المصريون يبحثون عن فرحة رمضان بعد عام من الأزمات

وضعتهم السياسة بين «سندان» اليأس و«مطرقة» الأمل

TT

«أنا مش حاسة بفرحة رمضان».. عبارة خاطفة بكل ما تحمله من أسى قالتها سيدة لصديقتها، وهما تراجعان مشترواتهما البسيطة، أمام أحد المحال الشعبية بحي بولاق بالقاهرة. وبصوت لا يخلو من إحساس بالوجع ردت عليها الصديقة: «هنعمل إيه فوضنا أمرنا لله.. يمكن الجاي (القادم) أحسن».

حال هاتين السيدتين لا يختلف كثيرا عن حال معظم السيدات المصريات، خصوصا ربات البيوت، اللائي يمثل لهن رمضان حالة من الطوارئ القصوى، حيث موائد الإفطار العامرة بصنوف الطعام والشراب، و«لمة» العائلة والأهل والأصدقاء، وما يستلزمه ذلك من ميزانيات مضاعفة ترهق كاهل غالبية الأسر.

ووسط واقع ضاغط ومأزوم سياسيا واقتصاديا وأمنيا، ومحاولات حثيثة لتصحيح مسار ثورة، بعد عامين ونصف تحولت فيها البلاد إلى قناع مستعص، متعدد الوجوه والملامح، يحاول كل فصيل سياسي الاستحواذ عليه وضبطه على مقاسه من أجل الوصول للسلطة.. هكذا يصور طارق صلاح، محاسب بأحد البنوك ويضيف: «للأسف الشديد ضيعوا فرحتنا برمضان.. ونجحوا في التخفي خلف هذا القناع، لكنهم نسوا أن النص الذي يقدمونه متكرر وهزلي وهش.. ولن يصمد أمام جمهور أصبح لا يخاف، ويمتلك وعيا مفارقا، ومقدرة على أن يحول هذا الوعي في أي لحظة إلى فعل مدهش وخلاق على الأرض، شاهدنا ذلك في ملحمة 30 يونيه الماضي ضد حكم الإخوان.. وسنشاهده مرات أخرى، حين يخرج الممثلون عن النص، ويفشلون في فهم حكمة القناع». يضيف صلاح: «أنا من عشاق المسرح، عندي مكتبة مسرحية كبيرة، وأتصور أن الحياة بالفعل مسرح والواقع كذلك».

وقبل أن أساله عن طقوس رمضان هذا العام قاطعني قائلا: «أتصور أن فرحة المصريين برمضان هذا العام ستكون شكلية، ومن باب التمسح بروائح ومظاهر الشهر الكريم. أولادي لم يفرحوا بفوانيس رمضان التي اشتريتها لهم هذا العام، أكبرهم في رابعة ابتدائي، مشاهد القتل أصبحت تحاصرهم، حتى وهم نائمون وأسئلتهم العفوية ومحاولتهم فهم ما يجري أحيانا تقلقني إلى حد البكاء، فلا يمكن لأحد أن ينسى مشاهد العنف والقتل التي سالت في الشوارع والميادين، ولا يزال الواقع المأزوم مرشحا للمزيد من العنف».

أترك صلاح عاشق المسرح ويلفتني مشهد مجموعة من الأطفال يعلقون الزينات والرايات في الشارع وهم يرددون: «وحوي يا حوي إيوحا.. ثورتنا رجعت إيوحا.. ومصر انتصرت إيوحا». عفوية الأطفال لم تخرج على نص الأغنية الرمضانية الشهيرة فحسب، بل زادت عليها.. «الإخوان بقوا بره الصورة.. وبلدنا هيه البنورة».

على مقهى شعبي بالحي نفسه يرصد الحاج عمر بسحنته السبعينية الوقورة ملامح اختفاء بهجة رمضان من عيون المصريين قائلا: «كنا ننتظر بشوق وفرح حفل الرؤية (استطلاع هلال رمضان)، وكان يحضره نائب عن رئيس الجمهورية، والمفتي وشيخ الأزهر، وكبار المسؤولين في الدولة، ويفتتح بتلاوة القرآن الكريم والأهازيج والتواشيح الدينية الجميلة. كانت خطبة المفتي تستغرق أكثر من نصف ساعة، كانت رسالة محبة وتهنئة للشعب والأمة بحلول الشهر الكريم. وكانت الشوارع تمتلئ بالفرحة، الناس كلها بتهني بعضها في محبة وسلام، أنا لي أصدقاء مسيحيون كانوا أول ناس يهنئوني بالشهر الكريم».

كلام الحاج عمر، الموظف على المعاش منذ نحو عشر سنوات يجد صداه في حركة الشارع الذي تومض فيه على خجل وفي حدود رمزية مظاهر رمضان، وسط انقسام سياسي أصبح يحول دون أن يتبادل أفراد الأسرة الواحدة التهاني بالشهر الكريم تحت وطأة انتماءاتهم السياسية الحادة.

يتابع الحاج السبعيني بنبرة آسي: «سبحان مغير الأحوال. اختفت كل مظاهر هذا الاحتفال، وطلع علينا فضيلة المفتي وحده فقط أول من أمس، وفي بيان مختصر من مكتبه لم يستغرق ثلاث دقائق، ليعلن رؤية شهر رمضان».

ثم يقلب الحاج عمر صفحات إحدى الصحف اليومية الخاصة ويواصل متبرما: «الناس تعبت، حيلها (اتهد) من المظاهرات والاحتجاجات، والأسعار أصبحت (نار)، كل يوم بتزيد، أنا لغاية دلوقتي ماحدش جاب لي إمساكية رمضان، ودي حاجة بسيطة، كانت كل الشركات والمؤسسات والمحلات تطبعها وتوزعها على الناس مجانا كتذكار للتهنئة برمضان.. حتى موائد الرحمن لا أثر لها، يبدو أنها ستقتصر على المساجد فقط.. ربنا يستر على البلد».

أودع الحي الشعبي وتطل برأسي قائمة طويلة من الأهل والأصدقاء، نسيت في زحمة هذه الأجواء أن أهنئهم بحلول الشهر الكريم. بينما تتقافز في مخيلتي صورة جماعية لوطن وضعته مفارقات السياسة بين «سندان» اليأس و«مطرقة» الأمل.