ليلة الاشتباكات: صيدا تخاف الفتنة وأهلها يرفضون تحويلها «خط تماس»

«حظر تجول قسري» وقلق من الانفجار في أي لحظة

مدنيون يفرون من الاشتباكات بين الجيش اللبناني والمسلحين من المتشددين في منطقة عبرا في صيدا أمس (رويترز)
TT

قبل ساعات قليلة من اشتعال جبهة صيدا، بعد ظهر الأحد الماضي، كانت الأجواء القاتمة تخيم على كل الأحياء والمناطق. من الكورنيش البحري وحارة صيدا إلى الهلالية وعبرا مرورا بمختلف الأحياء والشوارع. هي الوجوه المتجهمة نفسها والهدوء المخيف عينه. «حظر تجوّل قسري». الشواطئ ومقاهي الكورنيش خالية من روادها. وكأنّ مشاهد يوم الثلاثاء الأليم، تحولت كابوسا يعيشه أبناء صيدا غير مصدقين كل الوعود التي تطمئنهم بأنّ ما حصل لن يتكّرر، خائفين من انفجار الوضع في أي لحظة.

رفض الفتنة الطائفية والمذهبية يبدو حقيقيا في بعض الحالات، لكنه ليس كذلك، في حالات أخرى، تعكس مدى هذا الانقسام، ليس ضمن العلاقات الاجتماعية فقط في صيدا، إنما بين العائلة الواحدة، حيث الانفصال السياسي قد يؤدي عند أي مواجهة جديدة إلى انفصال زوجي. ما يحصل مع الصيداوي محمد كيلو المتزوج شيعية، يعكس حقيقة هذه الصورة المشوّهة. يجاهر محمد بآرائه السياسية والمذهبية مدافعا عن القضية التي يحملها الشيخ أحمد الأسير. يقول لـ«الشرق الأوسط»: «الجميع خائف. وعدد كبير من العائلات خرج من المنطقة. زوجتي هربت أيضا مع أولادي الصغار إلى بيت أهلها في النبطية». هنا، يستطرد كيلو متحدثا عن انفصال «سياسي» بينه وبين زوجته وصل إلى أقصاه: العلاقة اليوم مقتصرة على التواصل عبر الهاتف.

في المقابل، يصف محمد، صاحب محل للخضار في حارة صيدا، ما يحصل بـ«المهزلة»، قائلا: «لا تهدئة ولا هدوء. ما في النفوس يعكس مدى الخوف والانقسام بين أبناء البلد الواحد». ويضيف: «من يقول إنه يريد محاربة سلاح حزب الله هو واهم. هذا السلاح هو شرفنا وعزتنا».

وكما كل المواقع الحساسة أمنيا وسياسيا، كانت تحيط حواجز الجيش اللبناني بمسجد «بلال بن رباح» وأمامه الشيخ أحمد الأسير في عبرا. تحول المكان بفعل الانتشار المدني المسلح التابع لمناصري الأسير إلى مربّع أمني فيه ما يكفي من «الدشم الترابية» وكاميرات المراقبة، ويحتاج اجتياز الحواجز إذنا من مجموعة الأمن التابعة له.

«الاحتياط واجب وما حصل يفرض علينا أن نبقى حذرين مما قد يحصل في أي لحظة»، يقول أحد مناصري الأسير لـ«الشرق الأوسط». يشير إلى مبنى قريب على بعد أمتار قليلة، يقول إن حزب الله استولى على 4 شقق فيه وعمد إلى تخزين الأسلحة فيها. يتمركز على مقربة منه حاجز آخر ودبابة تابعة للجيش اللبناني. يضيف الشاب العشريني المتحمس: «الأسلحة والقذائف الصاروخية التي استخدمت يوم الثلاثاء الماضي، خير دليل على ما نقوله»، ويسأل بانفعال: «هل يريدون محاربة إسرائيل من هنا؟ يقاتلون المعارضين في سوريا ويتهمونهم بأنّهم تكفيريون، فما الذي سيمنعهم من تصويب هذا السلاح إلينا؟».

وإذا كانت طرقات صيدا وأحياؤها شبه خالية من المارة والسيارات، فإن محيط المسجد، بات شبه خال حتى من السكان. تأتي الحاجة زاهرة خليفة دقدوقي، بعد غياب أربعة أيام عن منزلها لتفقده والعودة مجددا إلى منزل ابنتها في منطقة الدبية في الشوف بجبل لبنان، حيث هربت مع زوجها وابنها. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «سمعنا أنّهم توصلوا إلى تهدئة، لذا أتيت لتفقد منزلي». وتسأل: «كيف يمكن لمسلمين أن يقاتلوا بعضهم باسم الدين؟ الموت واحد والخاسر هم الشباب والأطفال والرابح فقط هما إسرائيل وأميركا». تضيف الحاجة: «زوجي سني من إقليم الخروب وأنا شيعية من الجنوب. لسنا مع أحد ولا نؤيد أي جهة». وإذا كانت الحاجة دقدوقي، قد وجدت مكانا تهرب إليه فإن عائلات صيداوية أخرى كانت تحاول البحث عن مكان آمن، وهذا ما قامت به سامية وشقيقتها اللتان استأجرتا «شاليه» في أحد المنتجعات في مناطق الشوف، بعدما عمدتا إلى إلغاء تسجيل أولادهما في المخيم الصيفي.

أما على الكورنيش البحري، فالشواطئ الخالية إلا من عدد قليل من صيادي الأسماك الذين يبحثون عن رزقهم في البحر. وها هو محمد، سوري الجنسية، يقف في محاذاة الكورنيش إلى جانب «إكسبرس» المقهى الذي يملكه، تحت أشعة الشمس الحارقة ينتظر الزبون الذي سيأتي ليكون فاتحة نهاره الطويل. ويقول لـ«الشرق الأوسط» «بعدما كانت غلة اليوم الواحد تصل إلى 100 دولار أميركي، بتنا ننهي يومنا بما لا يزيد على 7 دولارات». حال محمد لا يختلف عن وضع زملائه في المقاهي والمطاعم المجاورة. «بعدما كنا نقدّم القهوة للزبائن أصبحنا نجلس مكانهم ونشربها بدلا عنهم». هكذا يصف أحمد الحركة اليومية في المقهى حيث يعمل.

بات الوضع الأمني والاقتصادي يكبّل حياة الصيداويين. يقول أحمد: «نعيش على التهويل والشائعات اليومية التي يتم تناقلها لتخويف كل الناس بغض النظر عن المذاهب والطوائف». معتبرا أنّ طرفي النزاع في صيدا مخطئان، ويتابع «الشيخ الأسير محق في مطلبه، إنما أخطأ في التوقيت والأسلوب والطريقة التي يعتمدها لمواجهة حزب الله، بينما لا نرى سببا في نقل الأخير أسلحة إلى صيدا واستفزاز أهلها»، على حد تعبيره.

من جهته، يرى خليل أخضر، صاحب مؤسسة تجارية في سوق صيدا القديم، أنّ «هناك من يحاول اللعب بالطرفين اللذين يفتقدان إلى مرجع حكيم يحلّ الأمور لإبعاد شبح الفتنة عن المدينة». يقول إن هؤلاء «يلعبون على وتر الغرائز الطائفية، ويبدو واضحا أنّهم يحاولون تحويل صيدا إلى (خط تماس) في مقابل (الخط) الموجود في طرابلس، بينما الدولة لا تزال غائبة». ثم يضيف: «لكن الواقع يجعل هذا الهدف صعب التحقيق. المناطق متداخلة مع بعضها. لا حدود أو أحياء تفصل بين السنة والشيعة. فحارة صيدا التي يقولون إنها محسوبة على الشيعة، يكاد عدد العائلات الموجودة فيها يتساوى بين الشيعة والسنة، حتى إنّ الذين ينتمون إلى الثانية باتوا أكثر بعد انتقال الكثير منهم من مناطق قريبة إليها».