إسطنبول: شارع «استقلال» يعيش أسوأ أيامه بعد فرار السياح

المواجهات أخلته للمرة الأولى منذ عشرات السنين.. والعرب من أكثر رواده

TT

بقيت ساحة «تقسيم» الشهيرة في إسطنبول، أمس، تحت سيطرة المحتجين على الحكومة التركية، بعد أن انسحبت منها عصر السبت الماضي وحدات مكافحة الشغب التي خاضت معارك عنيفة خلال يومين من المواجهات قبل أن تنسحب منها بناء على أوامر والي مدينة إسطنبول، في محاولة لامتصاص النقمة الشعبية التي نجمت عن «العنف المفرط» للشرطة في هذا المكان.

وشهدت الساحة بعد «الانسحاب التكتيكي» للشرطة ليل أول من أمس وصباح أمس حملات نظافة قام بها محتجون أمضوا سهرتهم في المكان، حيث غنوا ورقصوا فرحا بانتصارهم الذي اعتبروه انتصارا على «الخليفة»، في إشارة إلى رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان الذي كان ألقى نهارا خطابا ناريا أكد فيه أن الشرطة لن تترك المكان للمشاغبين، قبل أن يتراجع عن ذلك. وهتف المتظاهرون مساء: «نحن ما زلنا هنا، فأين أنت أيها السلطان؟».

وساهمت الأمطار التي انهمرت صباح أمس في إبعاد المحتجين عن ساحة «تقسيم»، حيث بدأت الاحتجاجات لكنها لم تطفئ حماسة مجموعة صغيرة من المحتجين ظلوا متجمعين حول نار أشعلوها. وتناثر الركام في الميدان بعد أيام من المواجهات بين المحتجين وشرطة مكافحة الشغب التركية التي أطلقت الغاز المسيل للدموع ومدافع المياه، ودارت بينهم مطاردات في الشوارع الجانبية. ومسح الباعة رسوم الغرافيتي المعارضة للحكومة من على الجدران. وكانت الشعارات المعارضة قد كتبت على سيارات محترقة، من بينها سيارة للشرطة وحافلة. ومع الهدوء النسبي الذي عرفته الساحة، عادت بعض الحركة الخجولة للسياح إلى شارع استقلال الذي يمتد بدءا من الساحة إلى مشارف القمة التي تطل على البحر، ويتربع عليها برج «غلاطة سراي» المشهور. ويمتد هذا الشارع على طول 3 كيلومترات تقريبا، وتقول وزارة السياحة التركية إن نحو 3 ملايين سائح يمشون فيه يوميا. فهذه الساحة وهذا الشارع، من الوجهات المفضلة للسياح حول العالم، ما جعله مقصدا لسكان مدينة إسطنبول والمدن التركية الأخرى، يتمشون فيه بدورهم للتفرج على السياح. وقد نمت بسبب هذا مجموعة من المتاجر والمقاهي والفنادق التي تمتد على طول هذا الشارع والزواريب المتفرعة منه، والتي بات كل زاروب منها يتخصص بشيء ما. فهذا الزاروب معروف بمقاهي النرجيلة، وهذا معروف بمطاعم السمك، وثالث معروف بالملاهي الليلية، ورابع بمتاجر الألبسة، وهكذا دواليك.

وتنتشر في الشارع ليلا احتفالات متنقلة يقيمها فنانون هواة من جميع أنحاء العالم، يجمعون لقاء عزفهم أو غنائهم بضعة ليرات تركية، أو ما تيسر من النقد الأجنبي في قبعاتهم أو في صناديق آلاتهم الموسيقية.

لكن هذا الشارع شهد خلال اليومين الماضيين أول انتكاسة له منذ سنوات طويلة، لا يكاد أصحاب متاجره يتذكرون معها في أي زمن قدر لهم أن يروا هذا الشارع مقفرا. السياح اختفوا في فنادقهم، وبعض الذين كانت إقامتهم في ساحة المواجهة فضلوا المغادرة هربا من تطورات غير محسوبة.

ويعتبر هذا الشارع، منذ زمن طويل، مكانا للتعبير عن الاحتجاج، أو الحزن، أو الفرح. فيندفع إليه مشجعو كرة القدم عقب كل انتصار، ويحلو لبعض العرسان أن يقضوا بعضا من أمسية الزفاف فيه. ولا يكاد يمر يوم فيه من دون تظاهرة من هنا أو هناك. ورغم أن مشهد شرطة الشغب في الشارع بات مألوفا، فإن ما حصل مساء الجمعة ونهار السبت فاق كل التصورات، وانتهى الأمر بهذا الشارع الذي لا يهدأ ليلا أو نهارا إلى أن يصبح في إحدى اللحظات شبه مهجور إلا من رجال الشرطة وبعض المحتجين الذي كانوا يشتبكون معهم. وبعد عودة الهدوء إلى الشارع ليلا، تجمع بعض السياح الفضوليين بالقرب من المحتجين، وشاركهم بعضهم الرقص، لكن الحياة في الشارع لم تكن أبدا كالمعهود فيه، غير أن المتظاهرين أصروا على إحياء الليلة بالغناء والرقص، رغم أن بعض زملائهم إما أصيبوا في المواجهات، كحال براق أزباي الذي قال إن صديقته في المستشفى تخضع لعملية ثانية في الرأس بعد أن أصابتها إحدى قنابل الغاز في رأسها، مشيرا إلى أنه يقف بين المحتجين احتراما لها ولرغبتها في أن ترى بلادها «كما عهدناها منذ زمن طويل؛ بلدا لحرية الرأي والمعتقد».

وهذا الشارع كان نقطة الانطلاق لمشروع التغريب الذي بدأ في عهد السلطان عبد المجيد، حيث زاره الرحالة الفرنسي جيرار دي نيرفال سنة 1843، وقال إنه ليس في حاجة إلى مترجم حين يدخل شارع الاستقلال؛ لأن الكل هناك يتكلم الفرنسية. ورغم أن هذا الواقع قد تغير كثيرا مع بدء مرحلة «التتريك» التي نسي معها الأتراك اللغات الأخرى، فإن الشارع ما يزال يعج بالأجانب، وفيه بعض المؤسسات الغربية أيضا. وهو يحتوي الكثير من المباني الأثرية، كما يخترقه مترو قديم أقيم منذ العهد العثماني. ويضم الشارع أيضا العديد من السفارات والقنصليات، مثل القنصلية الأميركية والفرنسية واليونانية والبريطانية.

وخلال السنوات الثلاث الماضية، بدأ الشارع يتحول إلى تجمع للسياح العرب الذين يتوافدون إليه بكثافة لافتة، جعلت الأتراك الذين لا يحبون اللغات الأجنبية ولا يتعاملون معها بسهولة يتأقلمون مع اللغة العربية التي بدأت تغزو لافتات المحال التجارية، كما أن بعض المطاعم وفرت موظفين يتقنون العربية للمناداة على الزبائن والتعامل معهم.