الخراب وسوء الخدمات يشوهان العاصمة العراقية.. وأحياء تراثية تتعرض للاندثار

في «بغداد النهار.. وبغداد الليل» الإهمال يعم أبنية المدينة بعد عقد من عهدها الجديد

TT

كيف هي الحياة ببغداد بعد مرور أكثر من 10 سنوات على تغيير النظام؟ ما مشاهد حياتها في النهار وفي الليل؟ في زيارات سابقة، رصدت «الشرق الأوسط» ومنذ 2004 أوضاع حياة بغداد، وكان من الضروري في زيارتنا الأخيرة للعاصمة العراقية أن نسلط الضوء على حياة «بغداد النهار.. وبغداد الليل».

في كل مرة نذهب إلى بغداد نمني النفس أن نجد عمارتها وشوارعها ومستوى الخدمات فيها قد تحسنت، لكن خيبة الأمل غالبا ما تكون صادمة لكل من يزور العاصمة العراقية، فالخراب يسعى في أبنية وشوارع المدينة تماما مثلما تأكل حشرة الأرضة الخشب. عمارات في شوارع السعدون والجمهورية والكرادة والمنصور، ناهيك عن شارع الرشيد الذي يشكل الخراب سمته الواضحة، هذه العمارات كانت هوية بغداد وعنوان إنجازات المعماريين العراقيين منذ نهاية الخمسينات ومرورا بالستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي، عمارات صممها رفعت الجادرجي وقحطان المدفعي وعدنان أسود وقحطان عوني ومعاذ الآلوسي، وكثيرون غيرهم من المعماريين الذين كانوا قد أصروا على أن تكون لهذه المدينة الأصيلة هويتها المعمارية الواضحة والمميزة، عمارات لا تتشابه في شكلها الخارجي لكنها تنتمي إلى روح العمارة العراقية الحديثة، فبدت بإيقاعها الفني «منحوتات في الهواء الطلق»، كما يصف المعماري عدنان أسود العمارة.

نتطلع اليوم إلى تلك الأبنية التي تحولت إلى صور مشوهة للعمارة العراقية بسبب الإهمال الذي تعرضت له، والمسؤول الأول عن هذا الإهمال ليست الحكومة بل أصحاب العمارات أنفسهم الذين يجنون الأموال من بدل الإيجارات ولا يهتمون بصيانة أبنيتهم، أما مسؤولية الحكومة والمتمثلة بأمانة بغداد فتتجسد بعدم متابعتهم لأصحاب هذه العمارات لأغراض صيانتها كونها واجهة المدينة، لكن الحكومة وبالتأكيد تتحمل مسؤولية دفع الأمور باتجاه هذا الخراب الذي يعم المدينة. يقول مسؤول في أمانة بغداد «نحن لا نتحمل مسؤولية إهمال الأبنية المملوكة من قبل المواطنين، حتى فيما يتعلق بشارع الرشيد فغالبية أبنية هذا الشارع هي أملاك خاصة وليس من حقنا صيانتها وإجبار المالكين بدفع أجور الصيانة».

لكن الأمر لا يتوقف عند قصة الأبنية الخربة فحسب فهناك سوء الخدمات وأسلاك الكهرباء التي تتدلى بشكل يشوه الصورة الحياتية تماما وهناك أحياء تراثية بكاملها تحولت إلى خرائب وتركت عرضة للاندثار مثل حي البتاويين الشهير الذي يقع بالضبط في قلب العاصمة قرب ساحة التحرير وأحياء شارع الرشيد وأشهرها الحيدر خانة، وحي الشواكة في منطقة الكرخ. وحسب علي الأديب وزير التعليم العالي المسؤول الثاني في حزب الدعوة الذي يتزعمه نوري المالكي رئيس وزراء العراق فإن «هناك مخصصات مالية كافية لدى أمانة بغداد لكنهم لا يعملون، هذه مسؤوليتهم المباشرة».

شارع الرشيد الذي هو من أقدم وأشهر شوارع بغداد وكان يعرف خلال الحكم العثماني باسم شارع (خليل باشا جادة سي) على اسم خليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني الذي قام بتوسيع وتعديل الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعا باسمه عام 1910م، يتعرض لإهمال كامل من قبل أمانة بغداد، حيث تحولت متاجره إلى ورش لتصليح السيارات وبيع المواد الاحتياطية، كما تغيرت وظيفة سوق الصفافير المتفرعة عنه، وتهدمت غالبية أبنيتها المشهورة بشرفاتها، وانقرضت مقاهيها الشهيرة.

ويوضح حكيم عبد الزهرة مدير عام العلاقات والإعلام في أمانة بغداد، بأنه كان هناك مشروع ضخم لتطوير شارع الرشيد خاصة في المنطقة الممتدة ما بين الباب المعظم وجسر الشهداء، واضطلعت وزارة الثقافة بهذا المشروع قبل أن تبدأ فعاليات «بغداد عاصمة الثقافة العراقية» وكانت أمانة بغداد عضوا في اللجنة المكلفة لتطوير هذا الشارع المهم وتم تخصيص مبلغ 130 مليار دينار عراقي لتنفيذ الدراسة وخطة تطوير شارع الرشيد، مضيفا أن وزير الثقافة سعدون الدليمي، وهو وزير الدفاع وكالة، اعترض على المبلغ كونه لا يكفي وأن أمانة بغداد تعهدت بزيادة الميزانية من مخصصاتها، ولم تنفذ وزارة الثقافة مشروع تطويره بل قامت بإعادة المبلغ إلى وزارة المالية وتدويره إلى وزارة الدفاع. ودعا مدير عام أمانة بغداد وزارة الثقافة إلى عدم الخلط بين مهامها ومهام وزارة الدفاع. وهكذا ضاعت فرصة من فرص تطوير هذا المرفق التاريخي للعاصمة العراقية حيث اعتبر وزير الدفاع وكالة أن شراء الأسلحة أهم بكثير من تطوير شارع الرشيد، ناسيا أنه وزير أصيل للثقافة.

في مقهى حسن عجمي مقابل الحيدر خانة بشارع الرشيد، هذا المقهى الذي كان يزدحم بالمثقفين العراقيين وبأسماء مهمة من المبدعين، جلسنا نرتشف الشاي وسط الفراغ والخراب الذي عم المقهى الذي كان حتى ما قبل 2003 عامرا برواده، أسأل رجلا بغداديا تجاوز الخامسة والستين من عمره عما يعتقده من أسباب أدت إلى خراب بغداد، يقول: «هناك مؤامرة على هذه المدينة، مؤامرة من قبل المسؤولين الذين لا يتحدرون من بغداد وإنما من الأرياف البعيدة، كلهم من أكبر مسؤول وحتى أصغرهم في الدولة عامة وفي أمانة بغداد خاصة، وهؤلاء يتمتعون بعقدة من بغداد لذلك أهملوها»، متسائلا: «هل يعقل أن مجلس محافظة بغداد، أو الحكومة المحلية للعاصمة ليس بين أعضائها من هو من بغداد أصلا؟ ورئيس المجلس يتحدر من الريف ولا علاقة له بالمدينة وحضارتها؟». يصمت قليلا قبل أن يضيف «العالم كله يعمل لأن يتقدم إلى الأمام أما نحن فنتمنى أن تعود بغداد إلى سابق عهدها.. إلى الماضي الجميل لنتخلص من هذا الواقع المؤلم».

البغداديون يصعب عليهم المقارنة بين صورة بغداد الزاهية في السابق ووضعها الخرب الحالي، وحسب المهندس البغدادي المعروف هشام المدفعي، فإن «بغداد بقيت في أذهاننا كفكرة جميلة وزاهية بكل حياتها الاجتماعية والثقافية والمعمارية، فكرة لا علاقة لها بواقع المدينة اليوم».