مقاتلون من باب التبانة وجبل محسن: السلاح خيارنا الوحيد لنثأر.. ونعيش

أهالي طرابلس يريدون من زعمائهم إطعام أولادهم لا القتال

TT

ما أن تدخل مدينة طرابلس حتى تستقبلك زحمة السير الخانقة وأبواق السيارات. الحركة طبيعية. أبواب المحال التجارية مفتوحة وتستقبل روادها بشكل طبيعي، بينما تحاصر السيارات الفخمة مداخل المطاعم والمقاهي من الجهات كافة. قد يبدو هذا المشهد عن طرابلس، عاصمة الشمال اللبناني، مفاجئا، مقارنة مع الأخبار الواردة من تلك المنطقة والاشتباكات القديمة الجديدة التي يقع ضحيتها عشرات القتلى والجرحى في كل جولة. لكن الدهشة هذه سرعان ما تزول مع التقدم من شارع معروف باسم «الضم والفرز» وصولا إلى حدود محلّة جبل محسن (ذي الأغلبية العلوية)، حيث يجيب الدمار على كل التساؤلات.

في مقابل جبل محسن، منطقة باب التبانة (ذات الأغلبية السنية). أبنيتها مهترئة ومخلفات الرصاصات والقذائف على جدرانها واضحة للعيان. متاريس ودشم تحتل زوايا الأبنية، محلات مقفرة وحركة شبه معدومة. في أحد الشوارع الداخلية في التبانة، تلملم امرأة بقايا «التنك» المتروك، لجمعها ثم بيعها وكسب لقمة عيش أبنائها. تبتسم للغرباء عن الشارع، قبل أن تقول لهم: «أهلا بكم، أنتم الآن في منطقة المحرومين»، ثم تكمل عملها.

غالبية أحياء مدينة طرابلس يتآكلها الفقر، إذ تصل نسبته، وفق دراسة أخيرة أجرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «الإسكوا» إلى 79%. تظهر الدراسة باب التبانة وجبل محسن على أنهما من أفقر أحياء طرابلس وأكثرهما كثافة سكانية. هناك، في تلك البقعة، وجود عدد كبير من الشبان العاطلين عن العمل يعني وجود عدد كبير من المقاتلين المستعدين والراغبين بالقتال كلما اندلعت جولة اشتباكات، محولين مدينتهم إلى مساحة خصبة للصراعات الطائفية والمذهبية.

الانقسام السياسي والطائفي في باب التبانة وجبل محسن ليس جديدا والصراع بين الحيين المتقابلتين تقليدي بامتياز. تبلور في الثمانينات عندما هاجم الجيش السوري المنطقة خلال الحرب الأهلية، فقتل الكثيرين من شباب التبانة واقتاد آخرين إلى السجون السورية ليخرجوا بعد أعوام والحقد يعمي أبصارهم لما عانوا منه من تعذيب على يد الجيش.

وبرغم أن جولة العنف الأخيرة انتهت، لكن أبو بلال، الرجل الخمسيني، لا يزال يجلس في متراسه. يرتشف القهوة ويترقب حركة خصمه «العلوي»، في الجهة المقابلة. قبل أن يتحدث عن تجربته في القتال داخل طرابلس، يروي تفاصيل معاناته مع الجيش السوري، ثم رفضه العيش مع «رواسب» هذا النظام، على حد تعبيره. يقول: «لقد قضيت في السجون السورية مدة سنتين، بعدها أطلق سراحي وعدت إلى منطقتي (باب التبانة) لأجد رواسب النظام لا تزال تتحكم بمصيرنا وتهدد وجود كل من يعارض رئيسهم (الرئيس السوري) بشار (الأسد)، يستحيل أن أتقبل العيش مع هؤلاء القتلة ومشاركتهم نسبي وأرزاقي».

يتهم أبو بلال جيرانه العلويين، المتطرفين منهم تحديدا، بإحراق مصدر رزقه، ويتابع: «لم أجد دولة تحميني أو تؤمن لي القليل لأعيل أولادي فكان السلاح الحل الوحيد للعيش والانتقام»، موضحا أنه «إذا كانت يوميتي 30 ألفا (20 دولارا أميركي) أشتري بـ20 ألف ليرة خرطوش السلاح وأطعم عائلتي بالمبلغ المتبقي».

في عيون أبو بلال طيبة وبساطة لا يستطيع الكلاشنيكوف الموضوع على كتفه إخفاءهما. يقول: «لو أن الدولة وقفت إلى جانبنا لعوّضت خسارتي ورحمتني من الفقر الذي ينهشني. لما كنت حاقدا وكان لمستقبلي معنى». يعتبر نفسه اليوم «ميتا»، و«السلاح هو الوسيلة الوحيدة ليحيا مجددا»، على حد تعبيره.

وأورث أبو بلال حقده على النظام السوري أورثه إلى ابنه البكر «بلال». درّبه على استخدام السلاح وأنزله إلى جبهة القتال من عمر الأربع عشرة سنة، بعد أن تبخر حلمه بأن يصبح فرّانا كأبيه مع حرق فرن والده. لم يتعلم مثل أقرانه انطلاقا من أن «العلم للذوات فقط»، يقول بلال ساخطا.

صحيح أن في المنطقة عددا محدودا من المدارس الرسميّة، لكن المفارقة أن لكل منها انتماءه الطائفي أيضا. المدرسة الرسمية في جبل محسن يدخلها فقط الطلاب العلويون، أما مدرسة البيان في التبانة فهي حكر على الطلاب السلفيين. فرز تربوي يزيد من حدة الاحتقان في نفوس التلامذة من المنطقتين.

«لا حلم لي ولا مستقبل أعمل على إنجاحه، فلماذا أتعلم؟»، يتساءل بلال بلكنة طرابلسية حادّة، معتبرا أن «أولاد الأحياء الفقيرة محكوم عليهم بالحرمان طيلة حياتهم». ورغم أن بلال شاب في مقتبل العمر، لكنه يتحدث بلغة رجل خمسيني مهموم، كما لو أنه فقد ثقته بكل من حوله. وحده المسدس الذي يضعه على خصره يرافقه في كل تحركاته. يقول إنه «حرم من اللعب بالطابة (الكرة) وأكل طعام (الأكابر) والذهاب إلى المدرسة والضحك»، وأن الحياة منحته «الانتقام والحقد على ناس لا يرحمون أحدا». ويصر على أنه لن يستكين قبل أن يأخذ «ثأر أبيه».

بينما يهمّ بلال بشحذ سلاحه، يعلو صوت من الرصيف المقابل ساخرا. يقول صاحبه من دون أن يسأله أحد: «هذا السلاح من صنع عدوتنا إيران. اشتريناه من جماعة حزب الله». المتحدث هو أبو خليل: «قائد محور» في التبانة يتولى عملية شراء الأسلحة. يدعي أنه «يشتري السلاح من جبل محسن وبعض قادة المحاور هناك»، ثم يؤكد أن «أسلحتنا سورية وإيرانية الصنع، يبيعنا إياها حلفاء النظام من سوريا وخارجها». ويضيف مبتسما: «نحن شركاء في صفقات الأسلحة لنقتل بعضنا».

لأبو خليل أقرباء قتلوا أيضا على يد «العلويين» في شارع سوريا، الفاصل بين باب التبانة وجبل محسن. ويشير إلى أنه «يحارب العلويين ليدافع عن الشعب السوري الذي يقتّل في القصير وسوريا من دون رحمة». ويصب المقاتل الميداني جام غضبه على حزب الله، معتبرا أن «الحرب خارجية لكن حزب الله جلبها إلى لبنان بسبب قتاله في سوريا وأججها في الداخل لمصلحة بشار الأسد وطغيانه».

لقد أظهرت جولة العنف الأخيرة، بما لا يقبل الشك، فقدان الزعماء السياسيين سيطرتهم على المدينة. ويوضح مصدر ميداني في التبانة أن الزعماء فقدوا نفوذهم في طرابلس، حتى تمرّد المقاتلون عليهم ومنهم مجموعتا زياد علوكي والمصري.

المفارقة أن المتقاتلين من المنطقتين يتقاتلون ثم يتصالحون. يقول أبو خليل: «شخصيا لا أكن ضغينة على العلوي بشخصه. بعد انتهاء القتال إذا صادفت صديقي العلوي مثلا، أقابله بالتحية والتصبيح برغم تأكدنا من أننا كنا نقاتل بعضنا على المحاور في الاشتباكات».

على بعد أمتار، يجلس أبو علي في الجهة المقابلة. هو أيضا قائد محور في جبل محسن. يتحدث بلهجة الحقد ذاتها التي ينطق بها أهالي التبانة. يتهمه بذبح أخيه حسن لأنه علوي فقط، ويتوعّد كل سلفي مقاتل على الجبهة بسفك دمه من دون رحمة.

وإذا كان أهالي التبانة يلقون باللوم على النظام السوري، فإن أبو علي يشدد على أن «السوريين وحزب الله حمونا من الطغيان الإسرائيلي، ودعمونا بالسلاح للدفاع عن أنفسنا بوجه التطرف المذهبي والديني الذي لا يتقبل وجودنا منذ سنين ويحاربنا اليوم ويريد تهميشنا داخل بلدنا».

ويعتبر هذا المقاتل أن «السلاح» هو سبب صمود جبل محسن وتسليمه يتطلب ضمانات لن يثق بمصداقيتها بوجود قوى لبنانية تقف بوجه النظام السوري وتمد ميليشيات المعارضة السورية بالسلاح. يختصر الواقع المرير الذي تعيشه طرابلس بقوله: «كره وحقد زرعا في قلوبنا وذكرياتنا، لا مستقبل لنا ولا قضاء يأخذ بثأرنا، كنّا أصدقاء وجيران وأصبحنا أعداء على محاور القتال بفضل دولتنا»، يقولها بسخرية وازدراء.

من ناحيته، يقول عضو المكتب السياسي في «الحزب العربي الديمقراطي» علي فضة لـ«الشرق الأوسط» إن ثمة «علاقة تاريخية جيدة تربط جبل محسن بباب التبانة»، مؤكدا أن «العداء ليس شخصيا، لكنه قائم مع الجماعة السلفية المتطرفة وجبهة النصرة، التي فرضت على منطقة باب التبانة حرب الجبهات». ويعتبر فضة أن «حل النزاع القائم مع (وحوش) باب التبانة»، على حد وصفه: «تخطى الحلول السياسية». ويتهم «تيار المستقبل (بقيادة سعد الحريري) وحلفاءه بتنفيذ اعتداءات سياسية ضد علويي الجبل، تتمثل بتحليل ذبحهم وإباحة أعراض نسائهم وحرمانهم من المشاركة في السلطة السياسية». ويعود بعد ذلك ليشدد على «العلاقة الممتازة والمتينة مع النظام السوري، باعتباره الضمانة الأساسية التي تحمي وجودهم كأقلية في جبل محسن».

الحقد المتبادل بين المنطقتين المتجاورتين لا ينسحب على جميع السكان. فأم أحمد، مثلا، سيدة طرابلسية زادت الهموم من تجاعيد وجهها، فقدت ابنها الصغير عمر، 22 عاما، في إحدى جولات العنف برصاص قناصة من جبل محسن، أثناء شرائه «منقوشة» من فرن مجاور للمنزل. صحيح أن الخبر نزل عليها «كالصاعقة»، وهي التي رعت عائلتها بمفردها بعد أن فقدت زوجها، لكنها تشدد على أن جيرانها وأصدقاءها هم من الشيعة والعلويين ونحن نخدم بعضنا بكل طيبة ومحبة. تؤكد أن «القناص المجرم» الذي قتل ابنها لم ينجح في «إشعال الحقد في قلبي»، على حد تعبيرها. تأمل وهي تذرف الدموع أن يكون دم ابنها «عمر» سببا «ليتعظ المجرمون ويتوقفون عن تنفيذ سياسات خارجية على أرض طرابلس».

المشهد السوداوي في طرابلس لا يمنع عجوزا مسنا يسير على تخوم الجبل من ترداد أغنية شعبية: «الأسواق والآثار والأحياء الشعبية.. طرابلس صحن الفول الصبح والمينا عالضهرية والمسا سهرة الاهولي والجيران»، آملا أن تعود المدينة قريبا إلى سابق عهدها من الرخاء والازدهار والطمأنينة.

تساهم الظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية التي يعيشها أهالي باب التبانة وجبل محسن في تأجيج حقدهم الدفين في قلوبهم منذ سنين. وتتحمل أطراف سياسية وحزبية مسؤولية استغلال طاقات شبابها في حرب لم ترأف بأهل المدينة ولا أرزاقهم. والقاسم المشترك بين أهالي المنطقتين المختلفتين في مواضيع كثيرة هو ترداد السؤال ذاته: «أين الدولة من فقرنا وحاجتنا؟». فقر وحرمان وتسلّح عشوائي وأمية تتغلغل في أنحاء باب التبانة وجبل محسن. وحدها أم أحمد تعرف الجواب: «ما في دولة أوادم يا بنتي».