نزهة ليلية قرب ميدان تقسيم بإسطنبول تتحول إلى كابوس

«الشرق الأوسط» ترصد لحظات رعب في محيط الساحة

TT

بدأ الأمر نزهة في شارع «استقلال»، لكن لم تمضِ سوى ساعة فقط، حتى كنت في زقاق ضيق، أختبئ خلف عربة خبز دون أدنى فرصة للتقهقر، عندما شرعت قوات الشرطة في إطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع في شارع التسوق الرئيس بإسطنبول. كان الغاز ذاته سيئا، بدأ الأمر بالدموع أولا، ثم صعوبة في التنفس. لكن أكثر ما خشيته هو طلقات الرصاص، التي يبدو أن الشرطة أطلقتها على المتظاهرين دون تمييز على الرغم من أنهم لم يفعلوا شيئا لإثارتهم.

شهدت إسطنبول، الليلة قبل الماضية، عودة مظاهرات حديقة «جيزي» إلى الاشتعال مجددا بعد ثلاثة أسابيع من الهدوء النسبي في المدينة. كان السبب في اشتعال المظاهرات مجددا بيروقراطيا محضا؛ إذ ألغى القضاء قرار الحكومة بإعادة تطوير الحديقة. لكن هذا دفع المحتجين، الذين تحلوا بالخبرة الآن بعد أن كانوا هواة قبل شهر واحد فقط، إلى النزول مرة أخرى إلى الشوارع المحيطة بميدان «تقسيم» للمطالبة بأن تعود حديقة «جيزي» مرة أخرى إلى الشعب، كما ينص القانون الآن. ومنذ أن طردوا من الحديقة في 15 يونيو (حزيران)، تم شغل الحديقة بطريقة مختلفة جدا، فقد كان رجال الشرطة يمنعون أي شخص من الدخول والاسترخاء أو الإطالة في الاسترخاء في غير أوقات الذروة.

كنت أعرف أن الاحتجاجات ستحدث، لكني لم أتوقع أن تتحول إلى ما انتهت إليه. فقد مرت المظاهرات الأخرى التي شهدها الأسبوع الحالي في إسطنبول بسلام، واعتقدت بسذاجة أن هذه المظاهرة ستكون سلمية أيضا. لذا خططت للقاء صديقة لتناول العشاء في «تقسيم»، وكانت تسير بين مجموعات متفرقة من المتظاهرين في شارع «استقلال»، وعندما أطلقت الجولة الأولى من الغاز المسيل للدموع، تفرق الجميع، وفي لحظة واحدة، وبدأ الجميع في الركض إلى الخلف تجاهي، يحتشدون في الأزقة والمحلات التجارية، يستشعرون بأن شيئا سيئا على وشك الحدوث، انضممت لهم. وبعد ثوان قليلة جاء صوت الضجيج، ثم جاء الغاز.

كنت عالقة في وضع بالغ السوء في آخر زقاق مسدود أرتدي «الشيفون» دون وقاية من الغاز، حيث كانت سيارات تطلق الغاز على بعد 15 مترا فقط. بدأت عيناي تنهمر منهما الدموع في البداية، ثم أصاب الغاز رئتي وبدأت في السعال دون توقف. كان هناك أربعة أشخاص آخرين بجواري غرباء محاصرين معا في أغرب موقف. لم نتكلم لكننا فعلنا الشيء ذاته؛ أسندنا ظهورنا بشدة إلى الحائط ورؤوسنا إلى أسفل العربة حتى لا يتنبه إلينا رجال الشرطة داخل الشاحنات. كنا جميعا نعرف أننا ضعفاء، واخترنا المكان الخطأ لنفرّ إليه، ورأينا من خلال السياج العالي عشرات آخرين يهربون عبر زقاق موازٍ للطريق الرئيس. لكننا لم نتمكن من الانضمام إليهم، لأن ذلك سيوجب علينا أن نعود إلى شارع «استقلال» لسيل قنابل الغاز المسيل للدموع.

اختبأنا لعشر دقائق وراء عربة الخبز، وراقبنا شاحنة الشرطة وهي تتراجع في الشارع مستهدفة الزقاق المجاور لنا. كان لا يزال مكتظا بالمتظاهرين، وفتحت الشرطة مدافع المياه باتجاههم. كنت خائفة للغاية مما قد يحدث إذا ما علموا بمكاننا، وأطلقوا باتجاهنا قنبلة مسيلة للدموع.

عندما تراجعت سيارة الشرطة مسافة كافية، ركضنا نحو الزقاق الآخر. كانت الأرض مخضبة بالدماء وزلقة، ولذا حاولت الجري دون أن أسقط خشية أن تطلق الشرطة قنبلة أخرى من الغاز المسيل للدموع باتجاهنا، كانت عيناي لا تزالان مغرورقتين بالدموع والماكياج وأسعل بشدة، إلى أن عثرت على مخرج إلى الشارع في نهاية الزقاق وجلست حتى يزول أثر الغاز. وعندئذ التقيت محمد (ليس اسمه الحقيقي) الذي سكب الحليب في يدي وطلب مني أن أمسح به وجهي. وبعد دقيقة هدأ ألم عينيّ والسعال. قال لي محمد إنه مهندس كومبيوتر ولم يشارك في مظاهرة واحدة في حياته، لكنه قرر في الليلة الثالثة من مظاهرات حديقة «جيزي» أن ينضم إلى المتظاهرين. قال لي: «صرح (رئيس الوزراء رجب طيب) أردوغان في الخطاب الذي بثه التلفزيون قائلا إن إعادة تطوير الحديقة ستمضي قدما، مهما كلف الأمر. هذا الأمر أغضبني بشدة، وشعرت بضرورة الانضمام إلى المتظاهرين. وعندما وصلت إلى (تقسيم) وجدت الآلاف من الأشخاص الذين كانوا مثلي تماما».

في هذا الشارع الأكثر هدوءا، تطلعت حولي إلى المتظاهرين. كان هناك كثير من الشباب المجهزين تجهيزا جيدا بنظارات واقية وأقنعة الغاز. كانوا يهللون بسعادة بالغة، بينما كان السائحون المتخوفون يسارعون في النزول من سيارات الأجرة خارج فندق «مرمرة»، ويركضون إلى الداخل مع حقائبهم أسرع من تراجع المحتجين أمام قنابل الغاز المسيل للدموع. لكن كان هناك أشخاص كبار السن جدا؛ العشرات منهم. لكني لم أرَ أيا منهم يهاجم الشرطة خلال الساعتين اللتين قضيتهما في المظاهرة.

فتش محمد في حقيبة الظهر الخاصة به، وأعطاني قناعا ونظارات واقية، واخترنا طريقنا عبر الأزقة الخلفية خلف شارع «استقلال» للوصول إلى الخطوط الأمامية للاحتجاجات. عندما وجدناها رأينا أن المتظاهرين قد أقاموا حاجزا منخفضا، وكانوا واقفين خلفه متحدين الشرطة. ولكن الغاز المسيل للدموع انطلق مرة أخرى، ليدفعهم وإيانا إلى الأزقة الجانبية. كان محمد معه ما يمكنه من الصمود وأنا كذلك. وقال لي: «في هذه المرحلة يزداد الأمر خطورة؛ فعندما تتفرق الحشود تصبحين أكثر عرضة للخطر».

لم تتح لي فرصة للوصول إلى ميدان «تقسيم»، أو لتلبية دعوة صديقتي؛ فلم أكن الوحيدة.. فإلى جانب المحتجين رأيت عشرات الأشخاص الذين خرجوا للتنزه ليلا، وانتهى بهم الأمر محاصرين في هذه الفوضى. الأسبوع الماضي بدت احتجاجات حديقة «جيزي» وكأنها قد انتهت، وأن الشرطة قد تعلمت من أخطائها هناك. لكني شعرت الليلة قبل الماضية بأنها لم تتعلم شيئا على الإطلاق.