تخلي هولاند عن اشتراكيته بدافع الأزمة يغضب من انتخبوه

الرئيس الفرنسي رفض مطالب تأميم مصانع تضمن الحفاظ على آلاف الوظائف

هولاند
TT

هذا الميناء المطل على المحيط الأطلسي هو جوهر عالم بناء السفن في فرنسا، حيث أتى البريطانيون من أجل بناء سفينة «كوين ماري 2» منذ عقد من الزمان وأمرت شركة «رويال كاريبيان» ببناء قصر عائم كلفته 1.5 مليار دولار مناسب للرحلات بين الجزر. وعندما أعلنت غالبية المساهمين في ورش بناء السفن في سان نازير بكوريا الجنوبية عن بيعهم لحصتهم، كان رد الفعل هنا تلقائيا إلى حد بعيد. توجه النقابيون اليساريون إلى الحكومة الاشتراكية في باريس مطالبين إياها بتأميم الورش، مشيرين إلى أن هذه هي أفضل طريقة للحفاظ عليها واستمرار عملها وضمان عدم فصل ألفي موظف و4 آلاف فرد في الشركات والكيانات المرتبطة بها.

مع ذلك كان رد وزراء الرئيس فرنسوا هولاند هو الرفض. وقالوا إن الأمر لا يتعلق بمن يملك رأس المال، بل بعدد السفن التي يتم العمل على بنائها. وتوقعوا أن يشتريها مستثمر آخر في القطاع الخاص شرط أن يظل وضعها المالي مشجعا وخط إنتاجها زاخرا بالمشاريع.

ويحمل رد حكومة هولاند، التي أكملت الشهر الحالي عامها الأول من المدة التي تبلغ خمس سنوات، الكثير من الإشارات. ينتهج الرئيس الاشتراكي المنتخب بدعم من أقصى اليسار مسارا قائما على توجيه البلاد في مسار قائم على السوق في محاولة للتعامل مع الأزمة المالية الأوروبية من دون اللجوء إلى التقشف على طريقة اليونان، لكن أيضا من دون تحدي طلب الاتحاد الأوروبي خفض عجز الموازنة.

أثار نموذج هولاند الاشتراكي ضجة عندما هدد وزير الصناعة، أرنو مونتيبورغ، بتأميم مصنع فولاذ مملوك لشخص هندي لإنقاذه من خطر التوقف عن العمل. وسرعان ما أصدر رئيس الوزراء، جان مارك أيرولت، تصريحات مضادة وتدخل لإجراء المفاوضات مستبعدا احتمال التأميم. ومنذ ذلك الحين لم يتم التدخل في أمر المصنع مما أثار احتجاجات مستمرة من نشطاء النقابات العمالية الذين اتهموا هولاند بالخيانة. ونتيجة لهذه القرارات، واجه هولاند انتقادات مستمرة غاضبة في أغلب الأحيان من اليسار وكذا من اليمين. ومع مهاجمة سياساته لعدم الوضوح، رأى ثلاثة أرباع ممن تم استطلاع رأيهم أن اختياراته تضر بالبلاد. وتراجعت شعبيته إلى مستوى متدن للغاية بسبب أسلوبه المتردد الذي يعتمد على التجريب وأطلق عليه معاونوه لقب «الشعبوي».

يرى الأنصار المحافظون للرئيس السابق نيكولا ساركوزي، أن هولاند أخفق في خفض النفقات الحكومية إلى الحد المناسب، حيث لا يزال الإنفاق الحكومي يمثل أكثر من نصف الاقتصاد. ويرى الحزب الاشتراكي، ومعه الوزراء، وكذا الجماعات ذات التوجه اليساري مثل حزب الخضر والجبهة اليسارية، أن هولاند خضع لطلبات النظام المالي الدولي بالتقشف بدلا من فتح صمامات الإنفاق الحكومي.

وقاد زعيم جبهة اليسار جون لوك ميلونشون، العنيد، الأسبوع الماضي، مظاهرة ضد هولاند شارك فيها عشرات الآلاف من الذين يطالبون بزيادة الإنفاق الحكومي. وهتف ميلونشون في الجموع بساحة الباستيل المحملة بالذكريات قائلا: «إذا لم تكن تعرف كيف تدير الأمر، فنحن نعرف». وأعلن أيرولت بعدها بأيام تخطيط حكومة هولاند لوضع خريطة استثمارية كبيرة لدفع النشاط الاقتصادي قدما، لكنها ستوفر تمويلها من خلال بيع حصة الحكومة في مؤسسات كبرى. وعلى الرغم من قيادة المحافظين للحكومة لسنوات، تحتفظ الحكومة بأسهم قيمتها 80 مليار دولار في عدد كبير من المؤسسات، مثل الخطوط الجوية الفرنسية وشركتي الكهرباء والغاز. واتخذ الغضب من سياسات هولاند بالنسبة للبعض شكل توبيخ ألمانيا بسبب قيادة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، اتفاق الاتحاد الأوروبي الخاص بتحقيق التوازن في الموازنة. ودعا كلود بارتولون، رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية (مجلس النواب)، والرمز الاشتراكي البارز، مؤخرا إلى «مواجهة» مع ميركل بسبب القيود المفروضة على الإنفاق، التي تأتي ضمن اتفاق الالتزام المالي الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أن هولاند ينأى بنفسه عن نهج الشراكة القوية الذي كان بين ساركوزي وميركل، فإنه ظل حريصا على العلاقات الودية معها.

ولم تحظ هذه الشراكة برضا تيار اليمين أو اليسار، لكن كثيرا ما توصف سياسة هولاند، التي تنتهج المسار الوسط، بأنها أقرب إلى الديمقراطية لاشتراكية على الطريقة الاسكندنافية وتحظى بثناء مؤيد واحد على الأقل هو الموسيقي المشهور أندريه مانوكيان. وقال مانوكيان في تعليق على الإنترنت: «يبدو هذا المسار اليوم معقولا حتى إذا لم يكن جذابا أو مذهلا».

كما دعمت صحيفة «لو موند» الفرنسية البارزة إصرار هولاند على تجنب سياسة التقشف، في الوقت الذي يخفض فيه العجز من خلال فرض مزيد من الضرائب والخفض المحدود للموازنة. ووصفت الصحيفة في افتتاحيتها سياسة هولاند، التي لا تميل إلى أي من التيارين، بغير المسبوقة بالنسبة إلى رئيس اشتراكي.

ومع أنه لم يسبق له تولي منصب رفيع، لدى هولاند الخبرة التي تهديه، فقد كان في شبابه مستشارا اقتصاديا لفرنسوا ميتران، الاشتراكي الذي أصبح رئيسا عام 1981 وشرع في تأميم مؤسسات كبرى بالتعاون مع الحزب الشيوعي. وكانت النتيجة كارثية فبعد عامين تراجع ميتران وبدأ موجة من الخصخصة قلبت المذهب الاشتراكي رأسا على عقب.

مع ذلك قالت ناتالي دوراند برينبورغن، ممثلة اتحاد القوى العاملة في ورش السفن، إن التأميم لا يزال الطريقة الوحيدة التي تضمن المستقبل لأنه على الحكومة ترتيب مصدر تمويل هذه الاستثمارات الضخمة مثل استثمارات بناء السفن. وأوضحت أنه من دون الحكومة والمزايا الاستثمارية في الضرائب، لم تكن ورش السفن في سان نازير لتتمكن من الفوز بالتعاقد مع شركة «رويال كاريبيان» الذي ضمن استمرار العمل في الورش لمدة تزيد على الثلاث سنوات. وأضافت: «التأميم بالنسبة لي هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن استمرار هذا الكيان».

* خدمة «واشنطن بوست» خاص بـ«الشرق الأوسط»