الذكرى العاشرة لتفجيرات 16 مايو في الدار البيضاء تحل بمزيد من ذكريات المرارة والألم لدى أهالي الضحايا

أقاربهم رووا أحزانهم لـ «الشرق الأوسط»: ما أشبه اليوم بالأمس

TT

كان رجل الأعمال عبد الكريم مندب، قاب قوسين من التوقيع مع شريكه الأجنبي عقد استثمار في مشروع جديد سيوفر العمل لنحو 300 شاب، عندما فجر أحد الانتحاريين نفسه قرب الطاولة التي كان مندب يتناول فيها العشاء مع شركائه الأجانب في مطعم نادي دار إسبانيا بالدار البيضاء. في تلك الأمسية من يوم 16 مايو (أيار) 2003، كان مطعم النادي الإسباني كعادته يعج بالحركة، أسر بكاملها، رجال أعمال، مثقفون، مغاربة وأجانب من آفاق مختلفة، يجلسون في فرح وسعادة حول موائده، يتبادلون أطراف الحديث، ويتسامرون وهم يتذوقون ما يعده طباخوه المهرة من الطيبات، عندما باغتتهم التفجيرات الغادرة. في ذلك المطعم وحده قتل في تلك الليلة 15 شخصا على الفور، ونقل العشرات إلى المستشفى.

ورغم مرور عشر سنوات لا تزال زوجة مندب تعيش هول الصدمة، وتنتظر عودة زوجها وتتجه إلى النافدة كلما سمعت صوت محرك سيارة تقترب من البيت. ما زال ينتابها ذلك الشعور الغريب بشيء ينفجر في أعماقها ويهز كيانها بين الحين والآخر، وترفض الكلام عن الحادث.فبالنسبة لها ما أشبه اليوم بالأمس.

في مائدة غير بعيدة من مائدة مندب جلس المحامي عبد الواحد الخمال مع ابنه الطيب الخمال في طمأنينة وهما لا يدريان أن أيادي الغدر كانت تتربص بهما. تركا وراءهما آلاما لم تستطع كل هذه السنين التخفيف منها. وتقول سعاد بكدوري الخمال، زوجة عبد الواحد وأم الطيب: «عشر سنوات قد تبدو مدة طويلة، لكنها بالنسبة لي مليئة بالمرارة والألم والحسرة. سرقوا مني كل شيء، الشعور بالأمان، الاستقرار العاطفي والعائلي، سرقوا ابني وزوجي». ورغم كل الألم والمرارة لم ترتكن سعاد الخمال ولم تستسلم. قررت أن تهب حياتها لمهمة نبيلة، تجد فيها العزاء والسلوان، فأسست الجمعية المغربية لضحايا الإرهاب.

وتقول في هذا الصدد: «كل أملي أن لا يتكرر ما حدث في تلك الليلة. لذلك نحاول أنا ومجموعة من الضحايا والمتضررين ونشطاء من المجتمع المدني أن نسهم في الحيلولة دون تكرار ما حدث عبر التحسيس والتوعية ضد مخاطر الإرهاب والتطرف، ومن خلال مد أيادينا لباقي الضحايا، ومد جسور التعاون بينهم. وبذلك استطعنا حل كثير من المشكلات. ونحن كأرامل فخورات عندما ننظر إلى يتامى 16 مايو الذين ترعرعوا واستطاعوا التغلب على أوضاعهم ومواصلة دراستهم رغم كل شيء».

محمد محبوب، 43 عاما، من الضحايا الذين نجوا من الموت في النادي الإسباني، لكنه لا يزال يحمل ندوبا يصعب إخفاؤها. فنتيجة التفجير تشوه نصف وجهه ورجله اليسرى. كان محبوب يعمل مسيرا في النادي الإسباني. يقول محبوب: «في تلك الأمسية كانت الأمور تسير بشكل عادي إلى أن دخل ثلاثة أشخاص بشكل لافت إلى المطعم وهم يركضون. مر أحدهم بجانبي فدفعني بقوة جعلتني أسقط على الأرض. اعتقدت أنهم لصوص. وبينما كنت أحاول أن أقوم سمعت الله أكبر ثم حدث الانفجار. عندما أفقت من الغيبوبة لم أستطع النهوض. لكنني لاحظت أن الأشخاص الذين ساعدوني كانوا يتحاشون النظر إلى وجهي». لن ينسى محبوب المنظر الذي رآه، ولا تلك الروائح التي لا تزال تملأ أنفه. حتى اليوم لا يزال يتابع العلاج النفسي، بالإضافة إلى العلاج الجسدي. يقول محبوب: «تعرضت لكسور مختلفة نتيجة صدمة الارتطام، بالإضافة إلى كل تلك المسامير التي اخترقت جسدي. وتحطم فكي الأيسر. حتى الآن خضعت لأربع عمليات جراحية، وما زلت أعاني من تشوهات في وجهي».

في تلك الليلة قتل 45 شخصا بينهم 14 انتحاريا في خمسة تفجيرات متزامنة في مواقع مختلفة من مدينة الدار البيضاء. يقول محبوب: «كانت تلك الليلة بمثابة انتهاء مرحلة بالنسبة لنا كمغاربة، والتي كنا نعتقد فيها أن بلدنا كان يشكل استثناء. كنا نسمع بالإرهاب في جميع دول العالم فيما عدا المغرب، بلد التعايش والأمن والاستقرار. للأسف ما حدث في تلك الليلة وضعنا أمام الواقع، فالإرهاب لا حدود له ولا أحد بمنأى عن مخاطره».

منذ ذلك الحين انتهج المغرب سياسة أمنية استباقية في مواجهة الإرهاب، والتي مكنت من تفادي تكرار فاجعة 16 مايو 2003. فعلى مدى عشرة أعوام تمكنت أجهزة الأمن المغربية من تفكيك 113 خلية إرهابية أغلبها في طور التشكل. ونجح الأمن المغربي في إفشال266عملية إرهابية جلها كانت ستستخدم فيها متفجرات، مجنبا البلد كثيرا من المآسي. ورغم هذه اليقظة فوجئ المغرب في أبريل (نيسان) 2012 بذئب منفرد من ذئاب تنظيم القاعدة يفجر مقهى «أركانة» في أكبر موقع سياحي في مراكش، ساحة جامع الفنا، مخلفا 17 قتيلا معظمهم أجانب.

أحمد منير، الذي قتل في «أركانة»، كان معلما للغة العربية والتربية الدينية. كان منير الذي يسكن الدار البيضاء في زيارة عائلية لأخته بمراكش. في ذلك الصباح ودع منير أقربائه وفي طريقه إلى محطة القطار عرج على ساحة جامع الفنا، ودخل إلى ذلك المقهى المشؤوم. اتصل بأسرته في الدار البيضاء ليخبرهم أنه في طريق العودة. ثم انفجرت القنبلة. يقول ابنه سمير منير: «حتى الآن لا أستطيع أن أفهم ماذا حقق الشاب الذي قام بتلك العملية. لقد قتل أناسا أبرياء وفجع فيهم أسرهم وعائلاتهم. بل فجع عائلته هو نفسه في شخصه. فوالدة عادل العثماني، وهو في مثل عمري، هي أول متضرر من عمل ابنها، المحكوم حاليا بالإعدام». ويضيف منير: «والدي الذي قتله العثماني كان معلما ومربيا. وخلال فترة معينة عمل أبي في مدينة آسفي التي يسكن فيها العثماني. فربما كان العثماني من تلاميذه، أو ربما صادفه يوما ما، لا أعرف. لكنه قتله من دون سبب». فاجعة أسرة منير في ذلك الحادث لم تتوقف عند مقتل رب الأسرة ومعيلها، بل أكثر من ذلك، فوجئت الأسرة بنشر صورته في الصحف والمواقع الإلكترونية تتهمه بأنه الانتحاري المزعوم الذي فجر مقهى أركانة. كان كافيا أن يكون معلما للتربية الدينية وأن يكون المغربي الوحيد من بين رواد المقهى الذين قتلوا في الانفجار لتحوم حوله الشكوك.

ويقول سمير: إن «الألم الذي تسبب فيه ذلك الاتهام أقوى مما يمكن تحمله. ورغم أن وزارة الداخلية سارعت إلى نشر بيان توضح فيه أن والدي لا علاقة له بالحادث، إلا أن صوره كانت قد نشرت في الصحافة والمواقع الإلكترونية والتهمة ألصقت به».

قلبت عملية أركانة حياة أسرة أحمد منير رأسا على عقب، فالابن الأكبر، سمير منير، الذي كان يستعد لامتحاناته والذي كان والده قد أعد له كل الأوراق وعبد له الطريق لمواصلة دراسته في الخارج، اضطر إلى التخلي عن أحلامه، والخروج إلى الحياة العملية ليتكفل بأسرته. أما أخوه الأصغر فدخل في حالة من الانزواء والانغلاق على النفس وتدهورت نتائجه في المدرسة. سؤال وحيد يؤرق سمير منير: «ما الذي دفع عادل العثماني، وهو في مثل سني، إلى تعلم كيفية صنع المتفجرات لقتل الأبرياء، في الوقت الذي كنت أدرس فيه العلوم والتقنيات لأسهم في رقي وازدهار بلدي؟ وماذا استفاد العثماني من وضع حد لحياة أبي ولأحلامي وخططي المستقبلية، ووضع حد لحياته هو نفسه الذي يواجه اليوم حكما بالإعدام؟».