غياب مانديلا محظور ثقافي في جنوب أفريقيا

وراء مظهر ضبط النفس في قريته هناك قسط هائل من مشاعر الألم والمعاناة

ترانيم وأدعية في كنيسة قرية قونو لشفاء مانديلا (نيويورك تايمز)
TT

في الكنيسة الميثودية الكائنة هنا في هذه القرية التي تعد مسقط رأس مانديلا - مجموعة من المنازل المطلية بألوان زاهية وسط التلال المتدحرجة - كانت مجموعة من السيدات تقوم بتدريبها الأسبوعي، لتبعث بألحان موسيقى التراتيل في الحقول المحيطة.

أقيمت مراسم زفاف اثنين من خارج البلد بمركز التراث الذي يحمل اسم مانديلا، في احتفال بهيج تضمن رقصا مثيرا وظهرت فيه ثياب رسمية مهندمة وكعوب عالية لامعة متلألئة.

وعلى منحدر مطل على القرية، هرولت مجموعة من الفتيان المراهقين في مسار معشوشب، ملوحين بالعصي ومرددين الأغنيات، استعدادا لمراسم ختانهم - وهو أحد الطقوس التقليدية التي خضع لها مانديلا قبل نحو 80 عاما.

«في تمام التاسعة اليوم، سأصبح رجلا»، هذا ما قاله إنغا ماييفيلي، 18 عاما، قبل جريه للحاق بالمجموعة. على النقيض من تركيز وسائل الإعلام القوي على صحة مانديلا في مدن جنوب أفريقيا خلال الأسبوع الماضي، بدا سكان هذه القرية الواقعة بالجنوب الشرقي عازمين على المضي قدما في حياتهم على النحو الطبيعي.

قال نوزيبو تيومور، نائب مدير مدرسة قونو الإعدادية، متحدثا عن مرض مانديلا ووفاته المحتملة: «لا نرغب في قبول هذه الحقيقة. نعلم أن هذا اليوم آت لا محالة، لكننا دائما ما نصلي لكي يحدث هذا العام المقبل، وليس الآن». وبالطبع ليس القلق بشأن عدوى الرئة المصاب بها مانديلا، الذي قضى تاسع يوم له بالمستشفى يوم الأحد - أقل درجة بين الناس هنا. إنه موجود بشكل هادئ، تماما كمنزل مانديلا الضخم الخاضع لحماية مشددة الذي بات رمزا لقلقهم الدفين حيال غياب شاغله. لقد نحى بعض السكان جانبا بشكل مهذب تساؤلات تتنبأ بوفاته، التي تعكس أحد المحظورات الثقافية القوية ضد مناقشة مصير شخص مريض.

وقالت نوكوزولا تيتاني، وهي مديرة بمركز «نيلسون مانديلا» للشباب والتراث: «بالنسبة لنا، يشير ذلك إلى أننا نرغب في أن توافي هذا الشخص المنية. نحن ريفيون. وربما لا تكون طريقة تعاملنا مع الألم واضحة». لكن فيما وراء مظهر ضبط النفس الظاهري، هناك قسط هائل من مشاعر الألم والمعاناة. ففي كل ليلة، يؤدي سكان القرية صلواتهم بهدوء في المنازل داعين بشفاء مانديلا. يفتقد الأطفال مشهد طائرة نيلسون المروحية وهي تحلق في عنان السماء، على حد قولها، فيما كان عدم وجود علم لجنوب أفريقيا يرفرف خارج منزله بمثابة تذكرة بدخوله المستشفى لتلقي العلاج.

قالت: «شعبنا في حالة حزن شديد جراء غيابه». في يوم السبت، احتشد أهالي القرية في خيمة بيضاء ضخمة لحضور جنازة فلورينس مانديلا، قريبة مانديلا البالغة من العمر 96 عاما. وإبان المراسم، طمأن ماندلا، حفيد مانديلا، المشيعين، بأن الحالة الصحية للرئيس السابق تتحسن وحثهم على الاستمرار في الصلاة لأجله.

قال مانديلا، الرئيس التقليدي لقرية إمفيزو، المجاورة: «صحته تتحسن». تعتبر قونو أحد المحاور العاطفية في حياة مانديلا. فقد أمضى طفولته المبكرة هنا، حيث عاش مع أمه في مجموعة من الخيم جدرانها من الطين، وكان يجوب المراعي، بينما يعتني بماشية والده أو يتبارز بالعصي مع صبية آخرين. «أحببتها تماما بلا قيد أو شرط كطفل يحب موطنه الأصلي»، هذا ما كتبه مانديلا في سيرته الذاتية «رحلتي الطويلة من أجل الحرية». ما زالت هناك عناصر تذكر بتلك الفترة التي عاشها في قونو، بعضها غير معتاد. يزور السائحون صخرة عملاقة مطمورة بمنحدر تل والتي، على حد قول مانديلا، اعتاد أن ينزلق على سطحها مرارا وتكرارا، وغالبا ما كانت تجرح مؤخرته.

عاد مانديلا إلى قونو بعد الإفراج عنه في عام 1990، بعد انتهاء مدة بلغت 27 عاما قضاها خلف الأسوار في ظل نظام سياسة الفصل العنصري، قبل انتخابه رئيسا في عام 1994. على مدى أعوام، زار قومو في أعياد الكريسماس والمناسبات الأخرى، حيث كان يمكث بمنزله المقام حديثا ويمنح تبرعات سخية للمدارس والفقراء. وعاد للإقامة في ذلك المنزل بشكل دائم في عام 2012، لكنه أجبر على العودة إلى العاصمة بريتوريا، بعد أشهر للخضوع لعلاج طبي لحالته الحرجة.

وفي تسعينات القرن العشرين، اعتاد مانديلا التمشية بأرجاء القرية عند الفجر، يتعقبه حرسه الشخصي، وكان يتجاذب أطراف الحديث مع سكان القرية، على نحو يبعث البهجة في نفوس الأطفال الصغار. ومؤخرا، ظل ماكثا في المنزل - أحيانا يخرج للبوابة لتحية الناس، على حد قول سكان القرية، أو استقبال الضيوف إلى الداخل.

ولكن حتى مع تدهور حالته الصحية، فإن حس الدعابة الذي يشتهر به لم يخبُ، بحسب كثيرين.

تروي أيافيكا غاكسيلا، طالبة المدرسة ذات الأربعة عشر ربيعا والتي زارته العام الماضي، أنهما تشاركا نكتة معا. تروي وهي ترسم على وجهها ابتسامة: «لقد سخر من أخي». لقد أتت نهاية نظام الفصل العنصري، ذلك النظام الذي لعب مانديلا دورا محوريا في القضاء عليه، بتطورات جذرية في قونو، مثلما فعلت عبر أنحاء جنوب أفريقيا. وبفضل المساعدات الحكومية ومعاشات التقاعد المحسنة، بات يتوفر بغالبية المنازل الآن كهرباء وإمدادات مياه جيدة ومراحيض خارجية - وبالطبع، الحق في اختيار الحكومة. ولكن على غرار المناطق الأخرى، تضم قونو عوامل تذكر بإحباطات الديمقراطية - الفساد والجريمة والخدمات الحكومية المتردية ومعدل البطالة المعرقل.

قال واعظ محلي، يدعى لوت مزاووزيوا، وهو يجلس أمام نافذة مطبخه، إن سرقة الأغنام والماشية قد أضحت مشكلة كبرى. وأشار من النافذة إلى مجموعة من الشباب العاطلين الذين يتسكعون أمام متجر بقالة بالجوار. «الناس يسرقون الأغنام لأنهم جائعون وعاطلون»، هذا ما قاله، مضيفا أنه وقع ضحية لهذه السرقات - فقد سرق اللصوص 30 رأسا من أغنامه العام الماضي.

لقد عجزت قونو عن الفرار من آفة العنف الجنسي في جنوب أفريقيا. ففي جنازة يوم السبت، قال ماندلا مانديلا إنه تم اغتصاب وقتل ثلاث نساء مسنات، غير أن المجتمع لم ينبس ببنت شفة عن هذا الأمر. إن مواطني جنوب أفريقيا بحاجة لمجابهة عار «آفة جرائم الاغتصاب» بمناقشتها علنا على الملأ، هكذا قرع المعزين.

حتى هنا، في بقعة من جنوب أفريقيا تضم عددا قليلا من البيض، ثمة آثار متبقية من سنوات الفصل العنصري - على المستويين المادي والمعنوي.

* خدمة «نيويورك تايمز»