ضد التيار السائد الذي يشمل الذين انشقوا عن النظام السوري. ويضيف قائلا: «أنا أعرف أن هناك نحو مائة شخص آخرين يتبنون وجهة النظر نفسها. ولكن تضم هذه البلدة ألفي نسمة».

وتحدث بحرية، خلال جلوسه في أحد المطاعم الموجودة في قلب منطقة يسيطر عليها الثوار في ريف حلب، عن خوفه من الحالة التي وصلت إليها الثورة، وعن تعاطفه مع الرئيس بشار الأسد الذي يواجه بازدراء واسع النطاق. ولكنه يصر على أنه لم يكن يستطيع التحدث بهذه الصراحة لولا صديقه، الذي يعمل مسؤولا إعلاميا بأحد الكتائب المحلية القوية ويجلس بجانبه. ويمضي قائلا: «ينضم الكثير من أصدقائي إلى الجيش السوري الحر، وإذا انضممت إليه، فلن يجرؤ أحد على إيذائي. لو كنت أنا وأنت فقط نجلس هنا، لم أكن لأقدر على التحدث معك على هذا النحو».

ويوضح محمود كيف أن مجموعة جديدة ومثيرة للقلاقل يطلق عليها «شبيحة الثورة»، ظهرت في ظل مشهد يزداد ارتباكا، من قوى المعارضة، مؤكدا أنهم يستخدمون الأساليب نفسها للبلطجية الموالين لنظام الأسد وقواته في مواجهة المنتقدين من المعارضة. وكما يقول: «يعمل الجميع لمصلحته الآن. وأصبح الجيش السوري الحر مثل النظام السوري نفسه؛ فهو يحذو حذو النظام تماما».

ويصف محمود كيف يسيطر الانتقام على الجانبين. ويروي كيف اعتقل النظام شقيقه المؤيد للمعارضة. ولم تمض سوى بضعة أشهر إلا ووقع أحد أصدقائه، وهو لواء يعمل مع شبيحة النظام السوري، ضحية ليلاقي المصير نفسه، الذي لقيه أخوه، ولكن على أيدي الجيش السوري الحر. ويقول محمود: «عندما اعتقل النظام أخي احتجزه لمدة خمسين يوما. واعتمدت عائلتي على اتصالاتها ومعارفها ودفعت 400 ألف ليرة سورية لإطلاق سراحه».

على الجانب الآخر، لم تكن الرشوة خيارا متاحا لإطلاق سراح صديقه؛ فقد قتله الجيش السوري الحر.. و«أعلم أن بعض الشبيحة يستحقون ذلك لأنهم قتلوا الكثير من الأبرياء، لكن لم يكن الجيش الحر يملك أي دليل يثبت ارتكابه مثل هذه الجرائم». وهنا يوضح محمود لماذا يفضل أساليب نظام الأسد من حيث تبنيه النهج العملي الصرف، «فبإمكانك على الأقل في ظل النظام أن تشتري حياتك لتنجو من الموت». وتدعم التقارير الإخبارية التي يشاهدها محمود، وكذلك أصدقاؤه، وجهات نظرهم.

ويختار مواطنو تلك البلدة السورية المنقسمة على نحو متزايد حاليا، مشاهدة المصادر الإعلامية كل حسب انتمائه. وتجد داخل قواعد الثوار وفي منازل المناطق، التي تسيطر عليها قوات المعارضة، عددا كبيرا من «القنوات التلفزيونية الثورية» ذات الميزانيات المنخفضة، يبث تقارير مثيرة حول آخر الانتصارات على القوات التابعة للنظام. وبينما نشاهد تغطية قناة «الجزيرة» العربية للقصف الإسرائيلي على دمشق، يؤكد محمود أنه لم يعد يشاهد هذه القناة، إذ يقول: «أعتقد أن هذه القناة تخدم مصالحها الخاصة من خلال دعمها الثورة، ولسوف أشاهد قناتي (بي بي سي) (البريطانية) و(فرانس 24) (الفرنسية) والقنوات التلفزيونية السورية أيضا، ولكن لن تكون قناة (الجزيرة) أو قنوات المعارضة ضمن اهتماماتي». بل إنه يشكك أيضا في ممارسات الجيش السوري الحر في المنطقة التي يعيش فيها، ويتساءل: «لقد وقعت هذه المدينة في أيدي الثوار منذ أشهر، لماذا لم يتقدموا؟ ولماذا يستمرون في التمركز بقواعدهم في أحياء المدنيين هنا؟». وتعرض منزل محمود قبل عدة أشهر للقصف من قبل النظام، وقال إنه يعتقد أن الهجوم على منزله نفذ بمدفع «دوشكا» المضاد للطائرات، يملكه أحد أفراد الجيش السوري الحر، ووضع خارج المنزل المجاور له.

هناك بعض الأمور التي يتفق عليها الجميع. ويقول محمود إن نظام الأسد كان مفلسا. ويضيف: «لقد نهب هذا النظام ثروات الشعب، وهذا هو السبب الذي جعلني أشارك في الاحتجاجات في البداية». مع ذلك لا يشاطرهم كراهيتهم بشار الأسد نفسه، إذ يقول: «لا أعتقد أن بشار يعرف ما يفعله نظامه».

ورغم السخرية التي أبداها أصدقاؤه مما قاله، يمضي محمود ليوضح وجهة نظره قائلا: «لنقل إني أملك مصنعا، ويعمل لدي أناس كثيرون. وعندما لا أكون موجودا في المصنع، لا أعرف ما يفعلونه بالضبط. أعتقد أن المسؤولين داخل النظام السوري يخونون الأسد». وأثارت نظريته حول التفجير الذي وقع في دمشق وأدى إلى مقتل أربعة أفراد مقربين من الرئيس في يوليو (تموز) الماضي، سخرية أصدقائه، إذ يقول: «أعتقد أن الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) وراء التفجير، ولقد رأيت دليلا يثبت هذا الأمر على شبكة الإنترنت». ولكن هذه مجرد واحدة من نظريات المؤامرة التي تتردد على جانبي الصراع، نظرا لانعدام المعلومات الموثقة والمؤكدة حول الأحداث الجارية في هذه الحرب الغامضة.

وردا على سؤال عن رأيه فيما سيؤول إليه مصير سوريا، يقدم محمود تحليلا واقعيا مثل آرائه عن الشبيحة: «لا يمكن وصف طرف بالفائز على الساحة السورية الآن، لذلك أعتقد أن سوريا ستقسم إلى دولتين، وستبرم المعارضة والحكومة صفقة». وهنا يختلف معه أصدقاؤه مرة أخرى، ولكنهم يتقبلون الاختلاف في الرأي دون أن يؤثر ذلك على صداقتهم، وهو أمر لم يعد يحدث كثيرا في سوريا؛ تلك الدولة التي حلت فيها الانتماءات والتوجهات محل الصداقات، ويكتشف فيها الذين كانوا داعمين مثاليين للثورة السورية يوما ما، الأكاذيب.