«عين الحلوة» يستقبل عباس بـ«النأي بالنفس» عن أحداث سوريا ولبنان

30 % من شباب المخيم مطلوبون ولم يخرجوا منه منذ سنوات خوفا من الاعتقال

تدقيق في الهويات والوجوه وعيون تترصد بعناية حركة المارة وتتابع خطواتهم.. خط سيارات طويل ينتظر عند نقطة تفتيش أمنية للحصول على إذن بالمرور
TT

حصار عسكري عند المداخل كافة.. خط سيارات طويل ينتظر عند نقطة تفتيش أمنية للحصول على إذن بالمرور.. تدقيق في الهويات والوجوه وعيون تترصد بعناية حركة المارة وتتابع خطواتهم.. هكذا هو المشهد على مداخل مخيم عين الحلوة الفلسطيني، الواقع في جنوب لبنان، الذي يزوره الرئيس الفلسطيني محمود عباس اليوم حاملا معه تطمينات بتحييد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين عن التورط في أي حوادث لبنانية داخلية.

قد يخيل لزائر المخيم للمرة الأولى أن من يعيشون في هذا المكان هم مجموعة من الأشخاص الخطرين، المحاصرين أمنيا في بقعة واحدة، لا 80 ألفا من اللاجئين الفلسطينيين. في الداخل معاناة يعيشها أبناء المخيم: بيوت عشوائية لا تدخلها أشعة الشمس، أولاد يجعلون من برك مياه الصرف الصحي وسيلة لتسليتهم، كابلات الكهرباء المعلقة بين المنازل تحجب رؤية السماء، وبين كل شقة وأخرى عناصر أمنية متأهبة بسلاحها لضبط الأمن في الشارع الخاضع لسيطرة فصائلهم.

يمشي جوني، رجل أربعيني، بقدم ثقيلة متعرجا. يضحك ساخرا على العناصر الأمنية الفلسطينية التي تحرس زوايا المنازل. يقول «لدينا 16 فصيلا منظما في كل شارع في المخيم، وبات بإمكان كل 3 شبان التجمع وإعلان أنفسهم جبهة وطنية»، لكنه يشير إلى أن «الأكثر شعبية على الأرض عمليا هم حركة فتح، وإن كان نفوذهم قد تراجع مع ظهور حركة حماس والجبهة الديمقراطية». ويوضح أن «أمن المخيم لا يقتصر على طرف واحد وإنما بحاجة إلى تكاتف فصائله الـ16 لحفظ الأمن بداخله واستقراره».

الأحداث الأخيرة التي شهدتها مدينة صيدا، نتيجة الاشتباك بين عناصر الشيخ أحمد الأسير والجيش اللبناني، أرخت بثقلها على مخيم عين الحلوة، خصوصا بعد محاولة عناصر من «جند الشام» مؤازرة الأسير، وحدوث اشتباكات محدودة في تعمير عين الحلوة، سرعان ما تمت السيطرة عليها، ومن ثم الأنباء عن لجوء الأسير نفسه إلى المخيم، على غرار ما فعله قائد تنظيم «فتح الإسلام» شاكر العبسي إثر اشتباكات مخيم نهر البارد، شمال لبنان.

يدرك غالبية قاطني المخيم حساسية الوضع الأمني في صيدا. يعتبر جوني، وهو سجين سابق في السجون الإسرائيلية والسورية، أن مخيم عين الحلوة «جزء لا يتجزأ من مدينة صيدا، وأن أمن المخيم مرتبط بأمن المدينة»، لافتا إلى أن «الاشتباكات الأخيرة سببها ظاهرة اسمها أحمد الأسير لا علاقة للمخيم به، استخدم الشقق السكنية التابعة لحزب الله كذريعة لشن هجوم عسكري عليهم، ونحن بمنأى عن هذه الأحداث».

لكن جوني، المقاتل السابق في حزب البعث العراقي، يشير إلى أن «لحزب الله شققا في عبرا منذ زمن طويل». ويقول «عندما كنت أحارب إلى جانب نظام (الرئيس العراقي الراحل) صدام حسين في حزب البعث العراقي، علمنا بوجود شقق أمنية في منطقة عبرا تضم أسلحة لحزب الله اعتقدنا وقتها أنها تستهدف وجودنا خصوصا أن سياستنا ضد النظامين السوري والإيراني لا تتوافق مع سياسة الحزب». ويتابع «توجهنا حينها إلى الشيخ جمال سليمان، زعيم حركة أنصار الله، وطلبنا مساعدته، فاتصل بقيادات حزب الله في صيدا للاستفسار، وأكدوا له أن هذه الشقق هي إمداد لوجيستي لدعم مقاتلي الحزب في إقليم التفاح للصمود أمام مقاتلي حركة أمل آنذاك، وما زالت هذه الشقق الأمنية موجودة حتى اليوم».

يدفع الوضع الأمني المتوتر في لبنان والقابل للاشتعال في أي لحظة على وقع الأزمة السورية قادة الفصائل الفلسطينية، تحديدا في مخيم عين الحلوة، إلى تأكيد سياسة «النأي بالنفس» عن الشؤون اللبنانية والعربية، محتفظين في الوقت عينه بحقهم في المقاومة ضد إسرائيل. ويقول قائد كتائب شهداء الأقصى اللواء منير المقدح، لـ«الشرق الأوسط»: «الفصائل الفلسطينية بمخيم عين الحلوة متفقة جميعها على عدم التورط في الداخل اللبناني والسوري»، لافتا إلى أنه «زار الأسير في وقت سابق وطلب منه تجنب توريط أي عنصر فلسطيني في القتال السوري لكي لا يجر المخيم إلى صراعات نحن بغنى عنها». ويتابع «آخر نصيحة قدمتها له هي تجنب إعلان التنظيم الأمني لأنه سيخسر شعبيته، وها هو اليوم خسر كل شيء».

يحمل المقدح بشدة على الشائعات التي تحدثت عن احتماء الأسير في المخيم بعد فراره من مربعه الأمني. ويقول بسخرية «لا أعلم كيف انتشرت الشائعات عن وجود معبر تحت الأرض يوصل مسجد بلال بن رباح بمخيم عين الحلوة، إذ كيف يمكن حفر نفق إلى تلة؟». ويكشف عن «اتصالات أجراها الأسير مع قوى إسلامية فلسطينية أخرى لاستقباله في المخيم خلال الاشتباكات، لكن الرد جاء بالرفض بسبب عدم قدرتنا على تحمل عبء الأسير ومشاكله وحدنا».

ويقاطع رئيس جبهة الديمقراطية فؤاد عثمان كلام المقدح، ليقول «حتى منطقة التعمير المحاذية للمخيم والتي يسكن فيها بقايا (جند الشام) لم تستطع استقباله نظرا لسيطرة الجيش اللبناني على جزء كبير منها». في منطقة التعمير الملاصقة للمخيم، يعيش عناصر «جند الشام» في شارع صغير يضم 4 أبنية صغيرة، ويصفهم غالبية أبناء المخيم بـ«المتطرفين». هم انفصلوا عن «عصبة الأنصار» ورفض رئيسهم الشيخ أبو عبيدة إعلان القوى الإسلامية القتال إلى جانب المعارضة السورية. قرابة 140 عنصرا منهم، يبلغ أكبرهم من العمر 40 سنة، أعلنوا الجهاد في سوريا إلى جانب الشيخ الأسير.

الدخول إلى شارع جند الشام والتحدث إلى قاطنيه ليس بمهمة سهلة. نظرات مخيفة يرمقون بها كل غريب في الحي. آثار القصف بعد اشتباكات عبرا واضحة على الأبنية. ورغم إصرار أحدهم على «اننا لا نتحدث للصحافة»، فإنه لا ينفي المشاركة في الاشتباكات إلى جانب الأسير. يجيب بحزم وانفعال «طبعا، شاركنا وسنشارك ضد حزب الله وسوريا وإيران المستبدة»، مضيفا «هذا القصف الذي تشاهدونه ناجم عن قذائف حزب الله. لقد أوهموا الناس بأن الجيش اللبناني هو الذي سيطر على القتال في عبرا».

المشترك بين هذا الشارع وشوارع المخيم الأخرى هو التهميش والحرمان. يتفقد المقدح برفقة موكب مسلح أمن المخيم. يترحم على صورة مرفوعة للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، قبل أن يؤكد أن زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت اليوم «مفيدة جدا». ويقول «ستقتصر زيارة الرئيس عباس على لقاء الرئيس اللبناني ميشال سليمان، ولن يزور المخيمات الفلسطينية»، لافتا إلى أن الهدف من زيارته «طمأنة الدولة اللبنانية حول عدم تدخل الفصائل الفلسطينية في الشؤون اللبنانية وتحييد المخيمات عن أي نزاعات داخلية وخارجية حتى».

ويصف المقدح عباس بأنه «مسالم». ويستعيد كيف حشد (المقدح) منذ نحو 8 أشهر «نحو 200 مسلح للذهاب إلى سوريا وإنقاذ اللاجئين الفلسطينيين في مخيم اليرموك من القصف، إلا أن قرار الرئيس جاء بالرفض المطلق وعدم حمل السلاح داخل سوريا لأنه قد ينعكس سلبا على وجودنا، فنحن لاجئون عندهم».

على جانبي شوارع المخيم، عشرات من الشبان والزمر، بعضهم نزح من سوريا وتحديدا من مخيم اليرموك. حالات بطالة وفقر وأمية وتهميش وحرمان تزيد كلها من الاحتقان في النفوس. محاولة لجنة المتابعة المسؤولة عن أمن المخيم إنشاء ناد رياضي لتسلية هؤلاء لم تجد نفعا بعد أن تكاثرت أعداد النازحين من سوريا وتكاثرت المشاكل والنزاعات الفردية. هذا الواقع يضاف إلى واقع أن قرابة 30 في المائة من شباب مخيم عين الحلوة مطلوبون للعدالة، ومعظم هؤلاء لم يخرج من المخيم منذ سنوات، خوفا من الاعتقال، باعتبار أن الجيش اللبناني غير مخول بالدخول إلى المخيمات، يرابض على مداخله ومخارجه كافة.

«الشبل»، لقب أحد أولئك الشبان. رجل ثلاثيني، يجلس على كرسي في نهاية أحد شوارع المخيم. يحمل سلاحه ويمضي وقته في تنظيفه. مضت أكثر من 18 سنة من دون أن يغادر المخيم بسبب تخوفه من توقيفه بعد أن صدر حكم بسجنه بسبب تورطه في أحداث 13 «أيلول الأسود»، على حد تعبيره. «لقد فقدت كل شيء، وظيفتي وأصدقائي وحياتي كلها، أصبح السلاح والعمل كمرافق أمني مقابل 200 دولار شهريا هو السبيل الوحيد للعيش»، يقول الشبل، مشيرا إلى قرار صدر منذ سنوات بالعفو لكنه لم يشمل الفلسطينيين. ويضيف «أغلب المطلوبين للعدالة محكوم عليهم بجنح سياسية».

يستعيد الشبل بحماسة حادثة جرت خلال عدوان إسرائيل على لبنان في شهر يوليو (تموز) 2006، قائلا «اشتد القصف الإسرائيلي يومها، وجهزنا أنفسنا وشكلنا خطا طويلا من الرشاشات على حدود المخيم إلى جانب الجيش اللبناني، الذي تعطل أحد مدافعه فطلب مني المساعدة لإصلاحه». ويضيف «ذهبت إليهم وفي قلبي خوف كبير من أن يكتشفوا أنني مطلوب للسلطات اللبنانية، أصلحت المدفع وهربت مباشرة. كنت خائفا من اعتقالي أكثر من خوفي من القصف الإسرائيلي، أدفن نفسي حيا ولا أسلم نفسي».

يعود وجود السلاح في مخيم عين الحلوة إلى نحو 20 عاما. بعد انتهاء فصول الحرب الأهلية اللبنانية، تسلم الجيش اللبناني السلاح الثقيل، فيما أبقت الفصائل الفلسطينية على الأسلحة الخفيفة والمتوسطة. يقول مصدر أمني قيادي في المخيم، يرفض الكشف عن هويته، إن تسليم السلاح الفلسطيني في ظل التسلح المنتشر بين الأحزاب اللبنانية والذي يهدد وجودهم كلاجئين، لا يمكن أن يحصل»، مؤكدا أنه «حتى لو تم تسليم كل الأسلحة إلى الجيش اللبناني، إن حصل ذلك، سنبقى على موقفنا ولن نسلم خوفا من تكرار مجازر صبرا وشاتيلا مرة أخرى»، على حد تعبيره.

بعيدا عن الوضع الأمني المتوتر والتخوف من استدراج المخيم إلى مأزق ما، يبدو الوضع الإنساني والاجتماعي مترديا. يتعدى عدد القاطنين في المخيم اليوم عتبة المائة ألف فلسطيني، يعيشون كلهم على مساحة كيلومتر مربع واحد. وفاقم وصول عدد كبير من النازحين الفلسطينيين من سوريا الوضع سوءا، وتضاعفت معاناة سكان المخيم. ووفق دراسة أجرتها الأونروا، تصل نسبة البطالة والأمية في مخيم عين الحلوة إلى 70 في المائة.

يتقاسم أهالي مخيم عين الحلوة اليوم عيشهم مع النازحين الفلسطينيين من سوريا إذن، بإمكانيات ضئيلة ومحدودة. يعالج أطباء المخيم المصابين والمرضى منهم في مستشفى تبرعت المملكة العربية السعودية بكل تجهيزاته عام 2007، وقصف قسم كبير منه خلال اشتباكات عبرا. أم حسام، أم فلسطينية هربت من سوريا بعد أن أطلق الرصاص على رأس ابنها البكر حسام في مخيم اليرموك بسبب رفضه المشاركة في القتال إلى جانب القوات السورية النظامية. تقول بحرقة «أطلقوا النار عليه، وهو طالب جامعي يدرس اختصاص الأدب العربي وعمره 23 عاما. تسببت إصابته البليغة في شلله. تهدم المخيم وهربنا جميعنا من القصف المستمر على خيمنا وبيوتنا».

على بعد أمتار منها يجلس رجل مسن على كرسي خشبي، يضع الكوفية الفلسطينية على رأسه، ويتكئ على عصا مزخرفة، ويتحدث عن «أوجاع فلسطين التي بيعت بأثمان رخيصة»، على حد تعبيره. يقول «حرمنا من أرض البرتقال والزيتون، لجأنا إلى لبنان فوجدنا أنفسنا نعيش هنا في مخيم عين الحلوة، اعتقدنا أنها سنين قليلة وبعدها نعود إلى قدسنا، إلا أن هذه السنة أصبحت مائة، والمصير يبقى مجهولا».