صورة الحرب مستمرة في العاصمة العراقية.. وعربات مدرعة تعيق الحياة اليومية

رصد للحياة في «بغداد النهار.. وبغداد الليل».. بعد 10 سنوات من التغيير

نقطة تفتيش أمنية تتمركز في ساحة الخلاني وسط بغداد («الشرق الأوسط»)
TT

كيف هي الحياة ببغداد بعد مرور أكثر من 10 سنوات على تغيير النظام؟ ما مشاهد حياتها في النهار وفي الليل؟ في زيارات سابقة، رصدت «الشرق الأوسط» ومنذ 2004 أوضاع حياة بغداد، وكان من الضروري في زيارتنا الأخيرة للعاصمة العراقية أن نسلط الضوء على حياة «بغداد النهار.. وبغداد الليل».

«بغداد في حالة حرب»، هذا الوصف سمعته من فنانة مصرية التقيتها بالعاصمة العراقية خلال مشاركتها في نشاطات «بغداد عاصمة الثقافة العربية»، كنت أتوقع أن تتحدث عن مدينة الرشيد وحكايات ألف ليلة وليلة، أو حتى عن بعض ما تبقى من المظاهر الحضارية، التي تتمثل بنصب الحرية للنحات الراحل جواد سليم أو تمثالي شهريار وشهرزاد عند حدائق شارع (أبو نواس) على ضفاف دجلة للنحات البغدادي الراحل محمد غني حكمت، أو حتى عن شارع المتنبي وأسواق الكتب، لكنها أضافت وهي توضح وصفها قائلة: «المظاهر المسلحة في كل مكان، مدرعات ونقاط تفتيش وسيارات شرطة مدججة بالسلاح، هذا ما شد أنظاري، الفندق الذي أقمنا فيه بدعوة من وزارة الثقافة العراقية (عشتار شيراتون) كان محاطا بعربات عسكرية كأننا في منطقة تدور فيها معركة، لم نشاهد مظاهر حضارية للأسف أو لم يتسن لنا ذلك».

تعمدت وأنا في بغداد أن أسأل ضيفة غير عراقية لم تتعود مشاهدة ومعايشة التحشيد الأمني في العاصمة العراقية، فهذه المشاهد تبدو طبيعية للبغداديين الذين اعتادوها منذ وجود القوات الأميركية المحتلة التي كانت تتعامل بقسوة مبالغ فيها مع العراقيين، حتى اليوم: «وإن كان المشهد اليوم يختلف كثيرا؛ فالأجهزة الأمنية والقوات العراقية تتعامل بطريقة مؤدبة مع المواطنين، وإن كانت نقاط التفتيش تسبب فقدان أعصاب سائقي السيارات لشدة الازدحامات التي تسببها عملية التفتيش»، حسبما يقول أحمد حكمت، (36 عاما)، من سكان حي الكرادة (داخل) في جانب الرصافة من بغداد، موضحا أن «الكرادة محمية بصورة أفضل من غيرها من مناطق بغداد، كونها تحت سيطرة (المجلس الأعلى الإسلامي)، بزعامة عمار الحكيم». شوارع بغداد منذ بداية النهار ملغومة بنقاط التفتيش وعجلات القوات الأمنية التي تستفز المشهد اليومي لهذه المدينة التي لم تعرف الاستقرار منذ أكثر من عشر سنوات، وتزداد التحشيدات الأمنية حضورا في المناطق التي يقطنها المسؤولون الجدد؛ مثل: حي الحارثية، وشارع الكندي حيث مقرات حركة «الوفاق الوطني» ومسكن زعيمها إياد علاوي، ورئيس البرلمان العراقي أسامة النجيفي، ومقر جبهة «الحوار الوطني» بزعامة صالح المطلك نائب رئيس الوزراء، ومسكن أحمد الكربولي وزير الصناعة وشقيق جمال الكبرولي زعيم حركة «الحل». تقول أزهار التي تعمل في إحدى صيدليات شارع الكندي، المزدحم بالعيادات الطبية: «كلما أقطع المسافة من بيتنا، الذي لا يبعد سوى مسافة 500 متر عن الصيدلية التي أعمل بها، وأصل شارع الكندي، أتصور أننا نعيش حالة حرب؛ مدرعات وعجلات عسكرية وجنود مدججون بالسلاح وهم يضعون الخوذ فوق رؤوسهم، ونقاط تفتيش متعددة في شارع صغير، وقطع الطريق أمام السيارات.. هذه مشاهد تستفزني يوميا»، مشيرة إلى أن «كل هذا بسبب وجود بعض المسؤولين الجدد في الحارثية، مع أن لهم حماياتهم الخاصة التي تحيط بيوتهم المسورة بجدران كونكريتية خشية من التفجيرات».

وتضيف قائلة: «أستغرب من هؤلاء المسؤولين، إذا كانوا يخشون الإرهابيين أو يخشون منا نحن السكان الأصليون لهذه المنطقة فلماذا لا يتركوننا ويقيمون في المنطقة الخضراء المحصنة ويحرروننا من هذا الاضطهاد الأمني الذي أفسد علينا حياتنا؟! ثم إن الغريب مع كل هذه التشديدات الأمنية والتفجيرات، تحصد أرواح الأبرياء من العراقيين وليس أرواح المسؤولين، كل يوم»، مضيفة: «أتذكر، كان بالحارثية في زمن النظام السابق مسؤولون كبار؛ مثل طه ياسين رمضان، وأعضاء في القيادتين القومية والقطرية لحزب البعث، ووزراء، لكننا لم نكن نشعر بوجودهم، ولم يؤثر سكنهم هنا على سير حياتنا، إذ كان هناك أفراد من الحماية لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة قرب بيوت المسؤولين». كنت أقطع شارع السعدون باتجاه ساحة التحرير (وسط بغداد) بواسطة سيارة الأجرة (تاكسي) عندما توقفنا عند نقطة تفتيش، مرر الشرطي جهاز كشف المتفجرات الذي يثير لدى العراقيين الكثير من السخرية بسبب اكتشاف عدم جدواه علميا وعمليا، ثم سمح لنا بالمضي في طريقنا، ضحك السائق ملء روحه وقهقه من أعماقه، عرفت أن سبب هذا الضحك هو جهاز كشف المتفجرات، قال (سائق التاكسي): «استخدام هذا الجهاز عيب، أمر مخجل»، مد يده إلى ما تحت كرسيه وأخرج مسدسا شخصيا، وأردف: «انظر، هذا مسدس محشو بالرصاص، كيف لا يكشفه الجهاز! أنا أعرف، مثلما كل العراقيين يعرفون، أن هذه الأجهزة مغشوشة، لكنهم مصرون على استخدامه، وفي هذا استغباء لنا، المسؤولون يعتبروننا - نحن العراقيين - أغبياء ويواصلون استخدامه».

وفي مناسبة لاحقة في يوم آخر، أصر أحد أفراد نقطة تفتيش عند جسر الجادرية على تفتيش السيارة، كون جهاز كشف المتفجرات صدرت عنه إشارة، لم يجد الشرطي أي متفجرات في سيارتنا، عندها سأل فيما إذا كان أحدنا قد وضع عطرا، كون الجهاز حساسا من العطور؟ سألته: وهل يجب أن يمتنع العراقيون عن استخدام العطور؟ لم يجبني، فأردفت قائلا: إن هذه الأجهزة كشفت الحكومة البريطانية عن كذبها وأنها مزيفة: فلماذا تستخدمونها؟ نظر إلى بأسى، وقال: «أخي، إنها الأوامر، هسة (الآن) إذا يعطونا خشبة صماء ويقولون هذه تكشف المتفجرات ويأمروننا باستخدامها فسوف أستخدمها.. إنها الأوامر».